الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الرؤية الشرعية لمن لم تبلغهم الدعوة، ومدى قيام الحجة عليهم

السؤال

إذا كانت الحاجة للنبوة مهمة، وأن الله لا يمكن أن يترك عباده سدى، وإذا كانت الحجة لا تقوم إلا على من بلغتهم الرسالة. فماذا عن الناس الذين لم تصلهم الرسالة في أول الاسلام، بل حتى في الأزمان المتأخرة في البلاد البعيدة، لا يمكن أن يقال إنهم خلقوا سدى طبعا، لكن ما هو دورهم في الحياة؟ وهل يعقل أن يتركوا دون معرفة أجوبة الأسئلة الكبرى؟
وإذا كانت الحاجة للرسالة شديدة للبشر، وأن الله برحمته يرسل الرسل ليبين لهم الغاية من خلقهم ونحو ذلك، فهل كان هؤلاء مستثنين من ذلك؟ وهل كل هذه الأمم الكثيرة ممن لم تبلغهم الرسالة يعتبرون من الاستثناء مع كثرتهم؟ أم أن هؤلاء سيحاسبون على مخالفتهم للأمور الفطرية من توحيد الله والأخلاق الفطرية، ولو لم تبلغهم رسالة؟ أم بقايا الرسالات السابقة كافية لمحاسبتهم عليها؟
أرجو الجواب بالتفصيل لو تكرمتم.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا ندري على ماذا اعتمد السائل في حكمه على أن من لم يسمعوا بدعوة الرسل (أهل الفترة) هم أمم كثيرة! فنحن -وإن كنا نقر أن بعض الناس قد لا تبلغهم الدعوة-، إلا أن ذلك لا يكون بهذه الكثرة، ولا يبلغ أن يكون أمما وأقواما، بل هم أفراد وجماعات قليلة، وراجع في ذلك الفتوى: 122123.

والمقصود أن أغلب البشر وكثرتهم الكاثرة قد بلغتهم الدعوة، وقامت عليهم الحجة، إما من الأنبياء والرسل، وإما من أتباعهم من الهداة والنذر، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ {فاطر: 24}. وقال سبحانه: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ {الرعد: 7}.

ومثال ذلك: إندونيسيا ـ وهي أكبر دولة إسلامية من حيث السكان، حيث يتجاوزون 200 مليون مسلم - دخلها الإسلام عن طريق التجار والدعاة المسلمين القادمين من الهند، وجزيرة العرب في القرن السادس الهجري، كما سبق بيان ذلك في الفتوى: 108772.

فهؤلاء التجار هم في الحقيقة من الهداة والنذر الذين قامت بهم حجة الله على أهل هذه البلاد، وإن لم يكونوا من المرسلين.

ولذلك قال الألوسي في تفسير قوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ {يس:6} قال: المعنى: ما أنذر آباءهم رسول، أي لم يباشرهم بالإنذار، لا أنه لم ينذرهم منذر أصلا، فيجوز أن يكون قد أنذرهم من ليس بنبي، كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، فلا منافاة بين ما هنا، وقوله تعالى: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير. وليس في ذلك إنكار الفترة المذكورة في قوله تعالى: {على فترة من الرسل}؛ لأنها فترة إرسال وانقطاعها زمانا، لا فترة إنذار مطلقا. انتهى.

وقال الشيخ ابن عثيمين في شرح كتاب التوحيد: نعلم أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير، وأن الله سبحانه وتعالى أرسل لكل أمة رسولاً تقوم به الحجة عليهم، كما قال تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}. والبشر إذا لم يأتهم رسول يبين لهم فهم معذورن، لأنهم يقولون: يا ربنا ما أرسلت إلينا رسولاً، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} فلا بد من رسول يهدي به الله الخلق. فإن قيل: قوله تعالى: {على فترة من الرسل} يدل على أنه فيه فترة ليس فيها رسول، فهل قامت عليهم الحجة؟ فالجواب: إن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام طويلة، وقد قامت عليهم الحجة لأن فيها بقايا، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه: "إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب". وكما قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ}. انتهى.

ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى أن وجود أهل الفترة إنما هو افتراض لا حقيقة، وأنه لا توجد أمة لم تعلم أن في الأرض دعوة إلى عبادة الله. وراجع في ذلك الفتويين: 260650، 363391.

كما ذهب بعضهم إلى أن الحجة الشرعية على جميع الخلق قد قامت بما أخذه الله تعالى من العهد على بني آدم، وما أودعه في فطرهم من قبول الحق، وراجع في ذلك الفتوى: 379108.

وعلى ما سبق أن رجحناه من إمكان وجود أناس لم تبلغهم دعوة الرسل، فإن وجودهم لا يقدح في حكمة الخلق، ولا في حاجة الناس إلى الرسل؛ لأن العبرة بالغالب والنادر لا حكم له؛ ولأن في وجودهم إكمالا لأنواع وأقسام الخلائق، وإظهارا لعدل الله تعالى ورحمته؛ حيث لم يعذبهم على كفرهم به، رغم ما فُطِروا عليه ورغم وضوح أدلة الإيمان، وإنما يمتحنهم في عرصات الآخرة، كما سبق بيانه في الفتوى: 48406.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني