وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون قوله إن الذين يحادون الله ورسوله لما ذكر سبحانه المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين ، والمحادة : المشاقة والمعاداة والمخالفة ، ومثله قوله : إن الذين يحادون الله ورسوله قال : المحادة أن تكون في حد يخالف صاحبك ، وأصلها الممانعة ، ومنه الحديد ، ومنه الحداد للبواب الزجاج كبتوا كما كبت الذين من قبلهم أي أذلوا وأخزوا ، يقال : كبت الله فلانا إذا أذله ، والمردود بالذل يقال له مكبوت .
قال المقاتلان : أخزوا كما أخزي الذين من قبلهم من أهل الشرك ، وكذا قال قتادة .
وقال أبو عبيدة ، والأخفش : أهلكوا .
وقال ابن زيد : عذبوا .
وقال : لعنوا . السدي
وقال الفراء : أغيظوا .
والمراد بـ " من قبلهم " : كفار الأمم الماضية المعادين لرسل الله ، وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقق وقوعه ، وقيل المعنى : على المضي ، وذلك ما وقع للمشركين يوم بدر ، فإن الله كبتهم بالقتل والأسر والقهر ، وجملة وقد أنزلنا آيات بينات في محل نصب على الحال من الواو في كبتوا : أي والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله ورسله من الأمم [ ص: 1467 ] المتقدمة ، وقيل المراد الفرائض التي أنزلها الله سبحانه ، وقيل هي المعجزات " وللكافرين عذاب مهين " أي للكافرين بكل ما يجب الإيمان به ، فتدخل الآيات المذكورة هنا دخولا أوليا ، والعذاب المهين : الذي يهين صاحبه ويذله ويذهب بعزه .
" يوم يبعثهم الله جميعا " الظرف منتصب بإضمار اذكر ، أو بـ " مهين " ، أو بما تعلق به اللام من الاستقرار ، أو بـ " أحصاه " المذكور بعده ، وانتصاب جميعا على الحال : أي مجتمعين في حالة واحدة ، أو يبعثهم كلهم لا يبقى منهم أحد غير مبعوث فينبئهم بما عملوا أي يخبرهم بما عملوه في الدنيا من الأعمال القبيحة توبيخا لهم وتبكيتا ولتكميل الحجة عليهم ، وجملة أحصاه الله ونسوه مستأنفة ، جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل كيف ينبئهم بذلك على كثرته واختلاف أنواعه ، فقيل أحصاه الله جميعا ولم يفته منه شيء .
والحال أنهم قد نسوه ولم يحفظوه ، بل وجدوه حاضرا مكتوبا في صحائفهم " والله على كل شيء شهيد " لا يخفى عليه شيء من الأشياء ، بل هو مطلع وناظر .
ثم أكد سبحانه بيان كونه عالما بكل شيء . فقال : ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض أي ألم تعلم أن علمه محيط بما فيهما بحيث لا يخفى عليه شيء مما فيهما ، وجملة " ما يكون من نجوى ثلاثة " إلخ مستأنفة لتقرير شمول علمه وإحاطته بكل المعلومات .
قرأ الجمهور " يكون " بالتحتية .
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، ، والأعرج وأبو حيوة بالفوقية ، و " كان " على القراءتين تامة ، و " من " مزيدة للتأكيد ، و " نجوى " فاعل " كان " والنجوى السرار ، يقال : قوم نجوى أي : ذو نجوى وهي مصدر .
والمعنى : ما يوجد من تناجي ثلاثة أو من ذوي نجوى ، ويجوز أن تطلق النجوى على الأشخاص المتناجين ، فعلى الوجه الأول انخفاض " ثلاثة " بإضافة نجوى إليه ، وعلى الوجهين الآخرين يكون انخفاضها على البدل من " نجوى " أو الصفة لها .
قال الفراء : " ثلاثة " نعت للنجوى فانخفضت وإن شئت أضفت نجوى إليها ، ولو نصبت على إضمار فعل جاز ، وهي قراءة ويجوز رفع ثلاثة على البدل من موضع " نجوى " . ابن أبي عبلة ،
" إلا هو رابعهم " هذه الجملة في موضع نصب على الحال ، وكذا قوله : " إلا هو سادسهم " " إلا هو معهم " أي ما يوجد شيء من هذه الأشياء إلا في حال من هذه الأحوال ، فالاستثناء مفرغ من أعم الأحوال ، ومعنى " رابعهم " جاعلهم أربعة ، وكذا سادسهم جاعلهم ستة من حيث إنه يشاركهم في الاطلاع على تلك النجوى " ولا خمسة " أي ولا نجوى خمسة ، وتخصيص العددين بالذكر ؛ لأن أغلب عادات المتناجين أن يكونوا ثلاثة أو خمسة ، أو كانت الواقعة التي هي سبب النزول في متناجين كانوا ثلاثة في موضع وخمسة في موضع .
قال الفراء : العدد غير مقصود لأنه سبحانه مع كل عدد قل أو كثر يعلم السر والجهر لا تخفى عليه خافية " ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم " أي ولا أقل من العدد المذكور : كالواحد ، والاثنين ، ولا أكثر منه : كالستة والسبعة إلا هو معهم يعلم ما يتناجون به لا يخفى عليه منه شيء .
قرأ الجمهور " ولا أكثر " بالجر بالفتحة عطفا على لفظ نجوى .
وقرأ الحسن ، ، والأعمش وابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة ، ويعقوب ، وأبو العالية ، ونصر ، وعيسى بن عمر ، وسلام بالرفع عطفا على محل نجوى .
وقرأ الجمهور ولا أكثر بالمثلثة .
وقرأ ، الزهري وعكرمة بالموحدة .
قال الواحدي : قال المفسرون : إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم ، فيحزنون لذلك ، فلما طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم ، فأنزل الله هذه الآيات ، ومعنى أين ما كانوا : إحاطة علمه بكل تناج يكون منهم في أي مكان من الأمكنة ثم ينبئهم أي يخبرهم بما عملوا يوم القيامة توبيخا لهم وتبكيتا وإلزاما للحجة إن الله بكل شيء عليم لا يخفى عليه شيء كائنا ما كان .
ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه هؤلاء الذين نهوا ، ثم عادوا لما نهوا عنه هم من تقدم ذكره من المنافقين واليهود .
قال مقاتل : كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود مواعدة ، فإذا مر بهم الرجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شرا ، فنهاهم الله فلم ينتهوا ، فنزلت .
وقال ابن زيد : كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسأله الحاجة ويناجيه والأرض يومئذ حرب فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهم فيفزعون لذلك ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول قرأ الجمهور " يتناجون " بوزن يتفاعلون .
واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم لقوله فيما بعد : " إذا تناجيتم فلا تتناجوا " .
وقرأ حمزة ، وخلف ، عن وورش يعقوب " وينتجون " بوزن يفتعلون ، وهي قراءة وأصحابه ، وحكى ابن مسعود أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد نحو تخاصموا واختصموا وتقاتلوا واقتتلوا ، ومعنى الإثم ما هو إثم في نفسه كالكذب والظلم ، والعدوان ما فيه عدوان على المؤمنين ، ومعصية الرسول مخالفته . سيبويه
قرأ الجمهور " ومعصية " بالإفراد .
وقرأ الضحاك ، وحميد ، ومجاهد " ومعصيات " بالجمع " وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله " قال القرطبي : إن المراد بها اليهود كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهرا وهم يعنون الموت باطنا ، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : عليكم .
وفي رواية أخرى وعليكم .
ويقولون في أنفسهم أي فيما بينهم " لولا يعذبنا الله بما نقول " أي هلا يعذبنا بذلك ، ولو كان محمد نبيا لعذبنا بما يتضمنه قولنا من الاستخفاف به ، وقيل المعنى : لو كان نبيا لاستجيب له فينا حيث يقول وعليكم ووقع علينا الموت عند ذلك " حسبهم جهنم " عذابا " يصلونها " يدخلونها فبئس المصير أي المرجع ، وهو جهنم ياأيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول لما فرغ [ ص: 1468 ] سبحانه عن نهي اليهود والمنافقين عن النجوى أرشد المؤمنين إذا تناجوا فيما بينهم أن لا يتناجوا بما فيه إثم وعدوان ومعصية لرسول الله كما يفعله اليهود والمنافقون .
ثم بين لهم ما يتناجون به في أنديتهم وخلواتهم فقال : وتناجوا بالبر والتقوى أي بالطاعة وترك المعصية ، وقيل الخطاب للمنافقين ، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا ظاهرا أو بزعمهم ، واختار هذا وقيل الخطاب الزجاج ، لليهود ، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى ، والأول أولى ، ثم خوفهم سبحانه فقال : واتقوا الله الذي إليه تحشرون فيجزيكم بأعمالكم .
ثم بين سبحانه أن ما يفعله اليهود والمنافقون من التناجي هو من جهة الشيطان ، فقال : إنما النجوى يعني بالإثم والعدوان ومعصية الرسول " من الشيطان " لا من غيره : أي من تزيينه وتسويله " ليحزن الذين آمنوا " أي لأجل أن يوقعهم في الحزن بما يحصل لهم من التوهم أنها في مكيدة يكادون بها " وليس بضارهم شيئا " أو وليس الشيطان أو التناجي الذي يزينه الشيطان بضار المؤمنين شيئا من الضرر إلا بإذن الله أي بمشيئته ، وقيل بعلمه وعلى الله فليتوكل المؤمنون أي يكلون أمرهم إليه ويفوضونه في جميع شؤونهم ويستعيذون بالله من الشيطان ولا يبالون بما يزينه من النجوى .
وقد أخرج أحمد ، ، وعبد بن حميد ، والبزار وابن المنذر ، ، والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب - قال السيوطي بسند جيد - عن : إن ابن عمر اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : السام عليك ، يريدون بذلك شتمه ، ثم يقولون في أنفسهم : لولا يعذبنا الله بما نقول ، فنزلت هذه الآية وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله وأخرج أحمد ، ، وعبد بن حميد ، والبخاري وصححه عن والترمذي أنس أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال : السام عليكم ، فرد عليه القوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل تدرون ما قال هذا ؟ قالوا : الله أعلم ، سلم يا نبي الله ، قال : لا ، ولكنه قال كذا وكذا ردوه علي فردوه ، قال : قلت السام عليكم ؟ قال : نعم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك : إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب ، فقولوا عليك ، قال : عليك ما قلت
قال : " وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله " وأخرج ، البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : عائشة : عليكم السام واللعنة ، فقال : يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا المتفحش ، قلت : ألا تسمعهم يقولون السام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوما سمعتني أقول وعليكم ، فأنزل الله وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله وأخرج دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود ، فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم ، فقالت ، ابن أبي حاتم وابن مردويه عن في هذه الآية قال : كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حيوه : سام عليك فنزلت . ابن عباس
وأخرج ابن مردويه عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية وأغزاها التقى المنافقون فأنغضوا رؤوسهم إلى المسلمين ويقولون قتل القوم ، وإذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تناجوا وأظهروا الحزن ، فبلغ ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ومن المسلمين ، فأنزل الله : ياأيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول الآية .
وأخرج ، البخاري ومسلم وغيرهما عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن مسعود . إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث ، فإن ذلك يحزنه
وأخرج ، ابن أبي حاتم وابن مردويه أبي سعيد قال : كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرقه أمر أو يأمر بشيء فكثر أهل النوب والمحتسبون ليلة حتى إذا كنا أنداء نتحدث ، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فقال : ما هذه النجوى ؟ ألم تنهوا عن النجوى ؟ قلنا : يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيح فرقا منه ، فقال : ألا أخبركم مما هو أخوف عليكم عندي منه ؟ قلنا : بلى يا رسول الله . قال : الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل . عن
قال ابن كثير : هذا إسناد غريب ، وفيه بعض الضعفاء .