الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 152 ] [ سورة ص ]

                                                                                                                                                                                                                                            ثمانون وثمان آيات مكية


                                                                                                                                                                                                                                            بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                            ( ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص )

                                                                                                                                                                                                                                            بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                            ( ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : الكلام المستقصى في أمثال هذه الفواتح مذكور في أول سورة البقرة ، ولا بأس بإعادة بعض الوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            فالأول : أنه مفتاح أسماء الله تعالى التي أولها صاد ، كقولنا صادق الوعد ، صانع المصنوعات ، صمد .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : معناه صدق محمد في كل ما أخبر به عن الله .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : معناه صد الكفار عن قبول هذا الدين ، كما قال تعالى : ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ) [النساء : 167] .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : معناه أن القرآن مركب من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها ولستم قادرين على معارضة القرآن ، فدل ذلك على أن القرآن معجز .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : أن يكون " صاد " بكسر الدال من المصادة وهي المعارضة ، ومنها الصدى وهو ما يعارض صوتك في الأماكن الخالية من الأجسام الصلبة ، ومعناه عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : أنه اسم السورة ، والتقدير هذه صاد ، فإن قيل ههنا إشكالان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن قوله : ( والقرآن ذي الذكر ) قسم وأين المقسم عليه ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن كلمة "بل" تقتضي رفع حكم ثبت قبلها ، وإثبات حكم بعدها يناقض الحكم السابق ، فأين هذا المعنى ههنا ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : عن الأول من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن يكون معنى صاد بمعنى صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، فيكون صاد هو المقسم عليه ، وقوله : ( والقرآن ذي الذكر ) هو القسم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن يكون المقسم عليه محذوفا ، والتقدير سورة ( ص والقرآن ذي الذكر ) إنه لكلام معجز ، لأنا بينا أن قوله ( ص ) تنبيه على التحدي .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن يكون صاد اسما للسورة ، ويكون التقدير هذه ص والقرآن ذي الذكر ، ولما كان المشهور أن محمدا عليه السلام يدعي في هذه السورة كونها معجزة ، كان قوله هذه ( ص ) جاريا مجرى [ ص: 153 ] قوله : هذه السورة المعجزة ، ونظيره قوله هذا حاتم والله ، أي هذا هو المشهور بالسخاء .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن السؤال الثاني : أن الحكم المذكور قبل كلمة ( بل ) ، أما ما ذكره المفسر كون محمد صادقا في تبليغ الرسالة أو كون القرآن أو هذه السورة معجزة والحكم المذكور بعد كلمة ( بل ) ههنا هو المنازعة والمشاقة في كونه كذلك ، فحصل المطلوب ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قرأ الحسن "صاد" بكسر الدال لأجل التقاء الساكنين ، وقرأ عيسى بن عمر بنصب صاد ونون وبحذف حرف القسم وإيصال فعله ، كقولهم الله لأفعلن ، وأكثر القراء على الجزم لأن الأسماء العارية عن العوامل تذكر موقوفة الأواخر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : في قوله ( ذي الذكر ) وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : المراد ذي الشرف ، قال تعالى : ( وإنه لذكر لك ولقومك ) [الزخرف : 44] وقال تعالى : ( لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم ) [الأنبياء : 10] ومجاز هذا من قولهم لفلان ذكر في الناس ، كما يقولون له صيت .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : ذي البيانين أي فيه قصص الأولين والآخرين ، وفيه بيان العلوم الأصلية والفرعية ، ومجازه من قوله : ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) [القمر : 40] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : ( والقرآن ذي الذكر ) والذكر محدث . بيان الأول : قوله تعالى : ( وإنه لذكر لك ولقومك ) [الزخرف : 44] ، ( وهذا ذكر مبارك ) [الأنبياء : 50] ، ( والقرآن ذي الذكر ) [ص : 1] ( إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ) [يس : 69] .

                                                                                                                                                                                                                                            وبيان الثاني : قوله : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ) [الأنبياء : 2] وقوله ( وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث ) [الشعراء : 5] .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أنا نصرف دليلكم إلى الحروف والأصوات وهي محدثة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( بل الذين كفروا ) فالمراد منه الكفار من رؤساء قريش الذين يجوز على مثلهم الإجماع على الحسد والكبر عن الانقياد إلى الحق ، والعزة ههنا التعظيم وما يعتقده الإنسان في نفسه من الأحوال التي تمنعه من متابعة الغير لقوله تعالى : ( وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ) [البقرة : 206] والشقاق هو إظهار المخالفة على جهة المساواة للمخالف ، أو على جهة الفضيلة عليه ، وهو مأخوذ من الشق ، كأنه يرتفع عن أن يلزمه الانقياد له ، بل يجعل نفسه في شق وخصمه في شق ، فيريد أن يكون في شقة نفسه ، ولا يجرى عليه حكم خصمه ، ومثله المعاداة وهو أن يكون أحدهما في عدوة والآخر في عدوة ، وهي جانب الوادي ، وكذلك المحادة أن يكون هذا في حد غير حد الآخر ، ويقال انحرف فلان عن فلان ، وجانب فلان فلانا أي صار منه على حرف ، وفي جانب غير جانبه والله أعلم . ثم إنه تعالى لما وصفهم بالعزة والشقاق خوفهم فقال : ( كم أهلكنا من قبلهم من قرن ) والمعنى أنهم نادوا عند نزول العذاب في الدنيا ولم يذكر بأي شيء نادوا ، وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو الأظهر أنهم نادوا بالاستغاثة لأن نداء من نزل به العذاب ليس إلا بالاستغاثة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : نادوا بالإيمان والتوبة عند معاينة العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : نادوا أي رفعوا أصواتهم ، يقال فلان أندى صوتا من فلان أي أرفع صوتا ، ثم قال : ( ولات حين مناص ) يعني ولم يكن ذلك الوقت وقت فرار من العذاب وهو كقوله : ( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا ) [غافر : 84] وقال : ( حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون ) [المؤمنون : 64] والجؤار رفع الصوت بالتضرع والاستغاثة ، وكقوله : ( آلآن وقد عصيت قبل ) [يونس : 91] وقوله : ( فلم يك ) [ ص: 154 ] ( ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ) [غافر : 85] بقي ههنا أبحاث :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : في تحقيق الكلام في لفظ ( ولات ) زعم الخليل وسيبويه أن "لات" هي لا المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على رب وثم للتأكيد ، وبسبب هذه الزيادة حدثت لها أحكام جديدة ، منها أنها لا تدخل إلا على الأحيان ، ومنها أن لا يبرز إلا أحد جزأيها ، إما الاسم وإما الخبر ، ويمتنع بروزهما جميعا ، وقال الأخفش : إنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء ، وخصت بنفي الأحيان و( حين مناص ) منصوب بها كأنك قلت : ولات حين مناص لهم ، ويرتفع بالابتداء أي ولات حين مناص كائن لهم .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : الجمهور يقفون على التاء من قوله : ( ولات ) والكسائي يقف عليها بالهاء كما يقف على الأسماء المؤنثة ، قال صاحب "الكشاف" : وأما قول أبي عبيدة : التاء داخلة على الحين فلا وجه له ، واستشهاده بأن التاء ملتزقة بحين في مصحف عثمان فضعيف ، فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثالث : المناص المنجا والغوث ، يقال ناصه ينوصه إذا أغاثه ، واستناص طلب المناص ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية