الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

معنى "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.."

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وجزاكم الله خيراً على هذا الموقع.. وبعد:
فأي الآيتين الكريمتين هي الأولى نزلت "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكفرون" وهل إحداهما ناسخة للأخرى؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فإن معرفة سبب نزول الآيات القرآنية وَجَـوِّها العام وسياقها.... معينة على فهمها، ولهذا اهتم كثير من أهل العلم بمعرفة أسباب النزول وعقدوا له الأبواب في كتب علوم القرآن وأفرده بعضهم في كتب مستقلة. وقد جاءت هذه الآيات في سياق حديث القرآن الكريم عن أهل الكتاب اليهود والنصارى ووصف كتبهم التوراة والإنجيل وكيف تعاملوا معها... وسبب نزولها ما في لباب النقول للسيوطي قال: روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن البراء بن عازب قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم (مسود وجهه) فدعاهم، فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: لا والله، ولو لا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك! نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا زنى الشريف تركناه، وإذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والضعيف، فاجتمعنا على التحميم والجلد. وقد ثبت أنهم كانوا يخفون ويسترون الأحكام التي شرع الله تعالى في التوراة مثل: حكم الرجم والدية والقصاص. والوصف بالفسق لمن لم يحكم بما أنزل الله جاء ضمن الحديث عن الإنجيل وأهله النصارى، فكل من لم يحكم بما أنزل الله من شرع يؤمن به كان من الفاسقين الخارجين عن طاعة الله وحكمه، والفاسق في اللغة: هو الخارج المتجاوز للأحكام، ويطلق الفسق ويراد به الكفر.... وأما الوصف بالكفر والظلم فإنهما جاءا تعقيباً على الحديث عن التوراة وأهلها اليهود، فكان التعقيب بوصف الكفر مناسباً لهم، وذلك لسترهم الأحكام التي جاءت في التوراة وإخفائها، والكفر في اللغة: الستر والإخفاء، وكان على هؤلاء أن يبينوا أحكام الله تعالى ولا يستروا منها شيئاً، وكل من يرغب عن الحكم بما أنزل الله أو يخفيه ويحكم بغيره كما يفعل اليهود فهو كافر، كما أن وصف من لم يحكم بما أنزل الله من الشرع بالظلم والتعقيب بذلك على هذا السياق في غاية المناسبة لأن التوراة جاء فيها النص على الحكم بالقصاص والنفس بالنفس وإنصاف المظلوم.... فوصف هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنزل الله بأنهم ظالمون لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم. والظلم: وضع الشيء في غير محله، ويطلق الظلم ويراد به الكفر والشرك؛ كما في قوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. وأما مبحث الحكم على من لم يحكم بما أنزل الله هل هو كافر كفر أكبر مخرجاً من الملة، أو هو كافر كفراً دون كفر؟ فهذا مبحث طويل لا يتسع المقام لذكره ونحيلك فيه إلى كتب التفسير... ولكننا نختصر من كلامهم أن هذه الآيات وإن كانت في سياق حديث القرآن عن أهل الكتاب إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو مقرر في علم الأصول، ومَنْ لفظٌ مِنْ ألفاظ العموم: فكل من فعل هذا الفعل ينطبق عليه الوصف المذكور. وهذه الآيات وردت في شأن الحاكمين، وأما في شأن المتحاكمين فقد ورد قول الله تبارك وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65]، وقوله تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ* وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور]. وأما ترتيب الآيات كما جاء في القرآن الكريم فهو على النحو التالي: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، يليها: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، يليها: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47]. ولعل نزولها جاء على هذا الترتيب -والله أعلم- لأننا لم نقف على كلام للمفسرين أو في أسباب النزول فيما اطلعنا عليه على أن بعضها نزل قبل بعض، ولا يصح القول بنسخ شيء من هذه الآيات... لأن السيوطي في الإتقان حصر الآيات المنسوخة، وليس فيها شيء من هذه الآيات، وعقب على ذكرها بقوله: فهذه إحدى وعشرون آية منسوخة على خلاف في بعضها لا يصح دعوى النسخ في غيرها. ولأن هذه الآيات من سورة المائدة، ومن المعلوم أن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن الكريم، فقد روى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: آخر سورة نزلت المائدة والفتح. وروى أحمد والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: المائدة آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه. والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني