قوله : قتال فيه هو بدل اشتمال ، قاله سيبويه .
ووجهه أن السؤال عن الشهر لم يكن إلا باعتبار ما وقع فيه من القتال .
قال : المعنى يسألونك عن الزجاج ، وأنشد القتال في الشهر الحرام قول الشاعر : سيبويه
فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
فقوله هلكه اشتمال من قيس ، وقال الفراء : هو مخفوض ، يعني : قوله : قتال فيه على نية عن وقال أبو عبيدة : هو مخفوض على الجوار .قال النحاس : لا يجوز أن يعرب الشيء على الجوار في كتاب الله ولا في شيء من الكلام ، وإنما وقع في شيء شاذ ، وهو قولهم : هذا جحر ضب خرب .
وتابع النحاس ابن عطية في تخطئة أبي عبيدة .
قال النحاس : ولا يجوز إضمار عن ، والقول فيه إنه بدل .
وقرأ ابن مسعود وعكرمة : " يسألونك عن الشهر الحرام وعن قتال فيه " .
وقرأ " قتال فيه " بالرفع . الأعرج
قال النحاس وهو غامض في العربية ، والمعنى : يسألونك عن الشهر الحرام جائز قتال فيه .
وقوله : قل قتال فيه كبير مبتدأ وخبر ، أي القتال فيه أمر كبير مستنكر ، والشهر الحرام : المراد به الجنس .
وقد كانت العرب لا تسفك فيه دما ولا تغير على عدو ، هي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، ورجب ، ثلاثة سرد وواحد فرد . والأشهر الحرم
وقوله : وصد عن سبيل الله مبتدأ .
وقوله : وكفر به معطوف على صد .
وقوله : والمسجد الحرام عطف على سبيل الله .
وقوله : وإخراج أهله منه معطوف أيضا على صد .
وقوله : أكبر عند الله خبر صد وما عطف عليه : أي الصد عن سبيل الله ، والكفر به والصد عن المسجد الحرام ، وإخراج أهل الحرم منه أكبر عند الله أي أعظم إثما وأشد ذنبا من القتال في الشهر الحرام كذا قال المبرد وغيره ، والضمير في قوله : وكفر به يعود إلى الله ، وقيل : يعود إلى الحج .
وقال الفراء : إن قوله : وصد عطف على كبير ، والمسجد عطف على الضمير في قوله : وكفر به فيكون الكلام منتسقا متصلا غير منفصل .
قال ابن عطية : وذلك خطأ لأن المعنى يسوق إلى أن قوله : وكفر به أي بالله عطف أيضا على كبير ، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر بالله ، وهذا بين فساده .
ومعنى الآية على القول الأول الذي ذهب إليه الجمهور : أنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام ، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ومن الكفر بالله ، ومن الصد عن المسجد الحرام ، ومن إخراج أهل الحرم منه أكبر جرما عند الله .
والسبب يشهد لهذا المعنى ، ويفيد أنه المراد كما سيأتي بيانه ، فإن السؤال منهم المذكور في هذه الآية هو سؤال إنكار لما وقع من السرية التي بعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
والمراد بالفتنة هنا الكفر : أي كفركم أكبر من القتل الواقع من السرية التي بعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقيل : المراد بالفتنة : الإخراج لأهل الحرم منه ، وقيل : المراد بالفتنة هنا فتنتهم عن دينهم حتى يهلكوا ، أي فتنة المستضعفين من المؤمنين ، أو نفس الفتنة التي الكفار عليها .
وهذا أرجح من الوجهين الأولين ؛ لأن الكفر والإخراج قد سبق ذكرهما وأنهما مع الصد أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام .
وقوله : ولا يزالون ابتداء كلام يتضمن الإخبار من الله عز وجل للمؤمنين بأن هؤلاء الكفار لا يزالون مستمرين على قتالكم وعداوتكم حتى يردوكم عن الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا ذلك وتهيأ لهم منكم ، والتقييد بهذا الشرط مشعر باستبعاد تمكنهم من ذلك وقدرتهم عليه ، ثم حذر الله سبحانه المؤمنين من الاغترار بالكفار والدخول فيما يريدونه من ردهم عن دينهم الذي هو الغاية لما يريدونه من المقاتلة للمؤمنين فقال : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم إلى آخر الآية .
، والتقييد بقوله : والردة : الرجوع عن الإسلام إلى الكفر فيمت وهو كافر يفيد أن عمل من ارتد إنما يبطل إذا مات على الكفر .
وحبط : معناه بطل وفسد ، ومنه الحبط وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها للكلأ فتنتفخ أجوافها ، وربما تموت من ذلك ، وفي هذه الآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام .
ومعنى قوله : في الدنيا والآخرة أنه لا يبقى له حكم المسلمين في الدنيا ، فلا يأخذ شيئا مما يستحقه المسلمون ، ولا يظفر بحظ من حظوظ الإسلام ، ولا ينال شيئا من ثواب الآخرة الذي يوجبه الإسلام ويستحقه أهله .
وقد اختلف أهل العلم في ، والواجب حمل ما أطلقته الآيات في غير هذا الموضع على ما في هذه الآية [ ص: 141 ] من التقييد . الردة هل تحبط العمل بمجردها أم لا تحبط إلا بالموت على الكفر
وقد تقدم الكلام في معنى الخلود .
قوله : وهاجروا الهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع ، وترك الأول لإيثار الثاني ، والهجر ضد الوصل ، والتهاجر : التقاطع والمراد بها هنا الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام .
والمجاهدة : استخراج الجهد ، جهد مجاهدة وجهادا ، والجهاد والتجاهد : بذل الوسع .
وقوله : يرجون معناه يطمعون ، وإنما قال : يرجون بعد تلك الأوصاف المادحة التي وصفهم بها ، لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ، ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ .
والرجاء الأمل ، يقال : رجوت فلانا أرجوه رجاء ورجاوة .
وقد يكون الرجاء بمعنى الخوف كما في قوله تعالى : ما لكم لا ترجون لله وقارا [ نوح : 13 ] أي لا تخافون عظمة الله .
وقد أخرج وابن المنذر ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في سننه بسند صحيح عن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جندب بن عبد الله أو أبا عبيدة بن الجراح ، فلما ذهب لينطلق بكى شوقا وصبابة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فجلس فبعث مكانه عبيدة بن الحارث عبد الله بن جحش وكتب له كتابا وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا وقال : لا تكرهن أحدا من أصحابك على المسير معك ، فلما قرأ الكتاب استرجع وقال : سمعا وطاعة لله ولرسوله ، فخبرهم الخبر ، وقرأ عليهم الكتاب فرجع رجلان ومضى بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو جمادى ، فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام ، فأنزل الله : يسألونك عن الشهر الحرام الآية ، فقال بعضهم : إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر ، فأنزل الله إن الذين آمنوا والذين هاجروا إلى آخر الآية . أنه بعث رهطا وبعث عليهم
وأخرج البزار عن أن سبب نزول الآية هو ذلك . ابن عباس
وأخرج ابن جرير عنه قال : إن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وردوه عن المسجد الحرام في شهر حرام ، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل ، فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القتال في شهر حرام . وابن أبي حاتم
فقال الله : قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال فيه ، وأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية ، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى وأول ليلة من رجب ، وإن أصحاب محمد كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى ، وكانت أول رجب ولم يشعروا فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه ، وأن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك ، فنزلت الآية .
وأخرج عنه : أن سبب نزول الآية مصاب ابن إسحاق عمرو بن الحضرمي .
وقد ورد من طرق كثيرة في تعيين السبب مثل ما تقدم وأخرج ابن أبي داود عن عطاء بن ميسرة قال : أحل القتال في الشهر الحرام في " براءة " في قوله : فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة [ التوبة : 36 ] .
وأخرج عن ابن أبي حاتم أنه سئل عن هذه الآية فقال : هذا شيء منسوخ ، ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام . سفيان الثوري
وأخرج النحاس في ناسخه عن أن هذه الآية منسوخة بآية السيف في " براءة " ابن عباس فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ التوبة : 5 ] .
وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر والفتنة أكبر من القتل قال : الشرك .
وأخرج عبد بن حميد عن وابن جرير مجاهد ولا يزالون يقاتلونكم قال : كفار قريش .
وأخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : الربيع بن أنس أولئك يرجون رحمة الله قال : هؤلاء خيار هذه الأمة جعلهم الله أهل رجاء ، إنه من رجا طلب ، ومن خاف هرب .
وأخرج عن عبد بن حميد قتادة نحوه .