الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تمسك الأسرة المسلمة بالآداب الإسلامية مع تحمل الأذى في سبيل ذلك

السؤال

السلام عليكم.

أنا رجل في السادسة والثلاثين من عمري، وقد رزقني الله تعالى منذ أكثر من عامين بزوجة ذات دين وخلق وحسب ونسب وثقافة وعلم، وقد عزمنا منذ اللحظة الأولى لزواجنا على أن نجتهد لإرضاء الله، ونجتهد لإقامة الدين في بيتنا، فلا ندع فرضاً من فروض الله إلا وأقمناه، ولا ندع سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا واقتدينا بها وأقمناها.
وقد كان كل منا قبل الزواج بمدة غير طائع لله، يعيش كما يعيش كثير من الناس في البعد عن الدين، والبعد عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالفعل فقد بدأنا حياتنا سوياً بهذه النية، وحرصنا كل الحرص على إرضاء الله عز وجل، عن طريق الفرائض والسنن، وعن طريق بر الوالدين، وصلة الأرحام، والصدقات، وحسن الجوار، وحسن المعاملة مع الناس قدر الاستطاعة.

وبعد الزواج قررت زوجتي -حفظها الله ورعاها- أن تترك العمل الذي كانت تعمل به بمحض إرادتها، ورعاً واتقاء للفتن التي تحدث نتيجة اختلاط الرجال بالنساء في هذه المهنة بالذات، وبالرغم أنها كانت تتجنب هذا الاختلاط بقدر المستطاع، إلا أنها آثرت ترك هذا العمل لأسباب أخلاقية أخرى -لا داعي لذكرها الآن- زادت من إصرارها على الاستقالة.

ولم يلبث والدي أن علما بهذا الأمر حتى أقاما الدنيا علىّ، وتعرضت منهما للوم الشديد، ظناً منهما أنني قد أمرتها بذلك، وحاولت محاولات شتى لإفهامهما أنها هي التي قررت هذا من تلقاء نفسها دون جدوى، فهم يظنان أنني منذ التزامي وتوبتي عن المعاصي التي كنت أقترفها قد أصبحت متشدداً ومتطرفاً في الدين إلى أبعد حد.

فهل الصلاة في المسجد تشدداً؟ هل قراءة القرآن تطرفاً؟ عدم الخروج إلى أماكن اللهو المحرم تزمتاً؟ المهم! ومن ثم قام والدي -حفظهما الله وجزاهما عني خير الجزاء في الدنيا والآخرة- بحث أقاربنا ومعارفنا على مناقشتي حتى أعيد زوجتي إلى العمل، ولك أن تتخيل مدى البلاء الذي تعرضت له، فمنهم من يناقش بالعقل، ومنهم من يلقي باللوم جزافاً، ومنهم من يسخر ويستهزئ.

والحمد لله فقد أعانني الله على صد كل تلك الهجمات، ومن ثم هدأت العاصفة، وبعد ثلاثة شهور من تلك الوقعة قررت زوجتي -حفظها الله ورعاها- أن ترتدي النقاب -بمحض إرادتها- إرضاءً منها لله عز وجل، ودون أمر مباشر مني أو حتى إيحاء بذلك، إلا أنني كنت دوماً أدعو الله تعالى أن يقيمنا على الدين الصحيح، وأن يرضى عنا، وكان ذلك قبيل شهر رمضان المبارك ببضعة أيام، وكانت هذه الطامة الكبرى بالنسبة لوالدي فضلاً عن والديها.

فقد نهرتها أمها -حفظها وجزاها عن زوجتي خيراً وهداها- وسبتها وطردتها خارج منزلها لحظة أن علمت بهذا الأمر، بينما مكثتْ والدتي -حفظها الله وجزاها عني خيراً وهداها- الليالي تبكي وتنتحب كما لم تفعل عند وفاة والدها. وحدثني والدي -حفظه الله ورعاه وجزاه الله عني خيراً- حديثاً مفاده أن هذا الأمر غلو صارخ في الدين، وأن هذا كان من بدع السلف حيث لم تكن المرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تستر وجهها عن الرجال الأجانب، وهو حتماً لا يرضي الله، ومن ثم لا يرضيهما أيضاً، كما أن هذا معناه أن زوجتي لن تجلس للطعام على طاولة واحدة مع أختي الوحيدة وزوجها، كما أن هذا الأمر سوف يمنعنا من زيارة الأقارب والاجتماع في المناسبات التي يختلط فيها الرجال بالنساء، ومما سيترتب عليه قطع الأرحام، كما أنني بهذا العمل -أي: إرغام زوجتي على النقاب (هكذا يظنون)- قد دلست عليها وعلى والديها حقيقتي المتشددة المتطرفة المتزمتة. بالرغم من أن صلتي بوالدي زوجتي من أفضل ما يكون، إذ إنهم يحبونني ويوقرونني.

وبعدها فقد أوضحت لوالدي أن هذا الأمر لن يسبب عائقاً أمام زيارتنا لهما والاجتماع على الطعام، مع احتفاظ زوجتي بالنقاب في حال وجود زوج شقيقتي، ولكنهما رفضاً هذا، حيث أبلغاني بأنهما يكرهان منظر المرأة المنتقبة ويبغضانه بغضاً شديداً. ولذا آثرت تجنب هذا الموقف خوفاً على شعور والدتي التي ما زالت تعيش في حزن وكآبة جراء ارتداء زوجتي النقاب، وحتى لا أعرض زوجتي لمواقف قد تفتنها في دينها وتزلزلها وهي حديثة عهد بالتزام.

وقد قاطعني والدي خلال شهر رمضان، وبالرغم من ذلك فقد كنت أذهب لزيارتهما والاطمئنان عليهما وعلى صحتهما، ولكنهما كانا يعاملاني معاملة سيئة جداً، حيث أنني دائماً حريص على إرضائهما وعدم جرح شعورهما بأي شي، فهما حقيقة لم يدخرا جهداً ولا مالاً ولا وقتاً من أجل إسعادي أن وشقيقتي منذ أن كنا أطفالاً رضع، حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذا الكتاب.

ولذا كل ما يرداه مني -بالرغم من بري لهما بشتى الطرق- أن آمر زوجتي بخلع النقاب ومخالطة أقاربي من الرجال، وحتى نعود للجلوس على طاولة واحدة مع شقيقتي وزوجها دون عوائق أو موانع.
وكلما هممت بزيارة أحداً من الأقارب، إلا ويقومان -حفظهما الله ورعاهما- بإثنائه عن استقبالنا في بيته، ثم يقولان لي: كيف تذهب لزيارة أقاربك وأنت بهذا الوضع؟! لا تذهب فتعرض نفسك للإحراج. وهكذا فقد آثرت ألا أعرض زوجتي لمثل هذه المواقف المحرجة التي قد تعصف بها وتردها على عقبيها بعد أن انتقبت إرضاء لله عز وجل.

ومن ثم قررت الذهاب إلى أقاربي بمفردي، وأتحمل في ذلك اللوم العتاب والمناقشات والمصادمات -كان كل ذلك في رمضان- وقد زاد الوضع تأزماً عندما رُزقت بعد ذلك بعدة شهور بطفل جميل -بفضل الله تعالى- ولكن هذا الطفل وُلد بمرض من الأمراض المعقدة والنادرة في القلب، الأمر الذي جعل والدينا وأقاربنا يتأكد لديهم أن هذا هو عقاب من الله لنا، فقد أوضحت والدة زوجتي - حفظها الله ورعاها- أنه لو كان ما نحن عليه هو الخير الذي يرضي الله ما عاقبنا بهذا الطفل! وأن الله قد شدد علينا حياتنا؛ لأننا شددنا على أنفسنا في الدين، حيث أن علاج هذا المرض يتطلب السفر إلى البلاد الأوروبية حيث الطب المتطور، والذي حتماً لن يستقيم مع وجودنا بهذا الالتزام، ومن كثرة وقع هذا الكلام وهذا اللوم فقد أصبحت حيراناً!

فهل ما فعلته زوجتي يعتبر تشدداً؟ وهل يجب علينا أن نطيع والدينا في هذا الأمر؟ وهل هذا حقاً عقاب من الله، أم هو ابتلاء وتمحيص؟
وكيف يمكن إرضاء والدي وبرهما دون الوقوع فيما يغضب الله؟ علماً بأنني أبرهما بقدر ما أوتيت من وقت وجهد.

وجزاكم الله خيراً.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ أمين حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فبداية أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يثبتك أنت وزوجتك على الحق، وأن يكثر من أمثالكما في المسلمين، وأن يجزيكما عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يربط على قلبيكما، وأن يجعل لكم من لدنه ولياً ونصيراً، وأن يرزقكما حلاوة الإيمان، وزيادة محبة الرحمن، وأن يحشركما في زمرة سيد الأولياء، وإمام الأتقياء محمد صلى الله عليه وسلم يوم اللقاء.

أخي: أقول لك بكل قوة وعزم وصدق: بارك الله فيك وفي زوجتك ألف مرة ومرة، وكم أنا فخور حقاً، وسعيد من أعماق قلبي بهذه المواقف الرائعة التي أكرمكما الله بها، وأقول لك: أثبت أنت وزوجتك على الحق، واعلم أن الله معك ولم ولن يتخلى عنك حتى وإن تخلى عنك أو نفر منك ومن زوجتك أهل الأرض جميعاً، فحسبك الله وهو كافيك ومعينك، وما تمر به أنت وزوجتك إنما هو نوع من الاختبار والامتحان ليرى الله - وهو أعلم - مدى صدقكما في محبته والالتزام بشرعه، وأبشر فإن فرج الله قريب، وإن نصر الله لآت بإذنه جل جلاله، وما حدث لولدك فهو نوع من الاختبار كذلك، ولقد حدث مثله لنبيك صلى الله عليه وسلم، إذ عيره أهل مكة بأنه ليس له ولد ذكر، وأنه لو كان نبياً لأعطاه الله الذكور بدل الإناث، وفي غزوة الأحزاب وحفر الخندق يموت الصحابي الجليل أسعد بن زرارة في لحظات حرجة، حتى قال المنافقون: لو كان نبياً ما مات صاحبه، فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: ( يقولون: لو كان نبياً ما مات صاحبه، ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئاً).

فيا أخي الكريم! اثبت على الحق، واعلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، مع ضرورة مواصلة إكرام هؤلاء الأفاضل من والديك ووالديهما، واقتلهم بالإحسان والتواضع والرحمة، وعليك بالدعاء لهم جميعاً بالهداية والمحبة الصادقة لله ورسوله، وإياك أن تلتفت وراءك بعد أن ودعت ما كنت عليه من غفلة وضياع، خذ بيد امرأتك إلى الله وسيراً معاً في عناية الله ورعايته، واحرصا على المزيد من الطاعة له ولرسوله، وأبشر، فوالله ثم والله لن يضيعك الله، ولم ولن يتخلى عنك ما دمت صادقاً في حبك له، حريصاً على مرضاته.

وهناك سلاح آخر أريدك أن تدخله المعركة مع هذا البلاء، ألا وهو سلاح الدعاء، عليك بسهام الليل؛ فإن سهام الليل لا تخطئ، أكثر أنت وزوجتك من الدعاء لأهلك ولشفاء ولدك وللثبات على الحق.

ومسألة ذهاب امرأتك إلى أوروبا أو غيرها لا تشغل بالك به، فلقد رأيت بنفسي في كثير من دول العالم أخوات متنقبات رؤوسهن عالية تناطح السماء بعظمة الإسلام والاعتزاز بالحجاب الشرعي الذي يميزها عن غيرها من المسلمات وغيرهن، فهذه قضية شائعة لا تشغل بالك بها، وابحث في بلدك أو غيرها عن علاج لولدك، والله الله في الدعاء؛ فإن الله قادر أن يصرف السوء عن ولدك دون علاج البشر جميعاً، وأكثر أنت وزوجتك من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنية أن يشفى الله ولدك، صلوا بالآلاف على الحبيب، وسترى عجباً إن شاء الله، وأكرر لك ولأهلك الدعاء بالثبات، وعدم التراجع مهما كانت التحديات، ويسعدنا أن تكون صديقاً دائماً لموقعنا، فأهلاً وسهلاً ومرحباً بك في أي وقت وحين.

مع خالص تمنياتنا لك بالتوفيق، وأعدك أننا سندعو لك جميعاً ونحن صيام في شهر رمضان المبارك.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك
  • مصر اسلام

    بارك الله فيكم

  • مصر امة الله

    ما اجمل الحياة فى طاعة الله

  • المملكة المتحدة مسلم

    بارك الله بكما وثبتكما علي الحق

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً