ولد الإمام الحافظ المبرّز أبو الحسن علي بن عبد الله بن جعفر بن نُجيح المديني البصري بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة من الهجرة، واشتهر بابن المَدِيني - بفتح الميم وكسر الدال - نسبة إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنسبة إليها بهذه الصيغة قليلة، وأكثر ما ينسب إليها المدني بدون ياء، وإنما نسب إليها لأن أصله منها.
نشأ بالبصرة في بيت علم وفضل، فقد كان أبوه وجده من حملة الحديث ونقلته، فأبوه عبد الله بن جعفر محدث مشهور، روى عن غير واحد من مشايخ الإمام مالك بن أنس، وجده جعفر بن نُجيح روى عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
سمع الحديث من كثير من المحدثين، فرواه عن أبيه، وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة، وابن علية وأبي ضمرة، وبشر بن المفضل، وحاتم بن وردان، وخالد بن الحارث، وحرميّ بن عمارة، وحسان بن إبراهيم، وسعيد بن عامر ويحيى بن سعيد القطان، ويزيد بن زريع.
وروى عنه خلق كثيرون منهم: البخاري وأبو داود وأبو حاتم والذهلي، وابنه عبد الله وأحمد بن منصور وإسماعيل بن إسحاق القاضي، وحنبل بن إسحاق وصالح جزرة وأبو قلابة، وإبراهيم بن الحارث البغدادي، والحسن بن علي الخلال، وأبو مزاحم سباع بن النضر، ومحمد بن عمرو بن نبهان الثقفي، وإبراهيم الجوزجاني.
كما روى عنه سفيان بن عيينة ومعاذ بن معاذ - وهما من شيوخه -، وأحمد بن حنبل وعثمان بن أبي شيبة - وهما من أقرانه -.
مناقبه وثناء الأئمة عليه:
كان من أعيان المحدثين الذين اشتهروا بحفظ الحديث ومعرفة علله، وكان موضع تقدير كبار المحدثين، الذين أثنوا عليه في حفظه وعلمه ونبوغه في علل الحديث، حتى قال عنه الإمام البخاري: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني".
وقال الإمام أبو حاتم الرازي: "وكان أحمد لا يسمّيه، إنما يكنيه تبجيلا له"، وقال الإمام النووي: "وأجمعوا على جلالته وإمامته، وبراعته في هذا الشأن، وتقدمه على غيره".
وقال الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال: "وأما علي بن المديني فإليه المنتهى في معرفة علل الحديث النبوي، مع كمال المعرفة بنقد الرجال، وسعة الحفظ، والتبحر في هذا الشأن، بل لعله فرد زمانه في معناه".
وقفات مع سيرته:
أهم ما يمكن أن نقف عليه في حياة الإمام الجليل علي بن المديني - رحمه الله - :
- قوة حفظه وسعة علمه: كان من المحدثين المبرزين المشهود لهم بقوة الحفظ، فقد نعته الإمام الذهبي فقال: "حافظ العصر، وقدوة أرباب هذا الشأن"، وقال الإمام ابن أبي يعلى: "الحافظ المبرز"، وقال الخطيب البغدادي في تاريخه: "هو أحد أئمة الحديث في عصره، والمقدم على حفاظ وقته".
وأما سعة علمه فقد قال عنه الإمام عبد الرحمن بن مهدي: "ابن المديني أعلم الناس"، وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام: "انتهى العلم إلى أربعة: أبو بكر بن أبي شيبة أسردهم له، وأحمد بن حنبل أفقههم فيه، وعلي بن المديني أعلمهم به، ويحيى بن معين أكتبهم له".
- بصره بعلل الحديث: كان أخبَرَ الناس بعلل الحديث، حتى قال عنه الإمام الذهبي: "إليه المنتهى في معرفة علل الحديث النبوي"، وقال الإمام أبو حاتم: "كان ابن المديني علما في الناس في معرفة الحديث والعلل"، وقال الحافظ ابن حجر: "أعلم أهل عصره بالحديث وعلله".
وقال صالح بن محمد: "أعلم من أدركت بالحديث وعلله علي بن المديني، وأفقههم في الحديث أحمد ابن حنبل، وأمهرهم في الحديث سليمان الشاذكوني".
- موقفه في محنة خلق القرآن: كان ممن أجاب في محنة القول بخلق القرآن خوفا على نفسه، ولم يصبر كما صبر الإمام أحمد بن حنبل وغيره، بل هاب القمع الذي حصل لمن لم يوافق دعاة القول بخلق القرآن إلى ما يريدون، ومن أجل ذلك لم يرو عنه بعض الأئمة المحدثين كالإمام مسلم.
ولكنه تاب وأناب واتضح من قوله وقول غيره أن إجابته لم تكن عن عقيدة، وإنما كانت خوفا على النفس، وقد صرح بذلك عن نفسه فقال: "قَوِيَ أحمد على السوط، وأنا لا أقوى"، وقال: "خفت أن أقتل ولو ضربت سوطا واحدا لمت"، وصرح به غيره، حيث قال ابن السبكي: "وكان علي بن المديني ممن أجاب إلى القول بخلق القرآن في المحنة، فنقم ذلك عليه وزيد عليه في القول، والصحيح عندنا أنه إنما أجاب خشية السيف"، ولذلك لم يلتفت إلى ما سلف منه كثير من المحدثين، فرووا عنه في مصنفاتهم، وعلى رأسهم الإمام البخاري الذي بلغ جملة ما رواه عنه في الصحيح: (ثلاثمائة وثلاثة أحاديث).
وفاته:
توفي الإمام علي بن عبد الله المديني بـ"سُرّ من رأى" بالعراق ليومين بقيا من ذي القعدة سنة أربع وثلاثين ومائتين من الهجرة، وعمره ثلاث وسبعون سنة, رحمه الله رحمة واسعة.