الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التــرهـيب

التــرهـيب

التــرهـيب

كما تُقاد النفس عن طريق الرغبة تُقاد عن طريق الرهبة ، فتكف عن الرذيلة وَجلا مما يعقبها من منغصات ، أو تندفع إلى الفضيلة خوفـًا من مغبة التراخي والتفريط .
1- فالذي يشتهي لذة محرمة قد تقمع سورتها في نفسه بذكر الله ذي الجلال ، والذي يستهين بالحقوق ويغير بقوته فيجتاحها دون مبالاة ، قد تخوفه بذي الجبروت ، الذي إذا سخط عليه خسف به ، والله سبحانه وتعالى قوي متين، وعزيز ذو انتقام ، وديَّان لا يموت . والتخويف به حق.

وأثر الخوف بعيد المدى ، إنه في الدنيا يصنع الكثير ، فالطالب الذي يخشى السقوط يُحصِّل علومه ، والتاجر الذي يخاف الإفلاس يضاعف نشاطه ، والموظف الذي يكره التخلف يثابر في عمله ، ولذلك قال يحيى بن معاد:" مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر لدخل الجنة " .
وترك المعاصي تهيبـًا لله واتقاء سخطه دين ، ومن حق الله أن يهاب ويخشى، وفي حكم الصالحين : " لا تنظر إلى صغر الخطيئة ، ولكن انظر إلى من عصيت "، وقال علي - كرم الله وجهه - : " إذا استعظمت الذنب فقد عظمت حق الله ، وإذا استصغرته فقد صغّرت حق الله ، وما من ذنب استعظمته إلا صغر عند الله ، وما من ذنب استصغرته إلا عظم عند الله ... " .

والخوف الذي يتحدث الشارع عنه ليس شعور قلق تهتز به النفس ، ويذهب فيه اتزانها ، ويكوِّن ما يُسمى الآن عقدة .. كلا ، إنه إحساس فطريٌّ يؤدي نتائجه في سهولة ، فالنظيف - مثلاً - يتقي الأقذار ، ويخاف دنسها ، ويحتاط أن يعلق ببدنه أو ثوبه شيء منها ، وهذا الخوف كمال نفسي ، وليس مرضـًا ولا شبه مرض .
2- والترهيب من الآثام قد يعمد إلى إبراز ما فيها من قذارة لا تليق بالإنسان العالي الشأن ؛ فالإسلام يسمي المعاصي قاذورات ، وينأى بالفطرة السليمة أن تتدلي إليها ، فضلاً عن تألُّف مواطنها ، والحقيقة أن المتأمل في أحوال المجرمين يرى مسخـًا غريبـًا في أنفسهم ، حتى لكأنهم يتحولون إلى أنواع من السباع والدواب ، وإن ظلوا في إهاب البشر ، ولا عجب ، فالمرء الذي يُمرَّن على الرذيلة ويستمرئها يصل إلى درك من السوء لا أمل بعده في سلامة، وهذا معنى قول الحسن : " إن بين العبد وبين الله حدًّا من المعاصي معلومـًا ، إذا بلغه العبد طُبع على قلبه فلم يوفق بعدها إلى خير " ، وهذا هو المسخ الذي وقع مثله لبني إسرائيل لما عتَوْا عن أمر الله .

والمغالاة بكرامة الإنسان ، وإفهامه أن المعاصي لا تليق بمنزله هي التي أوحت إلى " ابن القيم " أن يقول :
فحي على جنات عدْن فإنها منازلك الأولىَ وفيها المخيَّمُ
إن سوط الإرهاب تحوّل هنا إلى صوت عذب وحداء رقيق والمعنى واحد ، ولعل من ذلك قول عمر - رضي الله عنه - : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه .. " .
والكشف عمَّا في الرذيلة من قبح ، شائع في الكتاب والسنة ، انظر كيف نصح الله أولياء اليتامى : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً )( النساء:9 ) .
وانظر إلى نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي يحب الزنا ، كيف قال له : %(أتحب أن يكون لكذا ، وكذا ؟ )% من محارمه .

إن هذا النصح يبين خاصة من خواص البشر ، تحدَّث عنها علماء الأخلاق ، وهي أنه شذوذ لا يمكن أن يتحوّل بين الناس قانونـًا عامـًا .
3- وقد نخوف من الذنوب ومواقعتها ، ببيان خطرها على الإيمان نفسه ، فالمعاصي بريد الكفر ، واقترافها - دون حذر - فجور يدل على موت القلب .
وفي الحديث : ((إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا .. فطار)) ، ذلك أن الإيمان هو الصانع الأوحد للضمير الذي يوثق به ، فإن مراقبة الله جل شأنه أساس مكين في توقي الشرور والتحرز من الدنايا .

ولأمر ما أقسم الله بالنفس اللَّوامة ، والنفس اللوامة هي التي تترفع عن الإثم ، وتنفر عن مقارفته ومن مؤالفته ، وتدفع صاحبها أبدًا إلى حال أزكى ودرجة أرقى ، كأنها لا ترضى بما هي فيه حتى تنتقل إلى مرحلة أطيب ، فإذا بلغتها تكشف لها ما هو أعلى فتنشده ، وهكذا دواليك حتى تلقى الله .
ولأمر ما طُلبت منا التوبة النصوح ، والتوبة النصوح هي التي يتولد منها إحساس يقظ كأنه ديدبان حارس ، كلما دلف الشيطان ليزل الإنسان إلى معصية ، نبه إلى الخطر ، وحمي من السوء .
والنفس اللوامة والتوبة النصوح تسميتان تشيران إلى ذلكم الضمير الديني الوازع عن الشرور والباعث على الطاعات .
4- وقد يكون الإرهاب عن المعصية ببيان شؤمها في العاجلة وضررها الذريع في جسم الإنسان وأهله وولده ومكانته .
وبذلك ينزجر الإنسان عن مواقعتها خشية ما يصيبه من بلائها كأنه طائر أبصر الحب في الفخ فعلم أن حتفه فيه لو وقع عليه ، فهو يتركه نجاة بنفسه ، وطلبـًا للسلامة .
والواقع أن المعاصي مفتاح لمصائب فادحة وكرب جسام ، والرتع فيها يجر الويلات على الأفراد والجماعات ، قال تعالى : ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ )( الشورى:30 ) ، ولولا أن الله يهب للخلائق فسحة ليستفيقوا ويقالوا لكان المحق هو الجزاء السريع لمخازيهم ، وتلك رحمة من الله، فهل يستغلها العصاة ؟ قال الله تعالى : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً )( فاطر:45 ) ، وهذا التأخير لا يعني إرجاء العذاب إلى يوم القيامة ، فإن لكل سيرة رديئة أجلاً موقوفـًا تستحق عنده العقوبة ، ثم تنزل بالفرد أو الجماعة في هذه الدنيا قبل الآخرة ، قال تعالى : ( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)( السجدة:21 ) ، وقد انتشرت في الكتاب والسنة النذر بتلك العقوبات العاجلة .
روى البيهقي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : %(يا معشر المهاجرين ، خصال خمس ، إن ابتليتم بهنَّ ونزلن بكم وأعوذ بالله أن تدركوهنَّ :
1- لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون وظهرت الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم .
2- ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان .
3- ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يُمطروا.
4- ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدو من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم .
5- وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم شديد ..)) %%.
وفي الحديث : %(خمس تُعجّل عقوبتهن : البغي ، والغدر ، وقطيعة الرحم ، وعقوق الوالدين ، ومعروف لا يُشكر)%% .
وفي القرآن الكريم بيان لعقوبات نزلت بأمم تمردت على الله وجارت عن الطريق، فسلبت النعمة التي طالما مرحت فيها ، وحل بها ما لم تكن تتوقع ، قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ )( سـبأ: 15 - 17) ، وقال تعالى : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) (النحل:112 ) .

على أن عقوبات الآحاد والأمم تخضع لسنن عليا ، وتضبطها آماد ليس إلا الله يعلم موعدها ، وقد كان الأنبياء من نوح إلى محمد - صلى الله عليهم وسلم - يوجلون من تحديد هذا الموعد ، ويجيبون المستهزئين والمستعجلين بأن ذلك ليس إليهم، قال الله تعالى : ( قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) (هود:33 ) ، ويجري الله على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - هذا القول: (مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) ( الأنعام: 57 ) .

وقد نرى أفرادًا وأممـًا تُستدرج إلى مصيرها الفاجع بكثرة النعم - على ما فيهم من معاصٍ - وفي هذا يقول الله عز وجل: ( وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )( التوبة:85 )
( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) ( آل عمران: 196 ، 197) .
وقد نرى آحادًا من الناس يرتكبون الذنب أيسر مما يصنع أولئك الفجرة ، فيعاقبهم الله بشيء من الحرمان كما جاء في الحديث : %(إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)%% ، وذلك منه سبحانه تأديب لمن يريد تقويمهم في الدنيا ليلقوه في الآخرة مطهرين .
6- وقد نحض الناس على أنواع الخير ، ونحجزهم عن ضروب الشر ، بذكر الآخرة وما في جهنم من عذاب شديد ، ومهانة بالغة ، قال تعالى : ( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) ( المزمل:18 ) ، فخوف من الكفر بعذاب يوم القيامة ، وقال تعالى : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) (الإنسان:8 - 11 ) .
وفي الحديث : %(اتقوا النار ولو بشق تمرة )%% ، وفي الحديث أيضـًا : %(دخلت امرأة النار في هرة حسبتها ، فلا هي أطعمتها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض )%%.
والتخويف بالنار ، ووصف صنوف العذاب المعد فيها يستغرق جزءًا كبيرًا من الكتاب والسنة ، وما دامت النار حقـًا ، وما دامت معدة للسفلة يقينـًا ، فلِمَ يكون التخويف بها عيبـًا ؟؟

فعلى الدعاة أن يستخدموا هذا الأسلوب الذي بينه لهم القرآن ، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته ، (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا )

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة