الوقوف على أسباب ورود الحديث، من لوازم النظر، وأدوات الاستدلال اللازمة، وسواء كان سبب الورود سؤالاً أو حادثة، فإنه مؤثر في تحقيق المعنى وتوجيه الدلالة، وهذا مسلك علمي يسلكه أهل الدراية المشتغلون بفقه الروايات، فقصة الحديث ومناسبته من أبرز القرائن المعنوية التي تعين على تحديد ما يدخل في معنى الحديث وما لا يدخل فيه، ومن خلالها يتمكن المجتهد من تحديد المعنى، ودقة التنزيل، وحسن التطبيق للنصوص النبوية على الوقائع والأحداث المتجددة، بعيدا عن الاستخدام الظاهري للنص النبوي، والجمود على الألفاظ دون البحث عن المؤثرات في معانيها، ومن ضمنها السياق وسبب الورود.
والبحث في أسباب ورود الحديث يشبه البحث في أسباب النزول، فيخصص به العام ويقيد به المطلق بحسب كل باب، وإلا فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قال السيوطي: إن من أنواع علوم الحديث معرفة أسبابه، كأسباب نزول القرآن.
نماذج تطبيقية:
هذه بعض النماذج التي يتبين من خلالها أثر معرفة قصة الحديث ومناسبة وروده على الدلالة والمعنى، على سبيل التمثيل، لا الحصر والاستيفاء:
الأول: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فرأى زحاما ورجلا قد ظُلِّلَ عليه، فقال: «ما هذا؟»، فقالوا: صائم، فقال: «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ». متفق عليه.
قد يشكل هذا الحديث مع ما ورد من إثبات صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في السفر، ولكن بمعرفة سبب هذا الحديث يتبين أن الذي عناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصيام الذي يلحق صاحبه مشقة شديدة، كما في صورة السبب، وبه تجتمع الأحاديث، ويزول التعارض؛ ولذلك بوب عليه البخاري "باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن ظلل عليه واشتد الحر: «ليس من البر الصوم في السفر».
قال الحافظ ابن حجر: أشار بهذه الترجمة إلى أن سبب قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس من البر الصوم في السفر» ما ذكر من المشقة، وأن من روى الحديث مجردا فقد اختصر القصة، وبما أشار إليه من اعتبار شدة المشقة يجمع بين حديث الباب والذي قبله، فالحاصل أن الصوم لمن قوي عليه أفضل من الفطر، والفطر لمن شق عليه الصوم أو أعرض عن قبول الرخصة أفضل من الصوم.
الثاني: حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنه- أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله، أين تنزل غداً؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلٍ». متفق عليه، ثم قال: «لا يَرِثُ المُؤْمِنُ الكَافِرَ، وَلاَ يَرِثُ الكَافِرُ المُؤْمِنَ»، فالقارئ للحديث قد لا يدرك المناسبة بين صدر الحديث ونهايته إلا بالاطلاع على سبب وروده، وسببه: أن أبا طالب لما مات ورثه عَقِيلُ وطالبُ، ولم يرثه جعفر ولا علي رضي الله عنهما شيئاً، لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين.
فمن خلال سبب الورود تمكنا من إدراك الحكمة من إيراد هذا التعقيب، والارتباط بين جُمل الحديث وفقراته، ومن دون ذلك قد لا يهتدي القارئ إلى وجه الصلة بين العبارتين، علاوة على أن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يَرِثُ المُؤْمِنُ الكَافِرَ، وَلاَ يَرِثُ الكَافِرُ المُؤْمِنَ» حكم نظري مجرد، وسبب الورود تنزيل تطبيقي لذلك الجكم المجرد، وباجتماع الحكم وتطبيقه مزيد فائدة، وإيضاح للمقصود.
الثالث: حديث عائشة رضي الله عنهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ، فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ، فَارْفَعُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا». متفق عليه، وهذا الحديث سياقه الزمني يحدد الاستدلال به، فقد صدر عنه صلى الله عليه وسلم في مرضه السابق، ثم صدر عنه في مرض موته خلافه.
قال الحُمَيدي: قوله: «وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا» هذا في مرضه القديم، ثم صلى بعد ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسا والناس خلفه قياماً، لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-. أ.هـ
قال الشافعي: فلما كانت صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي مات فيه قاعداً والناس خلفه قياماً، استدللنا على أن أمره الناس بالجلوس في سقطته عن الفرس، قبل مرضه الذي مات فيه، فكانت صلاته في مرضه الذي مات فيه قاعداً والناس خلفه قياماً ناسخةٌ لأن يجلس الناس بجلوس الإمام. أ.هـ.
الرابع: حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي» أخرجه البخاري ومسلم.
وسبب الحديث: حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم، فقالت الأنصار لا نكنيك أبا القاسم، ولا نُنْعِمُكَ عَيْنًا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ولد لي غلام، فسميته القاسم فقالت الأنصار: لا نكنيك أبا القاسم، ولا نُنْعِمُكَ عَيْنًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحسنَتِ الأنصارُ، سمُّوا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، فإنما أنا قاسم» أخرجه البخاري.
قال القاضي عياض: ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذا مقصور على حياة النبى -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه قد ذكر سبب الحديث: كما في البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إنما دعوت هذا، وفي رواية: فقال: لم أعْنِك، قال: «سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي». أ.هـ
وذكر هذا القول أيضا في مرقاة المصابيح فقال: وقيل: النهي مخصوص بحياته؛ لئلا يلتبس خطابه بخطاب غيره، وهذا هو الصحيح؛ لما تقدم من سبب ورود النهي في الحديث المتفق عليه بالصريح. أ.هـ
الخامس: الحديث الذي أخرجه مسلم، في كتاب المناقب، من صحيحه، عن عائشة رضي الله عنهما، وكذلك عن أنس رضي الله عنه قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنتم أعلم بأمور دنياكم».
وهذا الحديث أصبح ستارا لرفع صبغة التشريع عن كثير من النصوص الواردة في الأمور الدنيوية، وجعلها من قبيل التجارب البشرية، وصار هذا النص النبوي متداولاً على الألسنة، ويستدل به استدلالا مطلقا مجردا، مع أن سبب ورود الحديث يبين أنه قيل في سياق حادثة مقيدة، وهي واقعة تأبِير النخل، فيما رواه موسى بن طلحة، عن أبيه، قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل، فقال: «ما يصنع هؤلاء؟» فقالوا: يُلقِّحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيُلقح، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما أظن يغني ذلك شيئًا»، قال: فأُخبروا بذلك فتركوه، فأُخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل». رواه مسلم.
وعليه: فإن سياق هذا الحديث يعين على فهمه، ويساعد على صحة الاستدلال به في إطار المعايش التي تخضع للتجربة، ولا يصلح أن يخرج هذا الحديث عن سياقه وسبب وروده، فإن هذا من الاجتزاء الذي يتنافى مع القراءة الموضوعية للنص، وإلا فإن كثيرا من الأمور الدنيوية خاضعة لأحكام الشرع دون نزاع.
وهكذا يجب أن لا يهمل القارئ السياق والظروف والأحوال والأسباب التي وردت الأحاديث النبوية مقترنة بها، فهي موجهة للمعاني، مؤثرة في الدلالات، من خلال تخصيص اللفظ، وتقييد المطلق، وتعيين المبهم، وإزالة إشكالات الروايات، وهو طريق للكشف عن مقاصد التشريع، والوصول إلى الفهم الكلي للروايات، من خلال جمع أطرافها ورواياتها المؤثرة في إنتاج الحكم الشرعي، وسلامة الاستنباط الاجتهادي، وليس كل سبب يكون مؤثرا في فهم الحديث، بل يؤثر ما له تعلق بالمعنى.
مع التنبيه إلى أن البحث في أسباب ورود الحديث النبوي لا يتعارض مع قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، بل إن قاعدة سبب الورود مقيدة لعموم هذه القاعدة، فيكون العبرة بعموم اللفظ ما لم يكن سبب الورود مخصصا للمعنى، وليس الغرض من الوقوف على تلك السياقات والأسباب تعليق الأحكام بالأشخاص الواردة أسماؤهم في الحادثة، بل المغزى من ذلك هو فهم الرواية في ضوء الظروف والأحوال المقترنة بالعهد النبوي، ومن ثم التبصر بها في التنزيل على الوقائع المشابهة لها، وبهذا نحافظ على عمومية النص النبوي، مع المحافظة على سلامة فهمه وصحة تنزيله وتطبيقه.