مسألة : قال الشافعي ، رحمه الله تعالى : " وليس لأحد أن يقصر ، ولا يمسح مسح المسافر ، فإن فعل أعاد ولا تخفيف على من سفره في معصية " . سافر في معصية
قال الماوردي : وهذا كما قال : إذا سافر منشئا لسفر في معصية الله سبحانه كقطع الطريق ، وإخافة السبيل ، والسعي بالفساد ، أو خرج باغيا على مسلم ، أو معاهد ، أو أبقا من شدة ، أو هاربا من حق لزمه وهو قادر على بذله إلى غير ذلك من معاصي الله سبحانه ، فليس له أن يترخص بشيء من رخص السفر بحال .
قال : لا يقصر من صلاته ، ولا يفطر في صيامه ، ولا يمسح ثلاثا على خفه ، ولا يتنفل على الراحلة حيث ما توجهت ، ولا يأكل الميتة إن خاف على نفسه . وبه قال مالك ، وأحمد ، وقال أبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، والمزني : العاصي في سفره كالطائع في استباحة الرخص تعلقا بقوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ النساء : 101 ] . فكان على عمومه في كل هارب من طائع ، أو عاص ، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم : قالوا : ولأن كل صلاة جاز الاقتصار فيها على ركعتين استوى في فعلها الطائع ، والعاصي كالجمعة ، والصبح . إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة
قالوا : ولأن للمقيم رخصة وللمسافر رخصة فلو منعت المعصية من رخصة المسافر لمنعت من رخصة المقيم ، فلما جاز للمقيم أن يترخص أيضا ، وإن كان عاصيا ، جاز للمسافر أن يترخص أيضا وإن كان عاصيا ، وقالوا : ولأنه لو أنشأ سفرا في طاعة من حج ، أو جهاد ، ثم جعله معصية لسعيه بالفساد جاز أن يستبيح رخص السفر ، كذلك إذا أنشأ سفره عاصيا .
وتحريره قياسا أن يقول : لأنه مسافر فجاز أن يستبيح الرخص مع المعصية كما لو طرأت المعصية في سفره قالوا : ولأنه لما جاز للعاصي أن يتيمم في سفره إجماعا ، ولم تمنعه المعصية من التيمم كذلك لا تمنعه من سائر الرخص كالقصر وغيره .
[ ص: 388 ] قالوا : ولأن المعصية لو منعته من أكل الميتة عند الضرورة في سفره لاستباح بالمعصية قتل نفسه : لأنه إذا امتنع من أكلها أفضى به الجوع إلى التلف ، وقتل النفس محرم عليه لقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم [ النساء : 29 ] . ولأن معصيته لما لم تبح له قتل غيره لم تبح له قتل نفسه .
والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم [ المائدة : 3 ] . فأطلق تحريم الميتة عموما ، ثم استثنى من جملة التحريم مضطرا ليس بعاص فقال تعالى : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم [ المائدة : 3 ] . أي غير مرتكب لمعصية ، فإن الله غفور رحيم .
فوجب أن يكون العاصي المضطر كالطائع الذي ليس بمضطر في تحريم الميتة عليهما لعموم التحريم .
وقال سبحانه : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم [ البقرة : 173 ] . فحرم الميتة تحريما عاما ، واستثنى منه مضطرا غير باغ ولا عاد ، قال الشافعي : غير باغ على الإمام ، ولا عاد على المسلمين ، فإن قيل : إنما أراد بقوله تعالى : غير متجانف لإثم [ المائدة : 3 ] . أي : غير مرتكب لتناول ما زاد على سد رمقه ، وبقوله : " غير باغ " أي غير طالب لأكل ما لا حاجة له إليه ، وبقوله : ولا عاد ، أي : لا متعمد فيها بعد سد رمقه .
قيل عن هذا جوابان :
أحدهما : استعماله في الأمرين ، وحمل على العموم في الموضعين .
والجواب الثاني : وهو المرضي أن هذا التأويل لا يصح لأن الله تعالى أباح الميتة لمضطر غير باغ ، ولا عاد ، فلم يجز حمله على من زاد على سد رمقه ، لأنه غير مضطر ، والإباحة لمضطر على حق ، فعلم أن المراد بها عدم المعصية .
ومن الدليل على ما ذكرنا : هو أن رخص السفر متعلقة بالسفر ، ومنوطة به ، فلما كان سفر المعصية ممنوعا منه لأجل المعصية وجب أن يكون ما تعلق به من الرخص ممنوعا منه لأجل المعصية .
فإن قيل : هذا باطل بما إذا جرح نفسه فعجزه عن القيام ، يجوز له أن يصلي قاعدا ، وإن كان الجرح معصية ، وكذلك ، فإنه تسقط عنها الصلاة في مدة النفاس وإن كان الضرب معصية ، قلنا : جواز القعود إنما يتعلق بالعجز عن القيام ، والعجز في نفسه غير معصية ، وإنما هو متولد عن الضرب الذي هو معصية ، وكذلك الصلاة إنما تسقط بوجود النفاس وليس النفاس معصية ، وإنما هو متولد عن الإسقاط الحادث عن سبب هو معصية ، فلذلك ما جوزناه ، وسبب هذه الرخص هو السفر لا غير وهو في نفسه [ ص: 389 ] معصية لأن السفر حركاته التي هو عليها معاقب فلم يجز أن يجلب التخفيف والرخص ، ولأن ما يتعلق بالسفر من رخصة تخفيف من الله سبحانه على عباده لما يلحقهم من المشقة فيه ليكون ذلك معونة لهم وقوة على سفرهم ، والعاصي لا يستحق المعونة فلم يجز أن يستبيح الرخصة ، ولأنه لما كان سفر المعصية مانعا من صلاة الخوف لأجل المعصية وجب أن يكون مانعا من سائر الرخص لأجل المعصية ، وتحريره قياسا أن السبب المحظور لا يسقط شيئا من فرض الصلاة كالخوف المرأة إذا ضربت بطنها فألقت ما فيه ، ولأن الرخص إذا استبيحت بشرط ، وكان الشرط مردودا بالشرع صار مفقودا كالمطلقة ثلاثا لما شرط في عودها إلى الأول نكاح زوج ثان ، ثم كان نكاح الزوج الثاني لورود الشرع بفساده كان وجوده كعدمه في تحريمها على الأول ، كذلك القصر لما كان مشروطا بالسفر وكان سفره لمعصية مردودا بالشرع صار كالمعدوم ، وإذا عدم السفر حرمت الرخصة . بالقتال المحظور لا يبيح صلاة شدة الخوف
فأما تعلقهم بالآية والخبر فأدلتنا مخصصة لهما ، وأما قياسهم على الجمعة والصبح فوصف العلة غير موجود في الأصل عندنا ، وفي الأصل والفرع عندهم ، على أن المعنى في الجمعة وفي الصبح أن الاقتصار فيهما على ركعتين لا يختص بسبب من جهته فلا يقع الفرق بينهما من طاعته ، ومعصيته ، ولما كانت رخص السفر بسبب حادث من جهته ، وهو السفر وقع الفرق فيه بين طاعته ومعصيته فاستباح الرخص مع الطاعة ومنع منها مع المعصية ، وأما جمعهم بين معصية المقيم ، والمسافر في جواز استباحة الرخص ، فقد كان أبو سعيد الاصطخري يمنع المقيم منها كما يمنع المسافر ويجمع بينهما في حظر الرخص عليهما ، فعلى هذا بطل استدلالهم به ، وذهب سائر أصحابنا إلى أن بخلاف المسافر . المقيم يجوز له أن يترخص وإن كان عاصيا
والفرق بينهما أن الإقامة نفسها ليست معصية : لأنها كف وإنما الفعل الذي توقعه في الإقامة معصية ، فلما لم تكن الإقامة معصية لم تمنع الرخص ، والسفر في نفسه معصية ، لأنه فعل ، وحركة يتوصل بها إلى المعاصي فكانت معصية ، وإذا كان السفر معصية لم يجز أن يبيح الرخص .
فإن قيل : قد تكون نفس الإقامة معصية وهو أن ينوي الإقامة لزنا ، أو قتل إنسان .
قيل : لا تكون الإقامة معصية ، وإنما المعصية هو العزم على الفعل ، وما نواه من الرق ، والقتل ، ألا تراه يعاقب على عزمه ، ولا يعاقب على نية مقامه ، والسفر حركات هو عليها معاقب ، فعلم أن السفر معصية ، والإقامة ليست بمعصية .
وأما الجواب عمن أحدث المعصية في سفره ، وقد أنشأه طائعا فليس للشافعي فيه نص ، ولأصحابنا فيه وجهان :
[ ص: 390 ] أحدهما : وهو قول أبي القاسم الداركي وعزاه لأصحابنا : لا يجوز له أن يترخص كالمنشئ لسفره في معصية فعلى هذا سقط استدلالهم به .
والوجه الثاني : وهو قول عامة أصحابنا : يجوز أن يترخص لأن الذي جلب له هذه الرخص إحداث السفر ، وإحداثه لم يكن معصية ، وفي مسألتنا إحداثه معصية فافترقا في استباحة الرخص .
وأما ما ذكره من التيمم فلا يختلف مذهبنا في جواز التيمم ، ولكن هل يلزمه إعادة الصلاة أم لا ؟ على وجهين :
أحدهما : يعيد ، فعلى هذا لا تخفيف .
والثاني : لا إعادة عليه ، والفرق بينه وبين سائر الرخص أن الرخص يخير بين فعلها وتركها ، والتيمم واجب عليه ، وليس له الخيار بين تركه ، وفعله ، وإن تركه كان عاصيا بتركه ، ولو ترك الرخصة لم يكن عاصيا بتركها فافترقا .
وأما قولهم : إن في منع المضطر العاصي من أكل الميتة إتلاف نفسه ، وحراسة نفسه واجب ، قلنا : إذا اضطر إلى أكلها وهو عاص وجب عليه أكلها لإحياء نفسه غير أنه لا يجوز أن يأكل إلا بعد إحداث التوبة ، كما أن من دخل عليه وقت الصلاة ، وهو محدث فقد وجب عليه فعل الصلاة ، غير أنه لا يجوز له فعلها محدثا إلا بعد الطهارة لأنه قادر عليها كما أن المضطر العاصي قادر على التوبة .
فإذا ثبت أن كلها ، ففي جواز مسحه على خفه يوما وليلة وجهان : العاصي ممنوع في سفره من رخص السفر
أحدهما : يجوز لأنه ممنوع من رخص السفر ، والمسح يوما وليلة رخصة للمقيم ، والوجه الثاني : لا يجوز أن يمسح على خفيه أصلا ، لأنه عاص في سفره فلم يجز أن يترخص .
وليس من حيث كان للمقيم أن يفعل ما يدل على أن له أن يفعله ، ألا ترى أن المضطر يأكل الميتة ، وهو مقيم ، ثم إنه لا يدل على أنه يأكلها مسافرا عاصيا بسفره .