لما ذكر سبحانه العرض ذكر ما يكون فيه ، فقال : فأما من أوتي كتابه بيمينه أي : أعطي كتابه الذي كتبته الحفظة عليه من أعماله فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه يقول ذلك سرورا وابتهاجا .
قال ، ابن السكيت : العرب تقول : ها يا رجل ، وللاثنين هاؤما يا رجلان ، وللجمع هاؤم يا رجال ، قيل : والأصل هاؤكم ، فأبدلت الهمزة من الكاف ، قال والكسائي ابن زيد : ومعنى هاؤم تعالوا .
وقال مقاتل : هلم ، وقيل : خذوا ، فهي اسم فعل ، وقد يكون فعلا صريحا لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها ، وفيها ثلاث لغات كما هو معروف في علم الإعراب ، وقوله : كتابيه معمول لقوله : اقرءوا لأنه أقرب الفعلين ، ومعمول " هاؤم " محذوف يدل عليه معمول " اقرءوا " والتقدير : هاؤم كتابيه اقرءوا كتابيه ، والهاء في كتابيه وحسابيه وسلطانيه وماليه هي هاء السكت .
قرأ الجمهور في هذه بإثبات الهاء وقفا ووصلا مطابقة لرسم المصحف ، ولولا ذلك لحذفت في الوصل كما هو شأن هاء السكت ، واختار أبو عبيد أن يتعمد الوقف عليها ليوافق اللغة [ ص: 1526 ] في إلحاق الهاء في السكت ويوافق الخط ، يعني خط المصحف .
وقرأ ابن محيصن ، وابن أبي إسحاق ، وحميد ، ومجاهد ، ، والأعمش ويعقوب بحذفها وصلا وإثباتها وقفا في جميع هذه الألفاظ .
ورويت هذه القراءة عن حمزة ، واختار أبو حاتم هذه القراءة اتباعا للغة .
وروي عن ابن محيصن أنه قرأ بحذفها وصلا ووقفا .
إني ظننت أني ملاق حسابيه أي : علمت وأيقنت في الدنيا أني أحاسب في الآخرة ، وقيل : المعنى : إني ظننت أن يأخذني الله بسيئاتي فقد تفضل علي بعفوه ولم يؤاخذني .
قال الضحاك : كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين ، ومن الكافر فهو شك .
قال مجاهد : ظن الآخرة يقين ، وظن الدنيا شك .
قال الحسن في هذه الآية : إن المؤمن أحسن الظن بربه ، فأحسن العمل للآخرة ، وإن الكافر أساء الظن بربه فأساء العمل .
قيل : والتعبير بالظن هنا للإشعار بأنه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات التي لا تنفك عنها العلوم النظرية غالبا .
فهو في عيشة راضية أي في عيشة مرضية لا مكروهة ، أو ذات رضا ، أي يرضى بها صاحبها .
قال أبو عبيدة ، : راضية أي : مرضية كقوله : والفراء ماء دافق [ الطارق : 6 ] أي مدفوق فقد أسند إلى العيشة ما هو لصاحبها ، فكان ذلك من المجاز في الإسناد .
في جنة عالية أي : مرتفعة المكان لأنها في السماء ، أو مرتفعة المنازل ، أو عظيمة في النفوس .
قطوفها دانية القطوف : جمع قطف بكسر القاف ما يقطف من الثمار ، والقطف بالفتح المصدر ، والقطاف بالفتح والكسر وقت القطف ، والمعنى : أن ثمارها قريبة ممن يتناولها من قائم أو قاعد أو مضطجع .
كلوا واشربوا أي يقال لهم كلوا واشربوا في الجنة هنيئا أي أكلا وشربا هنيئا لا تكدير فيه ولا تنغيص بما أسلفتم في الأيام الخالية أي بسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الدنيا .
وقال مجاهد : هي أيام الصيام وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول حزنا وكربا لما رأى فيه من سيئاته .
ياليتني لم أوت كتابيه أي : لم أعط كتابيه .
ولم أدر ما حسابيه أي : لم أدر أي شيء حسابي لأن كله عليه .
يا ليتها كانت القاضية أي : ليت الموتة التي متها كانت القاضية ولم أحي بعدها ، ومعنى : القاضية القاطعة للحياة ، والمعنى : أنه تمنى دوام الموت وعدم البعث لما شاهد من سوء عمله وما يصير إليه من العذاب ، فالضمير في ليتها يعود إلى الموتة التي قد كان ماتها وإن لم تكن مذكورة ، لأنها لظهورها كانت كالمذكورة .
قال قتادة : تمنى الموت ولم يكن في الدنيا شيء عنده أكره منه ، وشر من الموت ما يطلب منه الموت .
وقيل : الضمير يعود إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب ، والمعنى : يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت علي .
ما أغنى عني ماليه أي : لم يدفع عني من عذاب الله شيئا على أن ما نافية أو استفهامية ، والمعنى : أي شيء أغنى عني مالي .
هلك عني سلطانيه أي : هلكت عني حجتي وضلت عني ، كذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، والضحاك .
وقال ابن زيد : يعني سلطاني الذي في الدنيا ، وهو الملك ، وقيل : تسلطي على جوارحي .
قال مقاتل : يعني حين شهدت عليه الجوارح بالشرك .
وحينئذ يقول الله عز وجل : خذوه فغلوه أي اجمعوا يده إلى عنقه بالأغلال .
ثم الجحيم صلوه أي : أدخلوه الجحيم ، والمعنى : لا تصلوه إلا الجحيم ، وهي النار العظيمة .
ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه السلسلة حلق منتظمة ، وذرعها طولها .
قال الحسن : الله أعلم بأي ذراع هو .
قال نوف الشامي : كل ذراع سبعون باعا كل باع أبعد مما بينك وبين مكة ، وكان نوف في رحبة الكوفة .
قال مقاتل : لو أن حلقة منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص ، ومعنى فاسلكوه فاجعلوه فيها ، يقال سلكته الطريق إذا أدخلته فيه .
قال سفيان : بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج من فيه .
قال الكلبي : تسلك سلك الخيط في اللؤلؤ .
وقال سويد بن أبي نجيح : بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة ، وتقديم السلسلة للدلالة على الاختصاص كتقديم الجحيم .
وجملة إنه كان لا يؤمن بالله العظيم تعليل لما قبلها .
ولا يحض على طعام المسكين أي : لا يحث على إطعام المسكين من ماله ، أو لا يحث الغير على إطعامه ، ووضع الطعام موضع الإطعام كما يوضع العطاء موضع الإعطاء كما قال الشاعر :
أكفرا بعد رد موتي عني وبعد عطائك المال الرعابا
أي بعد إعطائك ، ويجوز أن يكون الطعام على معناه غير موضوع موضع المصدر ، والمعنى : أنه لا يحث نفسه أو غيره على بذل نفس طعام المسكين ، وفي جعل هذا قرينا لترك الإيمان بالله من الترغيب في التصدق على المساكين وسد فاقتهم ، وحث النفس والناس على ذلك ما يدل أبلغ دلالة ويفيد أكمل فائدة على أن منعهم من أعظم الجرائم وأشد المآثم .فليس له اليوم هاهنا حميم أي : ليس له يوم القيامة في الآخرة قريب ينفعه أو يشفع له لأنه يوم يفر فيه القريب من قريبه ، ويهرب عنده الحبيب من حبيبه .
ولا طعام إلا من غسلين أي : وليس له طعام يأكله إلا من صديد أهل النار ، وما ينغسل من أبدانهم من القيح والصديد ، وغسلين فعلين من الغسل .
وقال الضحاك ، : هو شجر يأكله أهل النار . والربيع بن أنس
وقال قتادة : هو شر الطعام .
وقال ابن زيد : لا يعلم ما هو ولا ما الزقوم إلا الله تعالى .
وقال سبحانه في موضع آخر : ليس لهم طعام إلا من ضريع [ الغاشية : 6 ] فيجوز أن يكون الضريع هو الغسلين ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى فليس له اليوم هاهنا حميم إلا من غسلين على أن الحميم هو الماء الحار ولا طعام أي ليس لهم طعام يأكلونه .
ولا ملجئ لهذا التقديم والتأخير .
وجملة لا يأكله إلا الخاطئون صفة لغسلين ، والمراد أصحاب الخطايا وأرباب الذنوب .
قال الكلبي : المراد الشرك .
قرأ الجمهور الخاطئون مهموزا ، وهو [ ص: 1527 ] اسم فاعل من خطئ إذا فعل غير الصواب متعمدا ، والمخطئ من يفعله غير متعمد .
وقرأ ، الزهري ، وطلحة بن مصرف والحسن " الخاطيون " بياء مضمومة بدل الهمزة .
وقرأ نافع في رواية عنه بضم الطاء بدون همزة .
فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون هذا رد لكلام المشركين كأنه قال : ليس الأمر كما تقولون و " لا " زائدة ، والتقدير : فأقسم بما تشاهدونه وما لا تشاهدونه .
قال قتادة : أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر ، فيدخل في هذا جميع المخلوقات ، وقيل : إن " لا " ليست زائدة ، بل هي لنفي القسم ، أي : لا أحتاج إلى قسم لوضوح الحق في ذلك ، والأول أولى .
إنه لقول رسول كريم أي : إن القرآن لتلاوة رسول كريم ، على أن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، أو أنه لقول يبلغه رسول كريم .
قال الحسن ، والكلبي ، ومقاتل : يريد به جبريل ، ودليله قوله : إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين [ التكوير : 20 ، 19 ] وعلى كل حال فالقرآن ليس من قول محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا من قول جبريل عليه السلام ، بل هو قول الله فلا بد من تقدير التلاوة أو التبليغ .
وما هو بقول شاعر كما تزعمون لأنه ليس من أصناف الشعر ولا مشابه له قليلا ما تؤمنون أي إيمانا قليلا تؤمنون ، وتصديقا يسيرا تصدقون ، و " ما " زائدة .
ولا بقول كاهن كما تزعمون ، فإن الكهانة أمر آخر لا جامع بينها وبين هذا قليلا ما تذكرون أي : تذكرا قليلا ، أو زمانا قليلا تتذكرون ، و " ما " زائدة ، والقلة في الموضعين بمعنى النفي ، أي : لا تؤمنون ولا تتذكرون أصلا .
تنزيل من رب العالمين قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو تنزيل .
وقرأ أبو السماك بالنصب على المصدرية بإضمار فعل ، أي : نزل تنزيلا ، والمعنى : إنه لقول رسول كريم ، وهو تنزيل من رب العالمين على لسانه .
ولو تقول علينا بعض الأقاويل أي : ولو تقول ذلك الرسول ، وهو محمد ، أو جبريل على ما تقدم ، والتقول تكلف القول ، والمعنى : لو تكلف ذلك وجاء به من جهة نفسه ، وسمي الافتراء تقولا لأنه قول متكلف ، وكل كاذب يتكلف ما يكذب به .
قرأ الجمهور تقول مبنيا للفاعل .
وقرئ مبنيا للمفعول مع رفع بعض .
وقرأ ابن ذكوان " ولو يقول " على صيغة المضارع ، والأقاويل جمع أقوال ، والأقوال جمع قول .
لأخذنا منه باليمين أي : بيده اليمين ، قال : إن هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب . ابن جرير
وقال الفراء ، ، والمبرد ، والزجاج وابن قتيبة لأخذنا منه باليمين أي : بالقوة والقدرة .
قال ابن قتيبة : وإنما أقام اليمين مقام القوة ؛ لأن قوة كل شيء في ميامنه ، ومن هذا قول الشاعر :
إذا ما راية نصبت لمجد تلقاها عرابة باليمين
ولما رأيت الشمس أشرق نورها تناولت منها حاجتي بيميني
قال الواحدي : والمفسرون يقولون إنه نياط القلب . انتهى ، ومن هذا قول الشاعر :
إذا بلغتني وحملت رحلي عرابة فاشرقي بدم الوتين
وإنه لتذكرة للمتقين أي : إن القرآن لتذكرة لأهل التقوى لأنهم المنتفعون به .
وإنا لنعلم أن منكم مكذبين أي : أن بعضكم يكذب بالقرآن فنحن نجازيهم على ذلك ، وفي هذا وعيد شديد .
وإنه لحسرة على الكافرين أي : وإن عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين ، وقيل : هي حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله . القرآن لحسرة وندامة على الكافرين يوم القيامة
وإنه لحق اليقين أي : وإن القرآن لكونه من عند الله حق فلا يحول حوله ريب ولا يتطرق إليه شك .
فسبح باسم ربك العظيم أي : نزهه عما لا يليق به ، وقيل : فصل لربك ، والأول أولى .
وقد أخرج عن ابن جرير في قوله : ابن عباس إني ظننت قال : أيقنت .
وأخرج ، سعيد بن منصور عن وابن أبي حاتم البراء بن عازب قطوفها دانية قال : قريبة .
وأخرج ، ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد وابن المنذر عن البراء في الآية قال : يتناول الرجل من فواكهها وهو قائم .
وأخرج ، ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن في قوله : ابن عباس فاسلكوه قال : السلسلة تدخل في استه ثم تخرج من فيه ، ثم ينظمون فيه كما ينظم الجراد في العود ثم يشوى .
وأخرج أبو عبيد ، ، وعبد بن حميد وابن المنذر عن قال : إن لله سلسلة لم تزل تغلي منها مراجل النار منذ خلق الله جهنم إلى يوم تلقى في أعناق الناس ، وقد نجانا الله من نصفها بإيماننا بالله العظيم ، فحضي على طعام المسكين يا أبي الدرداء . أم الدرداء
وأخرج ، عبد بن حميد وابن المنذر ، من طريق وابن أبي حاتم عكرمة عن قال : الغسلين الدم والماء والصديد الذي يسيل من لحومهم . ابن عباس
وأخرج الحاكم وصححه عن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبي سعيد الخدري . لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا
وأخرج ابن المنذر عن قال : الغسلين اسم طعام من أطعمة أهل النار . ابن عباس
وأخرج عنه ابن جرير فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون يقول : بما ترون وما لا ترون .
وأخرج ، عبد بن حميد وابن المنذر عن في قوله : ابن عباس لأخذنا منه باليمين قال : بقدرة .
وأخرج ، عبد بن حميد وابن المنذر عنه قال : الوتين عرق القلب .
وأخرج ، الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن [ ص: 1528 ] المنذر ، ، وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضا قال : الوتين نياط القلب .
وأخرج ابن المنذر ، والحاكم وصححه عنه أيضا قال : هو حبل القلب الذي في الظهر .