الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحسد والتقليد يعكران مسيرة حياتي، فكيف الخلاص منهما؟

السؤال

السلام عليكم.

مشكلتي مع الحسد والتقليد الذي أتعبني وسرق مني الأمل والتفاؤل، وأحاول الدعاء بيقين، وأحسن الظن، ولكن ما أنا فيه وما تعرضت له أوصلني لمرحلة اليأس، بل بدأت أقول: كيف يحسدون ويحقدون ويغتابون ويتشمتون بالآخرين وأمورهم كلها ميسرة، وأنا أعاني من الحسد، وأخاف الشماتة، بل أدعو للآخرين، ولكل من يتشمتون بهم بظهر الغيب، ولكني لا أرى نتيجة.

ما زلت في حسرتي وتعثري، وهم يتمتعون في حياتهم، والأصعب أن الحسد والتقليد الناتج من الحسد قد أشعل الكراهية في قلبي، وبدأت أنتظر أن أرى فيهم آية عن كل الحسد والشماتة التي تعرضت لها، أنا لا أحسدهم، ولكن أريد أن يبتعدوا عني، ولا يقلدوني حتى في أبسط الأشياء، فأنا تعبت كثيراً، واجتهدت حتى وصلت لهدفي، فقاموا بتقليدي حرفياً، ولم يأخذ منهم وقتاً، ولا جهداً، لأنهم يصلون لكل ما يرجون بمالهم وواسطتهم، وأنا لم أستفد شيئاً من إنجازي سوى أني أنرت بصيرتهم، ودللتهم على هذا الطريق، وتعرضت للحسد الذي عطل جميع أموري.

أنا بالرغم من كل هذا كنت أدعو لهم بظهر الغيب بالتوفيق والزواج والذرية، وقد تحققت، ولم تتحقق دعواتي لنفسي، وأحياناً أفضفض لأمي عن ما أنا فيه من ضيق وحسرة وحزن، وأشرح ما فعلوه، وما قالوا، ومن ثم أخشى أن أقع في الغيبة، وأستغفر، وأحاسب نفسي وألومها على كل ما أنا فيه، لكن لا أعلم هل كل هذا بسبب ذنوبي؟ أحاول -بفضل الله- أن ألتزم، وأخشى عقاب ربي كثيراً، ومن ثم أقول: إذا كانت بسبب الذنوب، فماذا عنهم وعن شرهم، ومتى أسترد حقي منهم؟

أنا في ضيق وهم، وأبحث عن الأمل حتى أسترجع قوتي، وأتمسك بالدعاء والتوكل على الله، فأنا أشعر أن ذنوبي تحجب دعواتي بالرغم من استغفاري، ومجاهدة نفسي على الأعمال الصالحة، وليست لي ذنوب كثيرة أو كبيرة، وأنا أتوب وأستغفر قدر المستطاع، ولا أعلم ما المشكلة!

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ ... حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فأهلا بك في موقعك إسلام ويب، وإنا نسأل الله الكريم أن يبارك فيك، وأن يحفظك، وأن يقدر لك الخير حيث كان، وأن يرضيك به، إنه جواد كريم بر لطيف.

أخي الكريم: يبدو أنك من تأثرك بالمشكلة لم تستطع إيضاحها بالقدر المطلوب، فما علمنا من هؤلاء؟ ولا قربهم منك؟ ولا تقليدهم إياك في ماذا؟ ولا حسدهم على ماذا؟ وما طبيعة عملك التي من يقلدك فيها يصل إلى ما وصلت إليه؟ كل هذا سيساعدنا في فهم المشكلة بأبعادها.

لكن على كل نحن فهمنا ما يلي:
- فهمنا أنك وصلت بجهدك إلى عمل ما.
- وأن هناك من يحسدك عليه.
- وأن أمورهم طيبة وحياتهم رغد مع أنهم يحسدون.
- وأنهم يقلدونك حتى وصلوا إلى ما وصلت إليه.
- وأنك تسأل عن الحكمة في ذلك، وهل الذنوب التي وقعت فيها مع العلم أنها ليست كبائر هي السبب أم لا؟

هذا ما فهمنا -أخي-، فإن كان ما فهمناه صحيحاً فهاك الجواب:

أولاً: اعلم -أخي الكريم- أنه لا خير مطلقاً في الحسد، ولا في كل ما يترتب عليه، وقد نهى الله عنه وبين عاقبته فقال: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) [النساء:54-55]. وقال تعالى: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) [الفلق:5].

وقد روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:" لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا"، وروى أبو دواد في سننه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:" إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"، وقال الحسن -رحمه الله-: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد نفَس دائم، وحزن لازم وعبرة لا تنفد. وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: لا تعادوا نعم الله، قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.

ثانياً: لو علمت -أخي الكريم- ما يترتب على الحسد من مضار، لحمدت الله على ما أنت فيه، وإليك بعضها:

1- حلق الدين: روي البزار في مسنده (عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:" دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْبَغْضَاءُ وَالْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ وَهِيَ الْحَالِقَةُ، لَيْسَ حَالِقَةَ الشَّعْرِ لَكِنْ حَالِقَةَ الدِّينِ).
2- انتفاء الإيمان الكامل: (فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ :(لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ الْإِيمَانُ وَالْحَسَدُ).
3- رفع الخير عن الناس: يقول صلى الله عليه وسلم، (لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا).
4- الحسد يأكل الحسنات، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ ».
هذه -أخي الكريم- بعض الآثار على الحاسد، ونسأل الله السلامة.

ثالثاً: الابتلاء في الدنيا لا يدل على غضب الله تعالى، بل على العكس، الابتلاء يدل على محبة الله تعالى لك ما دمت على الصلاح، فقد ذكر أهل العلم أن الابتلاءَ الذي ينزل بالمؤمن يكون سببًا في رفع الدرجات في الدنيا بالتمكين، وفي الآخرة بتكفير الخطايا وتبليغه درجات عليا من الجنة، فقد يكون للعبد منزلة في الجنة، وتكون هذه المنزلة عالية لا يبلغها بعمله وحده، فيبتليه الله -تعالى- بلاء في جسده أو ماله أو ولده أو غير ذلك، حتى يبلغه تلك المنزلة، وقد ورد أن (العبدَ إذا سبقتْ لهُ من اللهِ منزلةٌ لم يبلغْها بعملهِ ابتلاهُ اللهُ في جسدهِ أو في مالهِ أو في ولدهِ ثمَّ صبَّرَهُ على ذلك حتَّى يُبلِّغَهُ المنزلةَ التي سبقتْ له من اللهِ)، وعليه فلا ينبغي الحزن ولا الضيق، خاصة وأنت تعلم أن أشد الناس بلاء أحبهم إليه تعالى، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى المرء على قدر دينه).

رابعاً: تقليد البعض لك يدل على أنك في المقدمة، فاحمد الله أن أوجد من يقلدك لا من تقلده، فأنت رأس والحمد لله، ثم اعلم يقيناً أن ما كان لك في قدر الله لن يأخذه أحد غيرك، فاستبشر خيراً، وأمل في الله كل خير، واعلم أنك معان متى ما استعنت بالله عز وجل.

خامساً: لنا هنا سؤال لك: هل الحسد كله يقع؟ الجواب: أن الحسد لا يقع إلا بقدر الله تعالى، ولا يقع على من التزم الأذكار، فهو بالذكر في وقاية وحماية، وقد ذكر ابن القيم عشرة أسباب للوقاية من الحسد، نجملها فيما يلي:

أولاً: التعوذ بالله واللجوء إليه، والتحصن به، وما تعوذ المسلم بأفضل من المعوذتين: (قل أعوذ برب الفلق)، و(قل أعوذ برب الناس).

ثانياً: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه، فمن اتقى الله تولى الله حفظه، ولم يكله إلى غيره، قال تعالى:" وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ" [آل عمران:120]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:" احفظ الله يحفظك". رواه الترمذي.

ثالثاً: الصبر على الحاسد، فما نصر على حاسد بمثل الصبر عليه.

رابعاً: التوكل على الله، والتوكل أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق.

خامساً: فراغ القلب من الاشتغال به، والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له، فلا يلتفت إليه ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه، وهذا من أقوى الأدوية.

سادساً: الإقبال على الله، والإخلاص له، وجعل محبته ورضاه محل خواطر نفسه وأمانيها.

سابعاً: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه، قال تعالى": وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ"، [الشورى:30].

ثامناً: الصدقة والإحسان، فإن لذلك تأثيراً عجيباً في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد.

تاسعاً: إطفاء شر الحاسد بالإحسان إليه، قال تعالى:" وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" [فصلت:34].

عاشراً: والجامع لذلك كله، وعليه مدار هذه الأسباب هو تجريد التوحيد، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب الله العزيز الحكيم.
والعلم أن كل ذلك بيد الله يحركه كيف شاء، ولا ينفع إلا بإذنه، قال تعالى:" وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُو [الأنعام:17].
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:" واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رواه الترمذي، فإذا جرد العبد التوحيد، فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله؛ بل يفرد الله بالمخافة، وقد أمنه منه وخرج من قلبه اهتمامه به واشتغاله به وفكره فيه.

وأخيراً: استمر على ما أنت من بذل الخير، ولا تعبأ بغيرك، وتوكل على الله في كل حالك، واعلم أنك معان متى ما اعتصمت بالله مولاك.

نسأل الله أن يبارك فيك وأن يحفظك، والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً