الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف أكون راضية بما قسمه الله لي؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا كثيراً ما أعاني من قلة ثقة ورضا بنفسي وبشكلي الخارجي وقلة إنجازاتي، ودوماً ما أتأثر حين أرى أي بنت جميلة، أو أي أحدٍ ناجح في حياته وأنا لا، وأظل أقارن نفسي بهم حتى أدخل في حالة مزرية جداً من الاكتئاب والحزن البكاء المفرط، كيف أجد حلاً لهذا الأمر وأرضى بنفسي وشكلي وبما قسمه الله لي؟

وجزاكم الله كل خير.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ مريم حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلاً بك -أختنا الكريمة- في موقعك إسلام ويب، ونحن سعداء بتواصلك معنا، ونسأل الله أن يبارك فيك، وأن يحفظك، وأن يقدر لك الخير حيث كان وأن يرضيك به.

أختنا الكريمة: أن معرفة الداء نصف الدواء، وقد أحسنت حين وضعت يدك بمهارة على الجرح، وعلمت أن ضعف الإيمان والرضا بقسم الله هو الذي أوصلك إلى ما لا تحبين ولا يرضاه دينك.

وعليه فحديثنا معك اليوم سينصب حول العلاج، وسنكتبه في نقاط حتى يسهل عليك الرجوع إليه:

أولاً: العلم واليقين بحكمة الله الملازمة لقضائه وقدره، أول ما ينبغي عليك الإيمان به، وساعتها ستوقينين بأن اختيار الله لك خير من اختيارك لنفسك، لأن الله أعلم بما يصلحك، ورب عطاء في جوفه المنع، ورب منع في حقيقته العطاء، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

ثانيا: القراءة في هذا الباب -نعنى الإيمان التام بالقضاء والقدر وحكمة الله الملازمة له- عامل مساعد وقوي في تجاوز هذه المرحلة، وسننقل لك بعض الآثار في ذلك:
1- قال ذو النون:
ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الرِّضَى.
- تَرْكُ الِاخْتِيَارِ قَبْلَ الْقَضَاءِ.
- وَفُقْدَانُ الْمَرَارَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ.
- وَهَيَجَانُ الْحُبِّ فِي حَشْوِ الْبَلَاءِ.
وهذا يحتاج إلى إيمان تام، ناتج عن علم صحيح، وتدريب النفس عليه

2- قيل للحسن بن علي -رضي الله عنهما-: إِنَّ أَبَا ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ:
الْفَقْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْغِنَى،وَالسَّقَمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الصِّحَّةِ.
فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ، أَمَّا أَنَا، فَأَقُولُ: مَنِ اتَّكَلَ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ، لَمْ يَتَمَنَّ غَيْرَ مَا اخْتَارَ اللَّهُ لَهُ.

3- قال الفضيل بن عياض لبشر الخافي: الرِّضَى أَفْضَلُ مِنَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا. لِأَنَّ الرَّاضِيَ لَا يَتَمَنَّى فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ.

4- وَسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْأَلُكَ الرِّضَى بَعْدَ الْقَضَاءِ.
فَقَالَ: لِأَنَّ الرِّضَى قَبْلَ الْقَضَا، عَزْمٌ عَلَى الرِّضَى.
وَالرِّضَى بَعْدَ الْقَضَا، هُوَ الرِّضَى.

5- كتب عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الرِّضَى، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَرْضَى، وَإِلَّا فَاصْبِرْ.

6- قال أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ: مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، مَا أَقَامَنِي اللَّهُ فِي حَالٍ فَكَرِهْتُهُ، وَمَا نَقَلَنِي إِلَى غَيْرِهِ فَسَخِطْتُهُ.

هذه النقول وغيرها كثير تظهر لك علاقة الرضى بالإيمان، وعلاقة الإيمان بالقضاء والقدر الملازم لحكمة الله عز وجل باختيار الله لك بعد بذلك الأسباب كافة.

ثالثا: للإمام ابن القيم في مدارج السالكين كلام هام في هذه النقطة، وقد ذكر عدة عوامل مساعدة ننقلها بتصرف:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُفَوّضٌ، وَالْمُفَوّضُ رَاضٍ بِكُلِّ مَا اخْتَارَهُ لَهُ، مَنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا عَلِمَ كَمَالَ حِكْمَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَلُطْفِهِ، وَحُسْنِ اخْتِيَارِهِ لَهُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ جَازِمٌ بِأَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وَلَا رَادَّ لِحُكْمِهِ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْبَلِيَّةِ، وَالنِّعْمَةِ بِقَضَاءٍ سَابِقٍ، وَقَدَرٍ حَتْمٍ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَبْدٌ مَحْضٌ، وَالْعَبْدُ الْمَحْضُ لَا يَسْخَطُ جَرَيَانَ أَحْكَامِ سَيِّدِهِ الْمُشْفِقِ، الْبَارِّ النَّاصِحِ الْمُحْسِنِ، بَلْ يَتَلَقَّاهَا كُلَّهَا بِالرِّضَى بِهِ، وَعَنْهُ.

الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُحِبٌّ، وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ مَنْ رَضِيَ بِمَا يُعَامِلُهُ بِهِ حَبِيبُهُ.

الْخَامِسُ: أَنَّهُ جَاهِلٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَسَيِّدُهُ أَعْلَمُ بِمَصْلَحَتِهِ، وَبِمَا يَنْفَعُهُ.

السَّادِسُ: أَنَّهُ لَا يُرِيدُ مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَوْ عَرَفَ أَسْبَابَهَا، فَهُوَ جَاهِلٌ ظَالِمٌ، وَرَبُّهُ تَعَالَى يُرِيدُ مَصْلَحَتَهُ، وَيَسُوقُ إِلَيْهِ أَسْبَابَهَا.
وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهَا: مَا يَكْرَهُهُ الْعَبْدُ، فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُ فِيمَا يَكْرَهُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَصْلَحَتِهِ فِيمَا يُحِبُّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19].

السَّابِعُ: أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ قَدْ سَلَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ فِي جَرَيَانِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسْخَطْ ذَلِكَ.

الثَّامِنُ: أَنَّهُ عَارِفٌ بِرَبِّهِ، حَسَنُ الظَّنِّ بِهِ، لَا يَتَّهِمُهُ فِيمَا يُجْرِيهِ عَلَيْهِ مِنْ أَقَضَيْتِهِ، وَأَقْدَارِهِ، فَحُسْنُ ظَنِّهِ بِهِ يُوجِبُ لَهُ اسْتِوَاءَ الْحَالَاتِ عِنْدَهُ، وَرِضَاهُ بِمَا يَخْتَارُهُ لَهُ سَيِّدُهُ سُبْحَانَهُ.

وبناء على ما مر -أختنا الكريمة-، فإن كل ما فاتك بعد أخذك بالأسباب الصحيحة هو الخير لك، فلا تحزني عليه، ولا تتألمي لفواته، واعلمي أن ما يصلحك قد يفسد غيرك، وما يصلح غيرك قد يفسدك، فإذا وجدت نعيما عند أحد فلا تظني أن سلبه منك هو الخير لك، بل الإيمان التام هو الخير لك على ما مر ذكره.

ومع كل هذا ننصحك بعدة أمور:
1- طلب الخير والسير إليه ليس من قوادح الدين، بل حثت عليه الشريعة، فاجتهدي وابذلي الوسع في كل عمل مباح شرعا، فإن أتاك فهي الخير، وأن صرف عنك فهو الخير.

2- أكثري النظر في من هم أقلّ منك سعة ومنزلة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّه ﷺ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ" متفقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية البخاري: إِذا نَظَر أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عليهِ في المالِ وَالخَلْقِ فلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ. فهذا تدريب عملي وطريقة نافعة بإذن الله.

3- أدمني الدعاء لله عز وجل، وانشغلي بما يحبه الله من الأقوال والأفعال المرضية، فإن هذا باب واسع من الخير، وفيه منصرف لك عن التفكير في الغير.

نسأل الله أن يوفقك، وأن يرضيك، والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك
  • الجزائر Kouloud

    جزاكم الله خيرا موضوع جميل جدا ورائع

  • السودان مآب مبارك محمد

    الحمد لله قد شعرت براحة كبيرة بعد قراءة هذا

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً