الدارقطني الحافظ الكبير

25/02/2024| إسلام ويب

أبو الحسن على بن عمر بن أحمد بن مهدى الدارقطني إمام من أئمة الحديث، من أهل بغداد، من الحفاظ الأفراد، والجهابذة النقاد، إمام دهره في أسماء الرجال، وصناعة التعليل، والجرح والتعديل، وحسن التصنيف والتأليف، واتساع الرواية، والاضطلاع التام في الدراية، وكان من صغره موصوفا بالحفظ الباهر، والفهم الثاقب، وكان عارفاً باختلاف الفقهاء حافظا لكثير من دواوين العرب، وتصدر في آخر أيامه لإقراء القرآن ببغداد.
الدارقطني مدرسة قائمة خرجت العديد من الحفاظ والعلماء، واحتل مكانة سامية ومنزلة رفيعة بين العلماء مما استوجب الثناء عليه تقديرا لعلمه وخلقه وفضله، فقصده طلبة العلم من كل حدب وصوب.
كان رحمه الله أحد الأمناء الذين اختارهم الله للقيام بواجب تبليغ السنة والحفاظ عليها، والتمييز بين صحيحها وسقيمها، فصنف التصانيف النافعة إسهامًا في الوصول إلى هذه الغاية الشريفة، قال الإمام الحافظ الدارقطني رحمه الله: يا أهل بغداد لا تظنوا أن أحداً يقدر يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حي.
رحم الله أهل الحديث طافوا الدنيا لأجل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وميزوا صحيحه من سقيمه، وأسسوا العلم الذين لم يسبقهم إليه أحدٌ وهم علم الجرح والتعديل.
ولادته ونشأته

اسمه: علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن دينار بن عبد الله الدارقطني.
والدارقطني: براء مفتوحة وقاف مضمومة نسبة إلى دار القطن وكانت حيًا من أحياء بغداد.
ولد في اليوم الخامس من ذي القعدة عام 306 هـ في دار القطن.
طلب العلم منذ نعومة الأظفار
ومنذ صباه بدا في طلب العلم من كبار علماء عصره، فلقد قال عن نفسه: كتبت في أول سنة خمس عشرة وثلاثمائة (يعني وهو في التاسعة من عمره).
ووالده رجل من أهل العلم، ويعتبر من شيوخه في القراءات والحديث، ومن القراء الذين أخذوا القراءة عن أهلها فقد ذكره ابن الجزري في شيوخ الدَّارَقُطْنِيّ الذين عرض عليهم القراءات، وذكره أيضاً في "طبقات القراء"، كما أخذ عنه الحديث أيضاً، إذْ حدّث عنه في سننه، ووثّقه الخطيب البغدادي في ترجمته.
اعتني الدارقطني بطلب العلم منذ نعومة أظفاره، واهتم بالحديث وعلومه، وبالغ في اهتمامه، فبدأ يتردد على مجالس العلماء وعمره لم يتجاوز العشرة، فهو يمشي خلف المتعطشين إلى العلم وبيده رغيف وعليه إدام، وعندما يمنع من الدخول يقعد على الباب ويبكي.
فهو كما حكى يوسف القواس " كنا نمر إلى البغوي والدارقطني صبي يمشي خلفنا، بيده رغيف وعليه كامخ (إدام)، فدخلنا إلى ابن منيع ومنعناه، فقعد على الباب يبكي".
وكان من صغره موصوفا بالحفظ الباهر والفهم الثاقب، حضر في حداثته مجلس إسماعيل الصفار، فجلس ينسخ جزءا كان معه وإسماعيل يملي، فقال له بعض الحاضرين: لا يصح سماعك وأنت تنسخ، فقال الدارقطني: فهمي للإملاء أحسن من فهمك وأحضر، ثم قال له ذلك الرجل: أتحفظ كم أملى حديثا؟ فقال: إنه أملى ثمانية عشر حديثا إلى الآن، والحديث الأول منها عن فلان، ثم ساقها كلها بأسانيدها وألفاظها لم يخرم منها شيئا، فتعجب الناس منه.
ومن الأشياء الطريفة في هذا الموضع أن أهله وعشيرته كانوا يرجون له أن يكون مقرئ البلد، فكانوا يقولون: يخرج الكتاني - هو أحد أقران الدارقطني في بلدته - محدث البلد، ويخرج الدارقطني مقرئ البلد، يقول الدارقطني: فخرجت أنا محدثا، والكتاني مقرئا.
وبعد أن سمع شيوخ بلده أخذ في الارتحال إلى البلدان، فرحل إلى أغلب الأمصار التي اشتهرت بعلو مكانة علم الحديث بها، فارتحل لأخذ الحديث عن أشهر المحدثين في أيامه، ومن ثم زار البصرة والكوفة وواسط والشام ومصر.
ودأب على طلب العلم حتى صار فريد عصره، وإمام وقته في أسماء الرجال وأحوال الرواة وصناعة التعليل والجرح والتعديل، ورسخ في معرفة الحديث وعلله.
ثقافة متعددة
في الوقت نفسه اهتم بدراسة علم القراءات، فأخذ القراءة عرضا وسماعا عن مُحمد بن النقاش وعلي بن سَعيد القزاز، ومن في طبقتهما، وأصبح على معرفة جيدة بالقراءات وأصولها ومسائلها وبرع فيها براعة بالغة جعلت الناس يقولون: إِن الدارقطني يخرج مقرئ البلاد.
وتصدر الدارقطني في أواخر عمره للإقراء، وألف في القراءات كتابا جليلا لم يؤلف مثله، وهو أول من وضع أبواب الأصول قبل «الفرش»، وصار القراء بعده يسلكون طريقته في تصانيفهم ويحذون حذوه.
وذكره «الذهبي» ضمن علماء الطبقة التاسعة من حفاظ القرآن، كما ذكره «ابن الجزري» ضمن علماء القراءات.
لقد كانت ثقافة «الدارقطني» متعددة، فكما كان من علماء القراءات والحديث كان من علماء الفقه، فإن كتاب السنن الذي صنفه يدل على أنه كان ممن اعتنى بالفقه، لأنه لا يقدر على جمع ما تضمن ذلك الكتاب إلا من تقدمت معرفته بالاختلاف في الأحكام فقد كان فقيها على مذهب الإمام الشافعي، تفقه على أَبي سَعيد الإصطخري الفقيه الشافعي.
وبجانب هذه العلوم فقد اعتنى بدراسة النحو وكتب اللغة والشعر، فإنه كان يحفظ دواوين جماعة من الشعراء.
قال الخطيب: حَدَّثني الازهري " أَن أبا الحسن لما دخل مصر كان بها شيخ علوي من أَهل مدينة رَسُولُ اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَليه وسَلمَ يُقَالُ له: مسلم بن عُبَيد الله وكان عنده كتاب النسب عن الخضر بن داوود عن الزبير بن بكار وكان مسلم أحد الموصوفين بالفصاحة، المطبوعين على العربية، فسأَل الناس أبا الحسن أن يقرأ عليه كتاب النسب، ورغبوا في سماعه بقراءته. فأجابهم إلى ذلك واجتمع في مجلس من كان بمصر من أَهل العلم والادب والفضل، فحرصوا على أن يحفظوا على أَبي الحسن لحنة، أَو يظفروا منه بسقطة، فلم يقدروا على ذلك، حتى جعل مسلم يعجب ويقول له: وعربية أَيضًا".
رحلاته
بعد أنّ سمع الإمام الدارقطني - رحمه الله تعالى- من شيوخ بلدته "بغداد" وأمعن في الأخذ عنهم، وعن القادمين إليها جريا على سنة السلف في ذلك، رحل إلى بعض الأقطار الإسلامية، ويظهر أنّه بدأ بالمدن المجاورة، فرحل إلى البصرة والكوفة، وواسط، والأُبلة، وذكر ابن نقطة أنّه ارتحل أيضًا إلى الأهواز، وخوزستان ثمّ ارتحل إلى الحجاز للحج، ثمّ رحل إلى الشّام، ومصر.
قال الحاكم: ثمّ دخل الشّام ومصر على كبر السن وقال ابن عساكر: قدم دمشق مجتازًا إلى مصر لكن هذا لم يمنع من سماعه من بعض مشايخها، إذ مرَّ على بعض مدنها كالرملة؛ ودخل طبرية.

تعاون بين العلماء والوزراء

وأمّا رحلته إلى مصر فكانت سنة سبع وخمسن وثلاثمائة، وتعدُّ رحلتُه إلى مصرَ أبرز تلك الرِّحْلات وأغناها؛ لأنَّها كانت في كُهولَتِه بعد أن علا كَعْبُه في العلم، وطالَ باعُه فيه، وقد قصد فيها إلى الوزيرِ أبي الفضل ابن حِنْزابةَ وزير كافورٍ الإخْشِيديِّ لمَّا بلغه أنَّه عازمٌ على جمع "المسند"، فمضى إليه ليُساعدَه عليه، وأقام عنده مُدَّة، وبالغ أبو الفضل في إكرامِه وأنفَقَ عليه نفقةً واسعةً وأعطاه شيئًا كثيرًا، وحَصَلَ له بسببه مالٌ جَزيلٌ، ولم يزَلْ عنده حتى فَرَغَ من "المسند"، وكان يجتمعُ هو والحافظُ عبد الغنيِّ بن سعيد الأزديُّ على تخريج "المسند" وكتابتِه الى أن نَجَزَ.
ولم يكتفِ الدارقطنيُّ في مصرَ بمساعدة ابن ‌حِنْزابةَ في "مسنده"، بل تنقَّل فيها ولقيَ الشُّيوخَ، وسمع الكتبَ، وأفاد طلَاّب العلم، وحرص على لقاء الشيوخ وإن خفي مكانهم، ومن ذلك ما ذكره الذهبيُّ في ترجمة أبي بكر محمَّد بن علي النقَّاش أن الدارقطنيَّ قد رحَلَ إليه إلى تِنِّيس، وكان مُنزَويًا بها.
ويجب أن يعلم أن ابن حنزابة لم يكن وزيرا وصاحب سلطان وجاه فقط، إنما هو عالم كبير ورجل عادل بذل نفسه للعلم والعلماء فرحلة الدارقطني له لمساعدته إنما هي رحلة لعالم من العلماء مشهود له بالتقوى والصلاح، وهذا أمر لا يلام عليه الدارقطني خاصة وأنه لم يقصر نفسه وعلمه على ابن حنزابة بل نشر علمه بين طلابه واستفاد منه الكثير، وتأثروا به، وعرفوا منزلته، وكان من أبرز تلاميذه الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد الازدي، قال منصور بن علي الطرطوسي: (لما اراد الدارقطني الخروج من عندنا من مصر، خرجنا نودعه، وبكينا، فقال لنا: تبكون وعندكم عبد الغني بن سعيد وفيه الخلف).
تلاميذه
من أبرز تلاميذه الحاكم النيسابوري، وأبو حامد الإسفراييني، والقاضي أبو الطيب الطبري، وأبو نعيم الأصفهاني صاحب حلية الأولياء، وأبي ذر الهروي، وأبي بكر البرقاني، وعبد الغني بن سعيد الازدي، وتمام الرّازي، وأبي محمد الخلال، وخلق سواهم.
قال الخطيب: سمعتُ القاضي أبا الطيب الطبري، يقول: الدَّارقطني أمير المؤمنين في الحديث، وما رأيت حافظًا ورد بغداد إلا مضى إليه وسلّم له، يعني فسلّم له التقدمة في الحفظ وعلو المنزلة.
مؤلفاته:
قال ابن الصلاح رحمه الله: سبعة من الحفاظ أحسنوا التصنيف وعظم الانتفاع بتصانيفهم في أعصارنا، وبدا بذكر أبي الحسن الدارقطني.
وقد ألَّف الإمام الدَّارَقُطْنِيّ مؤلفات عديدة أكثرها في الحديث وعلومه، وقد بلغت مصنفاته أكثر من ثمانين مصنفًا نافعًا، وبعضها وصل إلى أكثر من عشرة مجلدات نذكر منها:
1 - كتاب (العلل)، قال عنه الذهبي: إذا شئت أن تتبين براعة هذا الإمام الفرد، فطالع العلل له، فإنك تندهش ويطول تعجبك.
2 - كتاب (السنن)، قال عنه ابن كثير من أحسن المصنفات في بابه، لم يسبق إلى مثله، ولا يُلحق بشكله، إلا من استمدّ من بحره وعمل كعمله.
قال ابن تيمية: وأبو الحسن مع إتمام إمامته في الحديث فإنه إنما صنف هذه السنن كي يذكر فيها الأحاديث المستغربة في الفقه ويجمع طرقها، فإنها هي التي يحتاج فيها إلى مثله، فأما الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما فكان يستغني عنها في ذلك".
3 - كتاب (أحاديث الصفات).
4 - كتاب (أحاديث النزول).
5 - كتاب (الإلزامات على صحيحي البخاري ومسلم).
6 - كتاب (ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم ممن صحت روايته عند مسلم).
7 - كتاب (التتبع وهو ما أخرج على الصحيحين وله علة).
قال الشيخ أحمد شاكر: إن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها ليس في واحد منها مطعن أو ضعف وإنما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث على معنى أن ما انتقدوه لم يبلغ في الصحة الدرجة العليا التي التزمها كل واحد منهما في كتابه وأما صحة الحديث نفسه فلم يخالف أحد فيها. "الباعث الحثيث"
8 - كتاب (سؤالات الحاكم النيسابوري للدارقطني).
9 - كتاب (سؤالات حمزة بن يوسف السهمى للدارقطني).
10 - كتاب (السؤالات لأبى عبد الرحمن السلمى للدارقطني).
11 - كتاب (الضعفاء والمتروكون).
13 - أخبار عمرو بن عبيد، وإظهار بدعته.
14 - المستجاد من فعل الأجواد.
وفاته
وتوفي الدارقطني ببغداد في سن الثمانين يوم الأربعاء 8 ذي القعدة سنة 385 هـ (4 ديسمبر سنة 995م)، ودفن بمقبرة باب الدير بالقرب من معروف الكرخي، وصلى عليه أَبو حامد الإسفراييني الفقيه، رحمه الله وأعلى في عليين درجته وأحسن في الفردوس مثوبته.
 

www.islamweb.net