الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وقال بعض الناس : إذا امتنع أهل البغي بدارهم من أن يجري الحكم عليهم ، فما أصابه المسلمون من التجار والأسرى في دارهم من حدود الناس بينهم أو لله ، لم تؤخذ منهم ولا الحقوق بالحكم ، وعليهم فيما بينهم وبين الله تعالى تأديتها إلى أهلها . قلت : فلم قتلته ؟ قال : قياسا على دار المحاربين ، يقتل بعضهم بعضا ، ثم يظهر عليهم فلا يقاد منهم . قلت : هم مخالفون للتجار والأسرى في المعنى الذي ذهبت إليه ، خلافا بينا ، أرأيت لو سبى المحاربون بعضهم بعضا ثم أسلموا ، أندع السابي يتخول المسبى مرقوقا له ؟ قال : نعم ، قلت : أفتجيز هذا في التجار والأسرى في دار أهل البغي ؟ قال : لا . قلت : فلو غزانا أهل الحرب فقتلوا منا ثم رجعوا مسلمين ، أيكون على أحد منهم قود ؟ قال : لا . قلت : فلو فعل ذلك التجار والأسرى ببلاد الحرب غير مكرهين ولا شبه عليهم ؟ قال : يقتلون . قلت : أيسع قصد قتل التجار والأسرى ببلاد الحرب فيقتلون ؟ قال : بل يحرم . قلت : أرأيت التجار والأسرى لو تركوا الصلاة والزكاة في دار الحرب ثم خرجوا إلى دار الإسلام ، أيكون عليهم قضاء ذلك ؟ قال : نعم . قلت : ولا يحل لهم في دار الحرب إلا ما يحل لهم في دار الإسلام ؟ قال : لا . قلت : فإذا كانت الدار لا تغير ما أحل لهم وحرم عليهم ، فكيف أسقطت عنهم حق الله وحق الآدميين الذي أوجبه الله عليهم ؟ ثم أنت لا تحل لهم حبس حق قبلهم في دم ولا غيره ، وما كان لا يحل لهم حبسه فإن على الإمام استخراجه عندك في غير هذا الموضع ؟ قال : فأقيسهم بأهل الردة الذين أبطل ما أجابوا . قلت : فأنت تزعم أن أهل البغي يقاد منهم ما لم ينصبوا إماما ويظهروا حكما ، والتجار والأسارى لا إمام لهم ، ولا امتناع ، ونزعم لو قتل أهل البغي بعضهم بعضا بلا شبهة أقدت منهم . قال : ولكن الدار ممنوعة من أن يجري عليهم الحكم . [ ص: 147 ] قلت : أرأيت لو أن جماعة من أهل القبلة محاربين امتنعوا في مدينة حتى لا يجري عليهم حكم ، فقطعوا الطريق ، وسفكوا الدماء ، وأخذوا الأموال ، وأتوا الحدود ؟ قال : يقام هذا كله عليهم . قلت : فهذا ترك معناك . وقلت له : أيكون على المدنيين قولهم : لا يرث قاتل عمد ويرث قاتل خطأ إلا من الدية ؟ فقلت : لا يرث القاتل في الوجهين : لأنه يلزمه اسم قاتل ؛ فكيف لم تقل بهذا في القاتل من أهل البغي والعدل : لأن كلا يلزمه اسم قاتل ، وأنت تسوي بينهما فلا تقيد أحدا بصاحبه ؟ "

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا أراد به أبا حنيفة ، فإنه قال : إذا فعل أهل البغي في دارهم ما يوجب حدودا أو حقوقا ، ثم ظهر الإمام عليهم ، لم تقم عليهم الحدود ، ولم تستوف منهم الحقوق . وكذلك يقول في أهل العدل إذا فعلوا ذلك في دار أهل البغي ، لم يؤاخذوا بما استهلكوه من حقوق ، وارتكبوه من حدود .

                                                                                                                                            وبناه على أصله ، أن المسلمين إذا فعلوه في دار الحرب كان هدرا ، فجمع بين الدارين : لخروجها عن يد الإمام وتدبيره .

                                                                                                                                            ومذهب الشافعي : أن دار الحرب يسقط جريان حكم الإسلام فيها على أهلها ، فلا يقام عليهم بعد القدرة حد ، ولا يستو منهم حق ، ولا يسقط جريان حكم الإسلام على من دخلها من المسلمين في استيفاء الحقوق منهم ، وإقامة الحدود عليهم .

                                                                                                                                            ودار البغي لا تمنع من جريان حكم الإسلام فيها على أهلها وغير أهلها : لقول النبي صلى الله عليه وسلم : منعت دار الإسلام ما فيها ، وأباحت دار الشرك ما فيها .

                                                                                                                                            ففرق بين دار الإسلام وبين دار الشرك في الحظر ، فلم يجز الجمع بينهما في الإباحة .

                                                                                                                                            ولأن حكم الإسلام جار على أهله أين كانوا ، كما أن حكم الشرك جار على أهله حيث وجدوا .

                                                                                                                                            ولأنه لو جاز أن تغير الدار أحكام المسلمين في الحقوق والحدود ، لتغيرت في العبادات من الصلاة والصيام ، فيلتزمونها في دار الإسلام ، ولا يلتزمونها في دار الحرب .

                                                                                                                                            فلما بطل هذا ، واستوى إلزامهم لها في دار الإسلام ودار الحرب ، وجب أن يستويا في الحدود والحقوق .

                                                                                                                                            [ ص: 148 ] فأما ما احتج به أبو حنيفة من أن يد الإمام قد زالت عن دار البغي ، فسقط عنه إقامة الحدود عليهم كأهل الحرب .

                                                                                                                                            فالجواب عنه : أن الحدود وجبت عليهم : لمخاطبتهم بها وارتكابهم لموجبها ، والإمام مستوف لها . فإن عجز عنها كف ، وإن قدر عليها أقامها . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية