الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الوسواس صور لي كل المشاريع والأعمال المالية أنها حرام

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا فتاة أبلغ من العمر 21 سنة، كانت لي أحلام عديدة، من بينها ترك بصمة في هذه الأمة، ولكن مع مرور الوقت اكتشفت أن عدة أمور كنت أريدها تتعارض مع الدين، ثم تفاقم الوضع وصرت أعاني من وسواس لا يتركني أبداً، صرت أرى كل شيء حراماً فعلياً، ورغم فتاوي العلماء يبقى الشك، ودائماً ما يراودني حديث: (استفت قلبك ولو أفتاك الناس).

أصبت بوسواس المال الحرام، فأرى أن تقديم دروس الدعم يعتبر حرامًا بالنسبة للبالغات، حيث أنني أساعدهم على الاختلاط، أما بالنسبة للصغار: فأنا أهدر مالهم، وأساعدهم على تثبيط استعمال عقولهم.

ثم فكرت في فتح محل لبيع المواد الغذائية، وبدأ الوسواس أن كل الأغذية تحتوي على مواد حافظة، وهي تسبب السرطان، إذاً فهو حرام، ثم في محل لبيع الخضروات، فأتاني الوسواس؛ الخضروات تستعمل في طبخ أطعمة غير صحية، فهي حرام، ثم في محل لبيع الحلويات .. للأعراس التي تقام فيها المعازف، وهذا إعانة على الإثم فهو حرام، ثم بيع أدوات الديكور .. وهذا مما لا حاجة للمسلم به، فهو من التبذير وهو حرام، وكلما حاولت الإقبال على مشروع، تأتيني فكرة أنه حرام، وأجد ألف سبب وسبب.

لست أدري إن كان ذلك من وسوسة الشيطان، أم أنه تابع لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، إنني أعاني من هذا الأمر لأكثر من سنة ونصف، ساعدوني، بارك الله فيكم.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ أمينة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلاً بك -أختنا الكريمة- في موقعك إسلام ويب، ونسأل الله الكريم أن يبارك فيك، وأن يحفظك، وأن يقدر لك الخير حيث كان، وأن يرضيك به.

وبخصوص سؤالك، اعلمي -أيتها الفاضلة- ما يلي:
أولاً: أنت على خير كبير، وقد أتاك الشيطان من الجانب الخيّر فيك، يريد أن يزعزع تدينك، ويشغلك بأمور محسومة في الشرع، لكن جهلك بها هو الذي أصابك بهذا التخبط والقلق طيلة عام ونصف.

ثانياً: حديث (استفت قلبك) الذي تحدثت عنه، نريد أن نذكره لك بتمامه ثم نخبرك بالمعنى، الحديث عن وابصة بن معبد -رضي الله عنه- قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البر والإثم إلا سألت عنه، فقال لي: (أدن يا وابصة، فدنوت منه؛ حتى مست ركبتي ركبته، فقال لي: يا وابصة، أخبرك عما جئت تسأل عنه؟ قلت: يا رسول الله، أخبرني. قال: جئت تسأل عن البر والإثم. قلت: نعم. فجمع أصابعه الثلاث، فجعل ينكت بها في صدري، ويقول: يا وابصة، استفت قلبك، والبر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك).

هذا الحديث صححه جمع من أهل العلم، لكنهم ذكروا أن الاستفتاء يكون للنفس المطمئنة الموهوبة نورًا التي عندها من العلم الشرعي ما تفرق بين الحق والباطل، والصدق والكذب، يقول الإمام القرطبي -رحمه الله-: "هذا إنما يصح ممن نور الله قلبه بالعلم، وزين جوارحه بالورع، وعليه، فليست كل نفس صالحة لذلك، خاصة من ابتلي بالوسوسة، فهو دائم الشك، وهذا من الشيطان لا محالة، وسيصعب عليه التفريق بين ما اطمأنت إليه نفسه، وما تركه الشيطان في صدره، وعليه ساعتها أن يترك كل ما تردد في نفسه، ويأخذ بقول عالم واحد ثقة لا غير".

يقول الشيخ العباد: الذي اختلف فيه الإنسان يرجع إلى أهل العلم ممن يثق بعلمه ودينه في أمر يعمل به، فإذا أرشده من يثق بعلمه ودينه أخذ به، أي صار واجباً الأخذ به دون النظر إلى هواه أو نفسه.

ثالثاً: اعلمي -أيتها الكريمة الفاضلة- أن الشيطان يريد أن يجرك إلى نقطة مظلمة سوداء، لذا يستخدم معك أسلوب التنطع والتشدد، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- منه فقال: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)، وفي رواية: القصد القصد تبلغوا. وقال: "هلك المتنطعون"، قالها ثلاثاً، قال النووي: المتنطعون المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم، وقال الخطابي: المتنطع المتعمق في الشيء المتكلف للبحث عنه مما لا يعنيه.

ومن التنطع -أختنا- ما حدث معك، ودعينا نسترسل معك لنرى أين سنصل:
لو فتحت محل أغذية أو فاكهة قد يتضرر منها مسلم، والبائع الذي يبيع عليك لو اعتقد اعتقادك لن يشترى من المزارع، والمزارع الذي يزرع الخضروات لو اعتقد اعتقادك لن يزرع، وبذلك يموت المسلمون جميعاً من أجل الشك في تضرر مسلم، هل هذا يعقل؟! ثم ماذا لو كل صاحب مهنة اعتقد هذا؟ إن الحياة كلها ستتوقف على أوهام لا حقائق، والضرر المتوهم سيصبح بذلك ضرراً حقيقياً.

رابعاً: القاعدة التي تغنيك عن كل شيء: اليقين لا يزال بالشك، والأخذ بالظاهر هو الواجب، وليس عليك التنقيب عن السرائر. استمعي معنا إلى ما رواه مالك في موطئه، وعبد الرزاق في مصنفه، وغيرهم: أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضاً، فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: (يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ -سؤال قد يكون مشروعاً، وهو يتعلق بنجاسة الماء من عدمه، وهو أمر خطير-، فماذا فعل عمر؟! استمعي، قال عمر بن الخطاب: (يا صاحب الحوض لا تخبرنا؛ فإنا نرد على السباع وترد علينا).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الاحتياط بمجرد الشك ليس مستحباً ولا مشروعاً، بل ولا يستحب السؤال عن ذلك. وقد ثبت: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- توضأ من جرة نصرانية مع قيام هذا الاحتمال، ومر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وصاحب له بميزاب، فقال صاحبه: (يا صاحب الميزاب: ماؤك طاهر أم نجس؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب لا تخبره؛ فإن هذا ليس عليه)".

وأخيراً أختنا المباركة: الأصل في الأشياء الإباحة، وإذا اختلف عليك أمر فسلي عالماً واحداً ثقة، ولا تسألي غيره، فإن أفتاك بالحل فهو حلال، ولا إثم عليك، وإن أفتاك بالحرمة تركت الأمر، وأجرك عند الله محفوظ.

كما ننصحك بعدم الاسترسال مع الوسواس، واحتقاره، والابتعاد عن البيئة السلبية المحيطة بك، والانخراط في العمل الإيجابي، ونود منك الاطلاع على علاج الوسوسة بصورة عامة، وهو موجود في موقعنا.

نسأل الله أن يبارك فيك وأن يحفظك، والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً