فصل : فإذا تقرر ما ذكرنا في هذه المقدمة ، فصورة مسألتنا هذه ، فلا يخلو حاله في ذلك من أربعة أقسام : أن يحلف ليأكلن هذا الطعام غدا ، أو ليركبن هذه الدابة غدا ، أو ليلبسن هذا الثوب غدا
أحدها : أن يفعل ذلك في وقته .
والثاني : أن يقدمه على وقته .
والثالث : أن يؤخره عن وقته .
والرابع : أن يفوته فعله في وقته .
فأما القسم الأول : وهو أن يفعل ذلك في وقته ، وهو أن يأكل الطعام في غده ، ويركب الدابة ، ويلبس فيه الثوب ، فقد بر في يمينه إذا جعل ذلك ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس ؛ لأن الغد هو يوم يستوعب ما بين طلوع فجره وغروب شمسه ، وليس ما قبل طلوع الفجر وبعد غروب الشمس من الغد ولا هما وقت البر .
وأما القسم الثاني : وهو أن يقدم فعل ذلك قبل وقته ، فهو أن يأكل الطعام في يومه ، ويركب فيه الدابة ، ويلبس فيه الثوب ، فلا يبر بذلك عند الشافعي ، ويحنث بالاقتصار على فعله فيه .
وقال مالك وأبو حنيفة : يبر ولا يحنث ؛ لأن مقصود يمينه أن لا يؤخر فعل ذلك عن غده ، وهو في التقديم غير مؤخر له ، فبر فيه .
ودليلنا هو أن البر مقيد بزمان ، فوجب أن يكون شرطا فيه كالمقيد بالمكان ؛ ولأنه لما كان تقديم المكان كتأخيره وجب أن يكون تقديم الزمان كتأخيره ، وإذا لم يبر بفعل [ ص: 369 ] ذلك في يومه ، فإن كان طعاما قد أكله حنث ، إذ لا سبيل له أن يأكله في غده إلا أن حنثه لا يقع إلا في غده ، وهل يتعلق حنثه بطلوع فجره أو بغروب شمسه ، على وجهين :
أحدهما : يحنث بطلوع فجره ؛ لأنه أول وقت البر فيما فات ، فأشبه الصلاة التي يكون خروج وقتها دليلا على وجوبها بأوله .
والوجه الثاني : أنه يحنث بغروب شمسه لبقاء زمان البر قبل الغروب ، فلم يتعلق به حكم الفوات كأوله ، فأما إن كان المحلوف عليه دابة إن ركبها في غده أو ثوبا يلبسه فيه لم يحنث بركوب الدابة ولبس الثوب في يومه ، لإمكان ذلك في غده ، فإن ركب وليس في غده فيما بين طلوع فجره وغروب شمسه بر في يمينه ، وإن لم يفعل حنث بغروب الشمس وجها واحدا ؛ لأن إمكان الفعل يمنع من القطع بالحنث .
وأما القسم الثالث : وهو أن يؤخر فعل ذلك عن وقته ، فإن أخره عامدا حنث ، وإن أخره ناسيا ففي حنثه قولان :
أحدهما : يحنث .
والثاني : لا يحنث ، ولا يلزمه فعله بعد فوات وقته ، فلو أكل بعض الطعام في يومه وباقيه في غده حنث ؛ لأن إكمال الأكل في غده شرط في بره .
وأما القسم الرابع : وهو أن يفوته فعل ذلك في وقته ، فهذا على أربعة أضرب :
أحدها : أن يفوت ذلك بموت الحالف قبل الغد ، فلا حنث عليه لزوال تكليفه بالموت .
الضرب الثاني : أن يفوته ذلك باستهلاكه له قبل غده باختياره ، فيحنث في غده قولا واحدا ؛ لأنه قد كان قادرا على فعله في الغد .
والضرب الثالث : أن يتلف قبل غده بفعل غيره ، ففي حنثه قولان لزوال قدرته وعدم مكنته .
والضرب الرابع : أن يفوته فعله مع بقاء ذلك ووجوده إما بحبس أو إكراه أو مرض ، فيكون حنثه على قولين كالمكره ، فأما إن قدر على فعله في غده فلم يفعله مع القدرة حتى تلف في بقية غده ، فقد اختلف أصحابنا ، هل يجري على فواته فيه حكم المختار أو حكم المكره على وجهين :
أحدهما : يجري عليه حكم المختار لإمكان فعله في وقته ، فعلى هذا يحنث قولا واحدا .
[ ص: 370 ] والوجه الثاني : يجري عليه حكم المكره لبقاء وقته ، فعلى هذا يكون في حنثه قولان ، والله أعلم .