الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الكتـابة.. أسلوب دعوي ناجح

الكتـابة.. أسلوب دعوي ناجح

الكتـابة.. أسلوب دعوي ناجح

الخطابة من شعائر الإسلام ، ودلائل بالحياة وسعيه إلى الامتداد ، وربما كان تأثيرها الروحي نفاذًا أخاذًا ، خصوصـًا إذا كان الخطيب صاحب عقيدة تزحم أقطار نفسه ، وتضطرم بها مشاعره . إنه حينئذٍ يشعل الجماهير حوله كما تشمل النار الهشيم .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلاً أعلى في صدق اللهجة وعمق التأثير ، وكان إذا خطب احمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشند غضبه ، كأنه منذر جيش يقول : ((صبحكم ومساكم )) ، ويقول : ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) ، ويقرن بين إصبعيه للسبابة والوسطى ، ويقول : ((أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ...)) .

ولما كانت نفس الخطيب المؤمن تشبه مولدًا للكهرباء ، فإن الإيمان ينسكب من نفسه مع ألفاظه يشق طريقه إلى القلوب شفـًا . ومن ثم كان الجيل الذي صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير الأجيال ، لعظم ما أفاد منه وانتفع به وأفاد الدنيا ونفع .

ومع هذه المنزلة للخطابة فإن لها قسمـًا لا يقل عنها جدوى ، ولا تستغني الدعوة عنه أبدًا ، وهو الكتَابة ، بل إن ما ارتبط بالخطابة من أجواء عاطفية يجعل مجالها متجهـًا إلى المشاهدة قبل كل شيء ، وإن اعتمدت على سلامة المنطق بداهة ، لكن الكتَابة على العكس ، تتجه إلى العقل وتقوم على الاستعراض المنظم المتأني للأدلة المؤيدة والمفندة ، ولا بأس أن ينضم إلى ذلك أسلوب جيد وسياق جذاب .

ثم إن الخطابة موقوتة الفرص ، منتهية بانتهاء مجالسها ، وانفضاض مجامعها ، أما الكتابة فهي أخلد على الزمن وأعصى على الفناء ، والواقع أن الخطب النفيسة ، تتحوّل إلى أدب مكتوب ، فإن كانت حافلة بعلم نافع أو وعظ بليغ كان بقاؤها في الصحائف امتدادًا في إمكان النفع بها ، وإن كانت صاحبها قد مات ، وضاع الأثر المقترن بسماعها منه وهي تنبض بالحياة من فمه ، وتخرج مفعمة بخصائص نفسه !

والكتابة المؤلفة في خدمة الرسالات المختلفة كثيرة ، ومداها في نشر الدعوات بعيد ، وحسبنا أن الإسلام يعتمد في خلوده ، ونضارة رسالته ، وتجدد دعوته على كتاب فَذّ هو معجزة الدهر ، وصوت السماء الصدوق المبين ، قال تعالى: ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ )( فصلت:42 ) ، ومنذ بدأ الإسلام والمؤلفون دائبون على مدرواته بالقلم ، حتى لقد رُوي في الأثر - مبينـًا لهذا الجهد - (يُوزن مداد العلماء بدم الشهداء يوم القيامة) .

والكتابة العلمية تزحم تراثنا الثقافي ، وتدفع به إلى الطليعة في المواريث الأدبية لأهل الأرض ، بل نستطيع الجزم بأن دينـًا من الأديان ، أو مبدأ من المبادئ لم يصنع الحركة العقلية الجبارة التي صنعها الإسلام في العالم ، والتي أنشأ بها حضارة مازالت فيها كل الغنى بأسباب القوة والازدهار ، والمنقبون الآن في مخلفات الفكر الإسلامي كأنما ينقبون في أرض مليئة بآبار البترول أو مناجم الذهب والحديد ، كلما بحثوا عثروا على كنوز مدفونة ، وخير خبيء ، وعظمة غطاها التراب !!

ولا عجب ، فإن الفجر الذي طلع به القرآن الكريم على الوجود ، أنعش العقل الإنساني إنعاشـًا لا نظير له ، وأطلقه ينشط ويجوب ويكدح .

وإذا كان هناك مأخذ على هذا النشاط ، فهو أنه بلغ أحيانـًا حد الإسراف الذي يجهد ولا يغني .

وطبيعي أننا في تلك الأوراق المحدودة لا نؤرخ ولا نتابع الكتابة العلمية لنشر الدعوة الإسلامية وإيضاح أصولها وفروعها ، فذاك مبحث تفرد له مجلدات ، وإنما نريد هنا إثبات ملاحظتين صغيرتين تتعلقان بموضوعنا :
أولاهما : أن الكتابة الأدبية في خدمة الإسلام ليس لها اتساع الكتابة الفنية وانتظامها، وأعني بالكتابة الأدبية ما يذكي العاطفة الإنسانية بعد ربطها بالإسلام ، وأخذها بتعاليمه وعباداته ، وقد تكون للصوفية كتابات ، وأخطاؤهم الكثيرة تشوب هذا اللون من الأدب وتجعل الاستفادة منه عسرة أو خطرة .

وفي عصرنا هذا ارتقت الكتابة الأدبية التي أنوِّه بها في آثار رجلين جليلين هما: الشاعر الهندي محمد إقبال، والأديب العربي مصطفى صادق الرافعي في كتابه ( وحي القلم ) ، والذي أريده ، لون من الأدب الديني يرسم معالم الإسلام كما يرسم الشاعر المفتون بالطبيعة الحدائق الناضرة ، والسماء الضاحية ، والنجوم الزهر ، والليل الساجي . نحن فقراء في هذا الضرب من الكتابة الراقية ، مع شدة الحاجة إليها في تربية العواطف وصقلها باسم الله .

والملاحظة الأخرى: أن الكتابة العلمية - التي استبحرت قديمـًا ثم جمدت أيام الانحلال والتخلف وهجوم الاستعمار ـ لا تزال دون تقدم الوعي الإنساني في هذا العصر ، ودون اتساع دائرة التعلم والتعليم ، وانكماش الأمية الفكرية في كل قطر .

إن المحدثين مازالوا عالة على القدامى ، ولولا صلاحية القرآن لشتى الأعصار لكان تخلف المسلمين العلمي سببـًا في زوالهم ، والمطلوب أن ينتفض الجيل المعاصر انتفاضة الحياة ، ويشرع في خدمة الإسلام ، الخدمة العلمية المناسبة لهذا العصر .

وإني لأذكر - محزونـًا مكروبـًا - أن العلماء المجددين لأمر الإسلام يكافحون في وجه عنت هائل ، ويبذلون جهود الجبابرة ثم يطويهم الجهل والغمط والنكران ، فما يكاد ينتفع بآثارهم إلا الأقل الأقل .

لقد مات محمد فريد وجدي بعد حياة مليئة بالمجد العلمي ، وها هو ذا قد مرت بضع سنين على موته ، فما ذكره أحد بكلمة رثاء ، ولا طبع له كتاب نقد ، ويوشك أن يطويه ومؤلفاته النسيان ، فما هذا ؟ والحال كذلك بالنسبة إلى الشيخ محمد رشيد رضا ، العالم الأديب الجليل الشأن ، وأعرف غيرهم من أصحاب الأسماء التي لم تحظ بالشهرة ، وإن أسدت للإسلام أعظم المنافع ، فالشيخ أحمد عبد الرحمن البنا ، رتّب " مسند ابن حنبل " وفق الأحكام الفقهية في خمسة وعشرين مجلدًا ، ومع ذلك فقد ترك الدنيا وكأنه رجل أمي لم يخط حرفـًا ، فضلاً عن أن ينشئ هذا العمل الضخم ، وإن قليلاً جدًا هم الذين أحسُّوا فقده ، ولسنا نأسى على الموتى ، فقد أفضوا على الله تعالى الذي يضاعف الحسنات ، وإنما نأسى على الأحياء الذين لا يحسنون الانتفاع بثمرات المجددين الذين عاشوا مع الزمن يدفعون عن الإسلام ، ويحرسون أركانه ، ويجلون بريقه .

إن الكتابة العلمية الواجبة في هذا العصر يجب أن تتسع وتطرد ، وهناك أمور ذات بال نحب أن نلفت إليها حتى يؤدي القلم حق الإسلام عليه في ذكاء وحصافة ومقدرة ، وفق مقتضيات الأزمان

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة