الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تاريخ دمشق لــ"ابن عساكر"

تاريخ دمشق لــ"ابن عساكر"

تاريخ دمشق لــ"ابن عساكر"

أحب الحافظ ابن عساكر دمشق التي ولد فيها وحضنته صغيراً فوفاها حقها من خلال تأليف كتابه الشهير "تاريخ دمشق".
ويعدُّ التاريخ الكبير تاريخ دمشق لمحدث الشام ومؤرخها الحافظ ابن عساكر النور الساطع واللؤلؤة المضيئة بين كتب التاريخ، الذي يؤرخ لأعرق مدينة في التاريخ، وقصد من خلاله إلى جمع كل ما تناثر على أرض الشام من حكمة ومعرفة وتاريخ، راسماً تاريخها وحضارتها. وقد توسع ابن عساكر في كتابه حتى صار ديواناً شاملاً لكل ما كتب عن دمشق وترجماناً لكل من مرَّ بالشام أو علم بها أو تعلم بها أو تحدث عنها بإحسان.
يقول ابن خلكان: "ما أظن هذا الرجل (ابن عساكر) إلا عزم على وضع التاريخ من يوم عقل على نفسه. وإلا فالعمر يقصر على أن يجمع الإنسان مثل هذا الكتاب".

اسم الكتاب ووصفه:
سمى أبو القاسم بن عساكر كتابه: "تاريخ مدينة دمشق، وذكر فضلها وتسمية من حلها من الأماثل أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها"، هذا الكتاب الذي لم يصنف مثله، نستطيع أن نصفه بأنه موسوعة بحق، فمن طلب الحديث وجده فيه، ومن طلب التاريخ وجده فيه، ومن طلب اللغة وجدها فيه، ومن طلب أخبار الناس وأحوالهم وجد ذلك فيه، إلى غير ذلك من العلوم الكثير.
وعندما يؤرخ لمدينة دمشق تخصيصاً لا يقتصر على الجانب التاريخي بل يتعداه إلى جغرافية المدينة لأنه أدرك بحس العالم وحس المؤرخ أنه لا انفصام بين التاريخ والجغرافيا، فالجغرافيا هي المسرح التي تحدث عليه وقائع التاريخ وهي من أهم المؤثرات التي تؤثر في الإنسان وبالتالي في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية.

فالموقع الجغرافي للمدينة الذي حباها الله به كان له أثرٌ في دورها الحضاري عبر مختلف العصور وإذا كان تاريخ الطبري يُعدُّ أغنى المصادر عن تاريخ الفرس، فإنَّ تاريخ ابن عساكر أغنى المصادر عن تاريخ العرب المسلمين من نقطة الانطلاق الأولى وعلى امتداد الرقعة الجغرافية التي وصل إليها الإسلام، خصوصاً في الحقبات التاريخية التي كانت دمشق عاصمة الحياة العربية ومصدر القرار ومحجة وفود الجماعات والرجالات من الجزيرة والعراق وفارس وما وراء النهرين وأقصى الشرق ومصر وإفريقيا وأطراف المحيط، كما كانت مركز تجمع ومنطقة حشد وقاعدة عمليات للجيوش التي وصلت شرقاً حتى حدود الصين وغرباً حتى اجتازت المحيط وعبرت إلى إسبانيا وجنوب أوروبا، كما العمليات البحرية أيضاً جنباً إلى جنب حتى أصبح حوض البحر الأبيض المتوسط بسواحله شرقاً وغرباً بحيرة عربية، أليس من دمشق كانت تنطلق قوات الصوائف والشواتي لسد الثغور والدروب ورد غارات بيزنطة عن حدود الشام؟ ومن دمشق أيضاً انطلقت جحافل صلاح الدين لطرد الصليبين وتحرير القدس، كما لم تكن دمشق بمعزل عن الحياة والمشاركة فيها في كل العهود.

إنَّ تاريخ دمشق هو تاريخ حضاري للعالم العربي والإسلامي منذ ما قبل البعثة النبوية وحتى عصر المؤلف الذي يقف عند سنة 571، وكأنَّ الحافظ ابن عساكر أراد أن يؤرخ للعالم العربي والإسلامي على امتداد رقعته الجغرافية شرقاً وغرباً من خلال تلك المشكاة المشعة دمشق الشام، فكان بتاريخه الكبير الموسوعي الفذ شيخ المؤرخين ومؤرخ الحفاظ والمحدثين، وقد أتى الكتاب في ثمانين مجلداً، أورد فيها المصنف التاريخ على نحو تراجم، فهذا الكتاب ليس من نوع الحوليات التاريخية التي تعالج التاريخ سنة بعد أخرى، وليس من نوع كتب الحوادث التي تعالج أمة من الأمم أو سلسلة من الغزوات والفتوح أو سيرة عظيم من العظماء أو واقعة من الوقائع، وإنما هو قبل كل شيء كتاب تراجم، ثم هو بعد ذلك كتاب حديث، ولم يقتصر في كتابه تاريخ دمشق على وصف المدينة بل تحدث عن تاريخها والرجال العظام الذين مروا فيها، ثمَّ تحدث عن النساء اللواتي كان لهن أثراً عظيماً في رسم معالم هذا التاريخ وتلك الحضارة.
والكتاب موسوعة في الأدب شعراً ونثراً، فضلاً عن كون الحافظ ابن عساكر نفسه شاعراً وأديباً وكان يختم مجالسه بقطعة من شعره.

وأكل الكتاب شباب ابن عساكر وكهولته، ثم قام ولدهُ القاسم بتنقيحه وترتيبه في صورته النهائية تحت بصر أبيه وعنايته، حتى إذا فرغ منه سنة 565هـ قرأه على أبيه قراءة أخيرة، فكان يضيف شيئاً، أو يستدرك أمراً فاته، أو يصوب خلطاً، أو يحذف ما يراه غير مناسب أو يقدم موضعاً أو يؤخر مسألة، حتى أنهاه في نفس العام ، وهي السنة التي أتم فيها تأليف تاريخه وصقله، وأصبح على الصورة التي نراها الآن بين أيدينا، والمجلد الأخير الذي وصل إلينا هو ترجمته للنساء. يقول الحافظ ابن عساكر: "هذا آخر ما يسر الله جمعه من هذا الكتاب والله الموفق".
وانتهى من تصنيفه في مرحلته الأولى سنة 549 هـ ، ثم أخذ يزيد فيه ويضم إليه ما يستجد عنده حتى تمت نسخته الجديدة والمؤلفة من ثمانين مجلداً سنة 559 هـ.

ويقول ياقوت الحموي في معجم الأدباء (13/76) وجمع وصنف فمن ذلك: كتاب تاريخ مدينة دمشق وأخبارها وأخبار من حلها أوردها في خمسمئة وسبعين جزءاً من تجزئة الأصل والنسخة الجديدة ثمانمئة جزء.
ويقول الذهبي في السير (20/ 558): وصنف وجمع فأحسن فمن ذلك تاريخه في ثمانمئة جزء.
لم يكن تاريخ ابن عساكر أول تاريخ لدمشق والشام ولم يكن تاريخ دمشق الأول من نوعه بين كتب تاريخ المدن، فقبله ألف "تاريخ الرقة " للقشيري و"تاريخ أصبهان" لأبي نعيم و"تاريخ نيسابور" للحاكم و"تاريخ بغداد" للخطيب وهو أهم ما أنتج قبله.

منهج ابن عساكر في تاريخه:
يمكن الكلام على منهج الحافظ ابن عساكر في تاريخه في النقاط التالية:
1. بدأ المؤلف كتابه بمقدمة حافلة، تحدث فيها عن كتابه وعمله ونهجه فيه .
2. سلك في تاريخه هذا منهج المحدثين، فهو يبدأ بذكر السند ثم يورد الخبر.
3. ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه: تراجم من دخل مدينة دمشق ونزل بها من الصحابة والتابعين, والعلماء والأمراء, والأفاضل وغيرهم.

4. رتب أسماء المترجمين على حروف المعجم, مقدماً تراجم من اسمه أحمد على غيره، مع مراعاة الحروف في أسماء آبائهم وأجدادهم، وأردف ذلك بمن عرف بكنيته ولم يقف على حقيقة تسميته، ثمَّ بمن ذكر بنسبته، وبمن لم يسم في روايته، وأتبعهم بذكر النسوة والإماء.

5. يقدم ابن عساكر المادة الأولية للترجمة مسندة في كلِّ جزئية من جزئياتها حتى في الاسم أو الكنية أو يوم الوفاة، وتتعدد صور الخبر بتعدد الأسانيد التي انتهت إليه والروايات التي جاء عليها، وقد تتكاثر الأسانيد على خبر واحد في صورة واحدة أو صور متقاربة.. ولهذا فإن كل ما عند ابن عساكر في تاريخه يدور في هذين القسمين الكبيرين: الأسانيد والأخبار.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة