الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المقدم من المرضى عند قلة الأجهزة الطبية، وعدد شهادات الأطباء الكافية لنزع الأجهزة

السؤال

المشايخ الفضلاء: أعضاء الفتوى في الشبكة الإسلامية.
أما بعد: فنحن مجموعة من الأطباء لدينا بعض الأسئلة المتعلقة بفيروس كورونا الذي اجتاح العالم كله، وهي متعلقة بجانب واحد من هذا الوباء، وهو ما نعانيه من شحّ الموارد، وعلى وجه الخصوص أجهزة الإنعاش، أو أجهزة التنفس الصناعي، حيث يحتاجها كثير ممن أصيب بهذا الفيروس، وأسئلتنا تدور حول من نقدم من المرضى بإعطائه هذه الأجهزة، إذا لم تتوفر كمية كافية لكل المرضى الذين يمكن نجاتهم بهذه الأجهزة، وإن كانوا قد يتفاوتون في نسبة النجاة من الموت، ولنا ثلاثة أسئلة تواجه بعضنا، وقد تواجه آخرين لاحقًا، نوردها كالتالي:
السؤال الأول: وله ثلاث صور:
الصورة الأولى: إذا تساوى في وقت المجيء إلى المستشفى مريضان، ولم يبقَ إلا جهاز واحد، فهل يقرع بينهما، أم يقدم الأَوْلى -كمن نسبة نجاته أعلى، أو من كان نفعه للناس أكثر-؟ وما الضابط في معرفة الأنفع؟ وهل يقدم من ضحّى بنفسه في مواجهة هذا الوباء من الأطباء، والممرضين، والممرضات، ونحوهم، أم يقدم الأصغر سنًّا؟ ونرجو ترتيب هذه الحالات إذا رجّحتم تقديم الأَوْلى على القرعة، وهل يكتفى برأي طبيب واحد في تحديد من هو الأولى بالتقديم، أم لا بدّ من رأي أكثر من طبيب؟
الصورة الثانية: إذا سبق أحد المرضى مريًضا آخر، فهل يقال: إن الذي سبق هو الأحقّ بالجهاز مطلقًا، أم يأخذ حكم الصورة الأولى، إما القرعة وإما تقديم الأولى؟
الصورة الثالثة: من كان على جهاز الإنعاش ممن أصيب بموت أجزاء من الدماغ، ولم يمت جذع دماغ المريض؛ مما يعني وجود احتمال يسير لإفاقته ونجاته، فهل في مثل هذه الظروف يجوز نزع جهاز الإنعاش منه؛ ليعطى لمريض بفيروس كورونا احتمال نجاته كبيرة؟ وهل مثل هذه الصورة في الحكم مَن أُعطي له جهاز الإنعاش ممن أصيب بفيروس كورونا عدة أيام، ولم تظهر عليه علامات التحسن؛ مما يقلّل من احتمال نجاته، فهل ينزع منه، ويعطى لآخر نسبة نجاته أكثر؟
السؤال الثاني: هل يشترط في مثل هذه الظروف شهادة أكثر من طبيب بأن مريضًا ما قد مات جذع دماغه، وعليه؛ فيجوز نزع أجهزة الإنعاش عنه، أم لا بدّ من شهادة أكثر من طبيب؛ كثلاثة أطباء، كما يفتي بذلك بعض العلماء؟
السؤال الثالث: إذا طلب المريض، أو أوصى بألا توضع له أجهزة الإنعاش، وكانت حياته مهددة بدونها، فهل يعمل بطلبه ووصيته أم لا؟ وهل يفرق في هذا بين المسلم والكافر؟ جزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فمثل هذه المسائل من المشكلات الفقهية والطبية، لا يمكن الجزم فيها بضوابط تفصيلية، وإنما هو النظر، والاجتهاد، والترجيح، مع الإقرار بوجود الخلاف المعتبر، فقد اختلف الفقهاء قديمًا في مسائل أقلّ منها تعقيدًا، وأيسر منها تأصيلًا، ومن ذلك مثلا: مسألة وقوع النار في سفينة في وسط البحر، بحيث يظن الهلاك مع البقاء فيها، ومع إلقاء النفس في الماء، قال ابن رجب في القواعد: إذا ألقي في السفينة نار، واستوى الأمران في الهلاك -أعني المقام في النار، وإلقاء النفوس في الماء-، فهل يجوز إلقاء النفوس في الماء، أو يلزم المقام؟ على روايتين. والمنقول عن أحمد في رواية مهنا أنه قال: أكره طرح نفوسهم في البحر. وقال في رواية أبي داود: يفعل كيف شاء، قيل له: هو في اللج لا يطمع في النجاة. قال: لا أدري، فتوقف. ورجح ابن عقيل، وغيره وجوب المقام مع تيقن الهلاك فيها؛ لئلا يكون قاتلًا لنفسه بخلاف ما إذا لم يتيقنوا ذلك؛ لاحتمال النجاة بالإلقاء. اهـ.

وأشار ابن نجيم في الأشباه والنظائر إلى هذا الخلاف تحت قاعدة: (إذا تعارض مفسدتان، روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما).

ومن ذلك: مسألة اعتراض الجنين في بطن أمه عند الولادة، ولا يخرج إلا بتقطيعه، وإلا ماتت أمّه، اختلف فيها الفقهاء، فمنهم من منع ذلك ما دام الولد حيًّا؛ لأن إحياء نفس بقتل نفس أخرى لم يرد في الشرع، كما نقل ابن نجيم في البحر الرائق عن كتاب: النوادر.

وقال الدكتور ممتاز حيزة في كتابه: (البحث العلمي الطبي وضوابطه الشرعية) في مسألة حرمة إجهاض الجنين بعد نفخ الروح إلا في حال الضرورة، قال: الضرورة هنا تتجلى في صورة واحدة، وهي: ما إذا كان في بقاء الجنين خطر على حياة الأمّ؛ لأن الأمّ هي الأصل في حياة الجنين، والجنين فرع، فلا يضحّى بالأصل من أجل الفرع، وهذا منطق يوافق عليه ــ مع الشرع ــ الخلق، والطب، والقانون. على أن من الفقهاء من رفض ذلك، ولم يقبل الجناية على الحي بحال، ففي كتب الحنفية (امرأة حامل اعترض الولد في بطنها، ولا يمكن (إخراجه) إلا بقطعه أرباعًا، ولو لم يفعل ذلك يخاف على أمّه من الموت .. قالوا: إن كان الولد ميتًا، فلا بأس به، وإن كان حيًّا، لا يجوز؛ لأن إحياء نفس بقتل نفس أخرى لم يرد في الشرع. اهـ.

وإذا كان الأمر كذلك في مثل هذه المسائل المحققة؛ فما بالكم بالمسائل الظنية، التي تعتمد على تقدير واقع مظنون لحالات طبية حرجة!؟

ولذلك فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة، بعد اطّلاعه على البحوث الواردة إليه بخصوص موضوع العلاج الطبي، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر في خصوص علاج الحالات الميؤوس منها ما يلي: إن ما يعتبر حالة ميؤوسًا من علاجها هو بحسب تقدير الأطباء، وإمكانات الطب المتاحة في كل زمان ومكان، وتبعًا لظروف المرضى.

وأوصى بأن تقوم الأمانة العامة للمجمع بالاستكتاب في موضوعات طبية معينة، ومنها موضوع: (التزاحم في العلاج وترتيب الأولوية فيه)، فقضية التزاحم في العلاج، وما يترتب عليه من اختيار الأولى بالتقديم، وترتيب المستحقين، من المسائل التي تحتاج إلى اجتهاد جماعي، يتوفر له المتخصصون في فقه الشرع والطب معًا.

ومن المسائل التي يمكننا إفادة السائل بها:

- مسألة السبق. فمن سبق إلى منفعة مباحة، لا تختصّ بأحد، فهو أحق بها، وراجع في ذلك الفتويين: 59888، 311944.

ويكون هذا من قبيل ملك الانتفاع، لا المنفعة، وهذا يندرج تحت قولهم: الأصل بقاء ما كان على ما كان، وقد قال الزركشي في المنثور في القواعد الفقهية: قاعدة في التزاحم على الحقوق: لا يقدم أحد على أحد، إلا بمرجح، وله أسباب، الأول: (بالسبق) كازدحام الخصوم في الدعوى، والازدحام في الإحياء، ونحوه. ومنه: إذا مات اثنان أحدهما بعد الآخر، وهناك ماء يكفي أحدهما، فالأول أولى به؛ لأن غسله وجب عند موته، فلا يتغير حكمه بموت الآخر بعده. حكاه الروياني عن والده. قال: ولو كان وجود الماء بعد موتهما، لم يقدم الأول منها، بل يجب الرجوع إلى معرفة أفضلهما وأورعهما، فيقدم، فإن تساويا، يخير. اهـ.

وقال السعدي في بهجة قلوب الأبرار بعد ذكر حديث: من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو له. قال: يدخل في هذا الحديث: السبق إلى جميع المباحات التي ليست ملكًا لأحد، ولا باختصاص أحد. اهـ.

ولذلك فمن سبق إلى المشفى، واستحق الانتفاع بجهاز الإنعاش، فالأصل أنه لا يجوز نزعه عنه ما دام لا يستطيع الاستغناء عنه، ولو كان الغرض من نزعه تركيبه لغيره ممن هو أشد حاجة إليه، جاء في مبحث النوازل من كتاب: (الفقه الميسر) في حكم نقل أجهزة الإنعاش من شخص إلى آخر: إذا كان هناك شخصان: أحدهما توضع عليه أجهزة الإنعاش لحاجته إليها، وآخر أشد احتياجًا لها من الأول، فهل يشرع نقلها من الأول إلى الثاني نظرًا لشدة الحالة؟

اختلف في حكم هذه الحالة أهل العلم، والراجح عندنا أنه لا يجوز نقل الأجهزة من شخص إلى آخر، بل تترك الأجهزة على الأول ما دام أنه ممّن لا يجوز رفعها عنه، ولو كان الثاني أشد حاجة لها؛ وذلك لأن في رفع الأجهزة عن الأول ارتكابًا لمحظور، وارتكاب المحظور أعظم حرمةً من ترك المأمور، والقاعدة تقول: درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. ولأن الأصل في المسلمين أنهم مستوون في العصمة، ووجوب المحافظة على الحياة، ومن هنا؛ فلا يقدم أحدهم على الآخر إلا بسبب، وكون انتفاع الثاني أكبر من الأول، فهذا من المرجحات، لكن مع الاستواء، وهو غير متحقق هنا، فإن الأول يترجح جانبه بالسبق، فهو أحق بهذه الحاجة، واعتبار السبق في الاستفادة منها، ومن تنقل له ليس بأولى ممّن هي عليه. اهـ.

ويستثنى من ذلك ما إذا جاز رفع الجهاز عن الأول؛ وذلك إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلًا نهائيًّا، وقرر الأطباء المختصون أن التعطيل لا رجعة فيه، وراجع في ذلك الفتاوى: 176419، 336229، 405700؛ فعندئذ تنزع عنه؛ لأنه في حكم الميت، وإن كان لا يزال يتنفس بفعل الأجهزة؛ لتركب على مريض حي.

وقريب من ذلك -وهو محل خلاف أكبر بين أهل العلم-: من حَكَمَ الأطباء عليه بأنه ميؤوس من علاجه، ولكن لم يبلغ درجة جواز رفع جهاز الإنعاش عنه، فهل يجوز رفعه عنه لتركيبه لمن يرجى شفاؤه، وهذه الحال استعرضها الدكتور عبد الله الطريقي في بحثه: (التزاحم على الأجهزة الطبية)، وذكر فيها القولين بأدلتهما، ثم قال: الراجح ترك الأجهزة على الأول؛ لأن الأصل في المسلمين أنهم مستوون في العصمة، ووجوب المحافظة على الحياة، ومن هنا فلا يقدم أحدهم على الآخر إلا بسبب، وكون انتفاع الثاني أكبر من الأول، فهذا من المرجحات، لكن مع الاستواء، وهو غير متحقق هنا، فإن الأول يترجح جانبه بالسبق، ثم إن في رفع الأجهزة عنه ارتكابٌ لمحظور، وارتكاب المحظور أعظم حرمةً من ترك المأمور، والقاعدة تقول: درء المفسدة مقدمٌ على جلب المصلحة. اهـ. وهذا في حال حصول السبق.

وأما مع عدم السبق، وتساوي المرضى في الوصول، وعدم كفاية الأجهزة للجميع، ولزوم تقديم بعضهم، فهذا أيضًا من مواضع النظر، والاجتهاد، والخلاف: بين الاعتماد على القرعة في تعيين المنتفع، وبين الترجيح بين المرضى، وبين الاختيار العشوائي دون ترجيح.

والذي يظهر لنا أن الترجيح إن أمكن بناؤه على معايير مقبولة شرعًا، أو عقلًا، أو عرفًا، فهو مقدم على غيره، فمثلًا: لو كان بعض المرضى حالته حرجة لا تسمح بالتأخير، وبعضهم حالته تسمح بالتأخير، فتقدم الحالة الحرجة على غيرها، وكذلك يقدم من يرجى شفاؤه على من لا يرجى شفاؤه، بحسب النظر الطبي، جاء في فتوى للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث (18/30): على الأطباء المسلمين الالتزام بالنظم واللوائح الطبية في المشافي التي يعملون بها، فإن وُكِل الأمر إليهم، عليهم أن يحكّموا المعايير الطبيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، ولا يجوز نزع الأجهزة عن مريض يعالج بها لصالح مريض جاء بعده، أمّا إذا كان الطبيب حائرًا بين مريضين، بحيث لم يَعد له مجال إلا لاختيار أحدهما، فيُقدّم الأسبق، إلّا إن كان ميؤوسًا من شفائه، ومن يحتاج إلى الإسعاف الطبي العاجل على من تسمح حالته بالتأخر، ومن يُرجى شفاؤه على من لا يُرجى؛ وذلك بغلبة الظن، والتقدير الطبي. اهـ.

وهل من المرجحات كون المريض مسلمًا، أو أكثر صلاحًا، أو أكبر نفعًا لمجتمعه؟

الذي نراه أن مثل هذه الأمور قد تعتبر في الأحوال والأموال الخاصة، كالعيادات المملوكة لأصحابها مثلًا، وأما الأحوال والأموال العامة، كالمشافي الحكومية مثلًا، فلا تعتبر هذه الأمور؛ لاستواء الجميع في الاستحقاق، والاحترام الآدميّ.

وقريب من ذلك ما ذكره أهل العلم قديمًا في مسألة اضطراب السفينة عند هيجان البحر، ورجاء حصول النجاة بتخفيف الأحمال بإلقاء بعضها في البحر، قال الرملي في نهاية المحتاج: ينبغي أن يراعى في الإلقاء تقديم الأخس فالأخس قيمة من المتاع والحيوان، إن أمكن؛ حفظًا للمال حسب الإمكان، لا عبيد لأحرار. اهـ.

وقال الشبراملسي في حاشيته: (قوله: لا عبيد) أي ولا كافر لمسلم، ولا جاهل لعالم متبحر، وإن انفرد، ولا غير شريف لشريف، ولا غير ملك لملك، وإن كان عادلًا؛ لاشتراك الجميع في أن كلا آدمي محترم. اهـ. وعلى ذلك توارد فقهاء الشافعية.

وأما إذا عدم المرجح المقبول، فمن أهل العلم من يعمل بالاختيار المطلق، ومنهم من يعمل بالقرعة، فمن الأول قول الروياني الذي سبق نقله: فإن تساويا، يخير. اهـ. وقول الغزالي في المستصفى: إذا تعارض الموجب والمحرم، فيتولد منه التخيير المطلق، كالولي إذا لم يجد من اللبن إلا ما يسد رمق أحد رضيعيه، ولو قسم عليهما أو منعهما لماتا، ولو أطعم أحدهما مات الآخر، فإذا أشرنا إلى رضيع معين، كان إطعامه واجبًا؛ لأن فيه إحياءه، وحرامًا لأن فيه هلاك غيره، فنقول: هو مخير بين أن يطعم هذا فيهلك ذاك، أو ذاك فيهلك هذا، فلا سبيل إلا التخيير. اهـ.

ومن الثاني -وهو العمل بالقرعة- قول الحصني في القواعد: قاعدة فيما تقع القرعة فيه، وهي إِما في الحقوق المتساوية، أو في تعيين الملك:

القسم الأول في الحقوق إِذا تساوت: فمنها بين الخلفاء عند تساويهم في صفات الإمامة، وكذا في الإِمامة في الصلاة، والأذان عند التساوي في الصفات المعتبرة. ومنها: بين الأقارب في تغسيل الميت، والصلاة عليه عند التشاحِّ، وكذا الحاضنات إِذا كن في درجة، وكذا الأولياء المستويين إِذا أذنت لهم في التزويج. ومنها: إِذا تزاحم السابقون إِلى الصف الأول ولم يسعهم الموضع. وكذا في إِحياء الموات إِذا سبقوا إِلى مكان معين، وكذا مقاعد الأسواق، وفي التقديم بالدعوى عند الحاكم ولم يكن منهم مسافر، ولا امرأة، وكذا في أخذ اللقيط، وكذا الخانات المسبلة، ونحوها ... اهـ.

وقد بوّب البخاري لذلك في صحيحه باب: القرعة في المشكلات. وعقد ابن القيم في (الطرق الحكمية) فصلًا مطولًا للحكم بالقرعة.

وهذا هو الأظهر، فالقرعة تزيل الآثار السيئة للاختيار بالتشهّي، وتقطع علائق النفوس، وترفع الخصومة؛ ولذلك أدخل البخاري الباب السابق في كتاب الشهادات، وقال ابن حجر في فتح الباري: وجه إدخالها في كتاب الشهادات أنها من جملة البينات التي تثبت بها الحقوق، فكما تقطع الخصومة والنزاع بالبينة، كذلك تقطع بالقرعة ... وجعل المصنف ضابطها الأمر المشكل، وفسرها غيره بما ثبت فيه الحق لاثنين فأكثر، وتقع المشاححة فيه، فيقرع لفصل النزاع. اهـ.

ولا يخفى أن القرعة هنا لاختيار من ينتفع، وليست لاختيار من يموت، كما في مسألة الاقتراع على من يلقي بنفسه من السفينة عند خوف الغرق على الجميع، والتي منع منها بعض أهل العلم، قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: ولتساوي المفاسد أمثلة - منها - إذا اغتلم البحر بحيث علم ركبان السفينة أنهم لا يخلصون إلا بتغريق شطر الركبان لتخف بهم السفينة، فلا يجوز إلقاء أحد منهم في البحر بقرعة، ولا بغير قرعة؛ لأنهم مستوون في العصمة، وقتل من لا ذنب له محرم. اهـ. وتبعه على ذلك الحصني في القواعد.

وقال ابن العربي في أحكام القرآن: الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز، فكيف المسلم؟ وإنما كان ذلك في يونس، وفي زمانه مقدمة لتحقيق برهانه، وزيادة في إيمانه، فإنه لا يجوز لمن كان عاصيًا أن يقتل، ولا يرمى به في النار والبحر؛ وإنما تجري عليه الحدود، والتعزير على مقدار جنايته -ثم ذكر قصة إلقاء يونس نفسه في البحر، وقال: ولهذا ظنّ بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم، فاضطروا إلى تخفيف السفينة أن القرعة تضرب عليهم، فيطرح بعضهم تخفيفًا. وهذا فاسد؛ فإنها لا تخف برمي بعض الرجال، وإنما ذلك في الأموال، وإنما يصبرون على قضاء الله. اهـ.

ونقله عنه القرطبي في جامعه، وابن حجر في الفتح، وقال: كان في شرعهم جواز إلقاء البعض لسلامة البعض، وليس ذلك في شرعنا؛ لأنهم مستوون في عصمة الأنفس، فلا يجوز إلقاؤهم بقرعة، ولا بغيرها. اهـ.

والخلاصة أن الذي يظهر لنا هو: العمل بالسبق أولًا، فإذا استووا، ووجد مرجح منضبط مقبول عمل به، وإلا فالقرعة.

وأما السؤال الثاني: فقد نصّ قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي على عدد: ثلاثة أطباء؛ وذلك في مسألة رفع أجهزة الإنعاش عن المريض الذي تعطلت جميع وظائف دماغه.

وأما اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فقد نصت على طبيبين فقط، في حالات مقاربة، وراجع في ذلك الفتويين: 405700، 280387.

والذي يظهر لنا أن حكم طبيبين مأمونين يكفي، كما هو الأصل في قبول الشهادات.

وأما السؤال الثالث، فجوابه أن أجهزة الإنعاش إذا كانت فائدتها ظنية غير محققة، فلا حرج على المريض في عدم الإذن في وضعها، كحكم ترك التداوي بصفة عامة، ولا حرج عندئذ على الطبيب في العمل بطلبه، أو وصيته.

وأما إن كانت فائدة جهاز الإنعاش قطعية، وكان تركه يؤدي للهلاك، فلا يجوز تركه، ولو طلب المريض ذلك، وانظر الفتويين: 99798، 250723.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني