الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ما يستفاد من قصة صاحب الجنتين، وقول سليمان: فطفق مسحا بالسوق والأعناق

السؤال

هل نقتبس من الآية التي في سورة الكهف قصة أصحاب الجنتين أنه يجوز الدعاء على الشيء الذي يرهقك في الدين، ومن الآية الأخرى التي فيها أن نبيا ذبح الخيل، لأنها شغلته عن الصلاة؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقصة صاحب الجنتين في سورة الكهف يلاحظ فيها الدعاء على الظالم وعلى ماله، وذلك في قول الرجل الصالح: فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا {الكهف:40}.

فعسى من أفعال الرجاء، قال ابن عاشور في التحرير: وَعَسَى ـ لِلرَّجَاءِ، وَهُوَ طَلَبُ الْأَمْرِ الْقَرِيبِ الْحُصُولِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ الدُّعَاءَ لِنَفْسِهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ.

وقال ابن عثيمين في تفسير سورة الكهف: هذه الجملة ـ فعسى ربي ـ هي جواب الشرط، وهل هي للترجي أم للتوقع؟ فيها احتمالان:

الأول: أنها للترجي وأن هذا دعاء أن يؤتيه الله خيراً من جنته، وأن ينْزل عليها حسباناً من السماء، لأنه احتقره واستذله فدعا عليه بمثل ما فعل به من الظلم...

والاحتمال الثاني: أن تكون عسى للتوقع، والمعنى أنك إن كنت ترى هذا، فإنه يُتَوقع أن الله تعالى يُزيل عني ما عبتني به، ويزيل عنك ما تفتخر به.

وعلى ذلك؛ فالقصة إنما يمكن أن يقتبس منها جواز الدعاء على الظالم المتكبر، وهي ـ كما قال أهل التفسير ـ جاءت مثلا لمن يتعزز ويفتخر بحطام الدنيا الزائلة الفاني.. يقول القرطبي في التفسير: هَذَا مَثَلٌ لِمَنْ يَتَعَزَّزُ بِالدُّنْيَا وَيَسْتَنْكِفُ عَنْ مُجَالَسَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ.

ويقول سيد قطب في الظلال: هذه القصة مثل للقيم الزائلة والقيم الباقية، فصاحب الجنتين نموذج للرجل الذي تذهله الثروة وتبطره النعمة، فينسى القوة الكبرى التي تسيطر على أقدار الناس والحياة، ويحسب هذه النعمة خالدة لا تفنى فلن تخذله القوة ولا الجاه، وصاحبه نموذج للرجل المؤمن المعتز بإيمانه الذاكر لربه، يرى النعمة دليلاً على المنعم موجبة لحمده وشكره لا لجحوده وكفره.

وأما قصة سليمان ـ عليه السلام ـ وذبحه لخيله عند ما عُرضت عليه وشغلته عن ذكر الله، فليس فيها ما يفهم منه أن المسلم يجوز له الدعاء على ماله أو إتلافه أو التخلص منه بغير وجه شرعي، وذلك لأن سليمان نبي من أنبياء الله، وشرعه يختلف مع شرعنا، وقد تخلص من الخيل بطريقة شرعية في شرعه، ومن المعلوم ـ عند أهل العلم ـ أن شرع من قبلنا لا يجوز العمل به إذا ورد في شرعنا ما يخالفه، ومن أهل التفسير من قال إن سليمان ذبح الخيل ليتصدق بلحمها، وأنه لم يكن ليفعل ما فيه إفساد للمال، قَالَ القرطبي في التفسير: رُدُّوها عَلَيَّ... فَرُدَّتْ، فَعَقَرَهَا بِالسَّيْفِ، قُرْبَةً لِلَّهِ... ذَبَحَهَا فِي الْحَالِ، لِيَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُبَاحًا فِي شَرْعِهِ فَأَتْلَفَهَا لَمَّا شَغَلَتْهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، حَتَّى يَقْطَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَا يَشْغَلُهُ عَنِ اللَّهِ، فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَذَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَثَابَهُ بِأَنْ سَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ، فَكَانَ يَقْطَعُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَسَافَةِ فِي يَوْمٍ مَا يَقْطَعُ مِثْلُهُ عَلَى الْخَيْلِ فِي شَهْرَيْنِ غُدُوًّا وَرَوَاحًا... ولِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى نَبِيٍّ مَعْصُومٍ أَنَّهُ فَعَلَ الْفَسَادَ... وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ فِي شَرِيعَةِ سُلَيْمَانَ جَوَازُ مَا فَعَلَ، وَلَا يَكُونُ فِي شَرْعِنَا.

وجاء في لباب التأويل للخازن: رُدُّوها عَلَيَّ.. أي ردوا الخيل فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ، أي جعل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف، هذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين، وكان ذلك مباحا له، لأن نبي الله سليمان لم يكن ليقدم على محرم، ولم يكن ليتوب عن ذنب وهو ترك الصلاة بذنب آخر وهو عقر الخيل.

ولو أراد المسلم التخلص من ماله الذي يرهقه أو يشغله، فإن بإمكانه التخلص منه بالوجوه الشرعية، فيتخلص منه بالإنفاق في وجوه الخير وأنواع البر التي رغب الشارع بإنفاق المال فيها، بشرط أن لا يضيع من تجب عليه نفقته. والدعاء على المال وإتلافه وإضاعته منهي عنه شرعا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: لا تدعو على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم... الحديث. رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال. متفق عليه.

فحفظ المال من الكليات الخمس التي اتفقت الشرائع السماوية على حفظها، وحتى المال الحرام لا يجوز إتلافه كما قال النووي في المجموع معللا مشروعية صرف المال الحرام في مصالح المسلمين: لأنه لا يجوز إتلاف هذا المال ورميه في البحر، فلم يبق إلا صرفه في مصالح المسلمين. انتهى.

وراجع الفتوى رقم: 34667.

هذا إذا كان السؤال عن الشيء الذي يرهقه مالا، أما إذا كان ولدا فلا يجوز الدعاء عليه أو التخلص منه بحال من الأحوال، ولكن يدعو له، وانظري الفتويين رقم: 24034، ورقم: 299041.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني