الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            2 - الحظ الوافر من المغنم في استدراك الكافر إذا أسلم

            مسألة : الكافر إذا أسلم وأراد أن يقضي ما فاته في زمن الكفر من صلاة وصوم وزكاة هل له ذلك ؟ وهل ثبت أن أحدا من الصحابة فعل ذلك حين أسلم ؟ .

            الجواب : نعم له ذلك ، وذلك مأخوذ من كلام الأصحاب إجمالا وتفصيلا ، وأما الإجمال فقال النووي في شرح المهذب : اتفق أصحابنا في كتب الفروع على أن الكافر الأصلي لا تجب عليه الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، وغيرها من فروع الإسلام ، ومرادهم أنهم لا يطالبون بها في الدنيا مع كفرهم ، وإذا أسلم أحدهم لم يلزمه قضاء الماضي ، فاقتصر على نفي اللزوم فيبقى الجواز ، وعبارة المهذب : فإذا أسلم لم يخاطب بقضائها لقوله تعالى : ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) ولأن في إيجاب ذلك عليهم تنفيرا ; فعفي عنه فاقتصر على نفي الإيجاب فيبقى الجواز ، أو الاستحباب .

            وأما التفصيل فإن الفقهاء قد قرنوا في كتاب الصلاة بين الكافر والصبي والمجنون والمغمى عليه والحائض في عدم وجوب الصلاة ، ونص بعضهم على أن الصبي إذا بلغ ، وقد فاتته صلاة يسن له قضاؤها ، ولا تجب عليه ، وأن المجنون [ ص: 32 ] والمغمى عليه يستحب لهما قضاء الصلاة الفائتة في زمن الجنون والإغماء - كذا نقله الأسنوي عن البحر للروياني ، ونقل عنه ، وعن شرح الوسيط للعجلي أن الحائض يكره لها القضاء .

            فهذه فروع منقولة ، والكافر في معنى ذلك فيجوز له القضاء ، إن لم يصل الأمر إلى درجة الاستحباب ، ولا يمكن القول بالتحريم بل ولا بالكراهة ، ويفارق الحائض ، فإن ترك الصلاة للحائض عزيمة وبسبب ليست متعدية به والقضاء لها بدعة ، ولهذا قالت عائشة لمن سألتها عن ذلك : أحرورية أنت ؟ .

            وقد انعقد الإجماع على عدم وجوب الصلاة عليها ، وترك الصلاة للكافر بسبب هو متعد به وإسقاط القضاء عنه من باب الرخصة مع قول الأكثرين بوجوبها عليه حال الكفر ، وعقوبته عليها في الآخرة كما تقرر في الأصول . فاتضح بهذا الفرق بينه وبين الحائض حيث يكره لها القضاء ، ولا يكره له ، بل يجوز ، أو يندب ، ويقاس بصلاة الكافر جميع فروع الشريعة من زكاة وصوم ، هذا ما أخذته من نصوص المذهب .

            وأما الأدلة فوردت أحاديث يستنبط منها جواز ذلك ، بل ندبه : منها ما أخرجه الأئمة الستة وغيرهم عن عمر بن الخطاب أنه قال : يا رسول الله ، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام . قال : " أوف بنذرك " . قال النووي في شرح مسلم : من قال : إن نذر الكافر لا يصح - وهم جمهور أصحابنا - حملوا الحديث على الاستحباب أي يستحب لك أن تفعل الآن مثل الذي نذرته في الجاهلية . انتهى .

            وفي هذا دلالة على أن الكافر يستحب له أن يتدارك القرب التي لو فعلها في حال كفره لم تصح منه ، ولو كان مسلما لزمته ، وهذه دلالة ظاهرة لا شبهة فيها ، وقال الخطابي في معالم السنن : في هذا الحديث دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفرائض مأمورون بالطاعة .

            وقال القمولي من متأخري أصحابنا في الجواهر : إذا نذر الكافر لم يصح نذره لكن يندب له الوفاء إذا أسلم فلو نذر اليهودي ، أو النصراني صلاة ، أو صوما ، ثم أسلم استحب له الوفاء ، ويفعل صلاة شرعنا ، وصوم شرعنا ، لا صلاة شرعه وصومه . هذا كلام القمولي .

            وقال ابن دقيق العيد في شرح العمدة : استدل بهذا الحديث من يرى صحة النذر من الكافر ، وهو قول ، أو وجه في مذهب الشافعي والأظهر أنه لا يصح ; لأن النذر قربة والكافر ليس من أهل القرب ، ومن يقول بهذا يحتاج إلى أن يؤول الحديث بأنه أمر أن يأتي باعتكاف يوم يشبه ما نذر فأطلق عليه أنه منذور لشبهه بالنذر وقيامه مقامه في [ ص: 33 ] فعل ما نواه من الطاعة ، وعلى هذا يكون قوله : أوف بنذرك . من مجاز الحذف ، أو مجاز التشبيه ، ومنها ما أخرجه مسلم عن حكيم بن حزام قال : قلت : يا رسول الله ، أشياء كنت أفعلها في الجاهلية ، يعني أتبرر بها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسلمت على ما سلف من الخير . قلت : فوالله لا أدع شيئا منعته في الجاهلية ، إلا فعلت في الإسلام مثله .

            قلت : هذا الحديث يؤخذ منه بدلالة الإشارة استدراك ما فات في الجاهلية ، فإنه لما صدر منه ما صدر من القربات في الجاهلية كأنه لم يرها تامة لفقد وصف الإسلام فأعاد فعلها في الإسلام استدراكا لما فات من وصف التمام ، وأخرج الحاكم في المستدرك عن هشام عن أبيه قال : أعتق حكيم مائة رقبة وحمل على مائة بعير في الجاهلية فلما أسلم أعتق مائة وحمل على مائة بعير .

            هذا الحديث فيه التصريح بوفائه بما وعد به . ومنها ما روي أن أبا سفيان لما أسلم قال : يا رسول الله ، لا أترك موقفا قاتلت فيه المسلمين إلا قاتلت مثله الكفار ، ولا درهما أنفقته في الصد عن سبيل الله إلا أنفقت مثله في سبيل الله . هذا الحديث صريح بمنطوقه في استدراك تكفير ما مضى في الكفر من فعل المناهي ، وهو غير لازم فيحمل على الندب ويؤخذ من فحواه استحباب استدراك ما مضى في الكفر من ترك الأوامر .

            وأخرج الحاكم في المستدرك ، وصححه عن عكرمة بن أبي جهل قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم جئت : مرحبا بالراكب المهاجر ، مرحبا بالراكب المهاجر . فقلت : والله يا رسول الله ، لا أدع نفقة أنفقتها إلا أنفقت مثلها في سبيل الله . هذا أيضا من استدراك تكفير ما مضى من فعل المنهيات في حال الكفر .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية