كلام أهل العلم في مسألة قدم العالم وتسلسل الحوادث

4-11-2012 | إسلام ويب

السؤال:
1) ما هو الدليل العقلي لاستحالة قدم العالم؟ 2) وهل يمكن قدم العالم مع قدم الله لو وصفناه بالمهيمن والمتحكم فيه ؟ 3) وهل يمكن قدم العالم إذا قلنا الله متقدم عليه، لأن من أسمائه الأول، كما أنه ليس بعده شيء، مع أن النار والجنة لا تفنيان أبدا!! 4) ما الدليل العقلي على استحالة تعدد القدماء؟ 5) وإذا أمكن تسلسل الحوادث في الماضي. فهل هذا يتعارض مع استحالة تعدد القدماء؟

الإجابــة:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

 فإن كان مراد السائل بقدم العالم أنه وُجد من غير موجد، فهذا محال عقلا، فإن كل مفعول لابد له من فاعل.

  قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (درء تعارض العقل والنقل): كل مفعول فهو محدث كائن بعد أن لم يكن، وكل ما سوى الله مفعول فيكون محدثاً. اهـ.
ناهيك عما في إحكام الكون، وإتقان الصنعة، من شهادة على أن إيجاد هذا الكون لابد له من خالق، مدبر، عليم، حكيم.

  قال الدكتور مصطفى مسلم في كتاب (مباحث في التفسير الموضوعي): لقد تحطمت شبهات الملاحدة القديمة والحديثة، فأصبحت خاوية على عروشها، بعد أن ألقي عليها قذائف الحق الإلهي. وكلما حاول أهل الباطل أن ينفخوا الروح في بقايا الأشلاء المتناثرة من نظرية الصدفة، أو قدم العالم المادي، برزت جوانب من الحقائق القرآنية ـ وربما على أيدي غير المسلمين وبخاصة على أيدي العلماء التجريبيين ـ لتزهق الباطل مرة أخرى. ولنسمع من أقوال بعضهم ما يلقي أضواء على ما توصولوا إليه من حقائق علمية تثبت حدوث العالم المادي، وتبرهن على وجود نهاية له: اكتشف علماء القرن التاسع عشر الميلادي ما يسمى بقانون الطاقة الحرارية والطاقة المتاحة. وملخص هذا القانون يفيد أن: الحرارة تنتقل دائمًا من "وجود حراري" إلى "عدم حراري"، والعكس غير ممكن، وهو أن تنتقل دائمًا هذه الحرارة من "وجود حراري قليل" أو "وجود حراري عدم" إلى "وجود حراري أكثر" فإن ضابط التغير هو التناسب بين "الطاقة المتاحة" و"الطاقة غير المتاحة". وبناء على هذا الكشف العلمي فإن الطاقة الحرارية للكون في تناقص مستمر، وكفاءة عمل الكون في تناقص مضطرد، ولا بد من وقت تتساوى فيه حرارة جميع الموجودات، وحينذاك لا تبقى أية طاقة مفيدة للحياة والعمل، وسيترتب على ذلك أن تنتهي العمليات الكيميائية والطبيعية وتنتهي -تلقائيًا- مع هذه النتيجة "الحياة". هذا إذا استمر النظام في الكون من غير تدخل ووضع نهاية لسيره في الدنيا. وانطلاقًا من هذا الحقيقة المتقدمة، يثبت قطعًا أن الكون ليس بأزلي. يقول "إدوارد لوثركسيو" وهو متخصص في علم الحيوان: وهكذا أثبتت البحوث العلمية "دون قصد" أن لهذا الكون بداية، فأثبتت تلقائيًا وجود الإله، لأن كل شيء ذي بداية لا يمكن أن يبتدئ بذاته، ولا بد أن يحتاج إلى الخالق. - والاكتشاف العلمي حول سعة الكون -أو توسعه المستمر- يدل من جانب آخر على أن هذا الكون يتوسع بشكل مذهل وبسرعة لا تتصور، ولا بد أن هذا التوسع كان ابتداء من بداية حركتها قوة معينة وحسب نظام معين، وأن هذا التوسع لا بد أن يصل إلى مداه النهائي، ثم يعود الكون مرة أخرى للتقلص بعد انعدام القوة الدافعة لهذا التوسع، وعندئذ سيؤدي إلى ارتباط الأجرام السماوية وتجمعها في نقطة المركز. إن كونًا هذا شأنه في التمدد والتوسع، ثم مآله إلى الانكماش والتقلص لا بد أن تكون قدرة الخالق هي التي كانت وراء البداء، وإلى الله المنتهى، فلا يمكن للعدم أن يوجد بداية ونهاية لشيء .. اهـ.

 وإن كان مراد السائل بقدم العالم أنه لم يُسبق بعدم، وأنه لم يزل موجوداً مع الله تعالى ومعلولاً له، ومساوقاً له، مساوقة المعلول للعلة، ومساوقة النور للشمس، غير متأخر عنه بالزمان، وأن تقدم الباري تعالى عليه كتقدم العلة على المعلول، وهو تقدم بالذات والرتبة لا بالزمان، فبطلان ذلك عقلا يتبين من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في (درء التعارض): أما القائلون بقدم العالم فقولهم يستلزم امتناع حدوث حادث، فإن القديم إما واجب بنفسه، أو لازم للواجب بنفسه، ولوازم الواجب لا تكون محدثة ولا مستلزمة لمحدث، فالحوادث ليست من لوازمه، وما لا يكون من لوازمه يتوقف وجوده على حدوث سبب حادث، فإذا كان القديم الواجب نفسه، أو اللازم للواجب، لا يصدر عنه حادث - امتنع حدوث الحوادث، وهذا حقيقة قولهم، فإنهم يزعمون أن العالم له علة قديمة موجبة له، وهو لازم لعلته، وعلته عندهم مستلزمة لمعلولها ومعلول معلولها، فيمتنع أن يحدث شيء في الوجود، إذ الحادث المعين يكون لازماً للقديم بالضرورة واتفاق العقلاء. اهـ.
 وقال في (الصفدية): الحوادث الموجودة في العالم لا يجوز أن تكون صادرة عن العلة التامة الأزلية، لأن تلك يلزمها معلولها فيكون قديما معها فلا يكون محدثا، فوجب أن يكون للحوادث فاعل آخر غير العلة التامة القديمة، وذلك أيضا يوجب إثبات مشارك لله يحدث الحوادث، وهذا أيضا باطل؛ فإن ذلك الذي قدر محدثا للحوادث إن كان محدَثا فهو من جملة الحوادث التي تحتاج إلى فاعل محدث، وإن كان قديما فقد صدرت الحوادث عن قديم، فإن كان علة تامة أزلية امتنع حدوث الحوادث عنه، وإن كان فاعلا باختياره يحدث عنه الحوادث بطل قولهم، سواء قيل: إنه صار محدثا للحوادث بعد أن لم يكن بغير سبب حادث، أو قيل: إنه لم يزل فاعلا قادرا بفعل اختياري يقوم بنفسه. اهـ.
وقال في (منهاج السنة النبوية): ما يثبت قدمه امتنع عدمه، فما جاز عدمه امتنع قدمه، فإنه لو كان قديما لامتنع عدمه، والتقدير أنه جائز العدم، فيمتنع قدمه، وما جاز حدوثه لم يمتنع عدمه، بل جاز عدمه، وقد تقدم أن ما جاز عدمه امتنع قدمه; لأنه لو كان قديما لم يجز عدمه، بل امتنع عدمه. اهـ.

  وعلق على ذلك الدكتور صالح الرقب، والدكتور محمود الشوبكي في كتاب (دراسات في التصوف والفلسفة الإسلامية) فقالا: وإذا بطل القول بقدم العالم لأنّ قدمه يمنع عدمه، وقد ثبت أنّه سيعدم، فإنّ القول بحدوث العالم هو الحق الذي يقول به العقل الصريح. اهـ.
ثم نقول: إن القائلين بقدم العالم ليس عند أحدهم دليل ينهض للاحتجاج، فالأمر كما قال شيخ الإسلام في (درء التعارض) في مسألة حدوث العالم وقدمه: لا يقدر أحد من بني آدم يقيم دليلاً على قدم الأفلاك أصلاً. اهـ.
وأما السؤال الثاني، فجوابه أن قدم العالم يصح على الراجح من حيث الأنواع لا من حيث الأعيان، فلا بد هنا من التفريق بين إثبات حوادث لا أول لنوعها، وبين إثبات حوادث لا أول لأعيانها، فالأول حق، ولكنه لا يستلزم القول بقدم العالم، بل إن القول بإمكان حوادث لا أول لنوعها هو مقتضى أدلة الكتاب والسنة، ومن عز عليه فهم ذلك فليعتبر الأزل بالأبد، فإن الله تعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، ونحن نعتقد أن أهل الجنة مثلا ينعمون أبدا، وأن الله تعالى يحدث لهم من أنواع النعيم ما لا ينقطع، وهذا لا يتعارض مع آخريَّة الله تعالى، فكذلك فليكن الحال في الأزل، وما قَدَّرْناه مستقبلاً نقَدِّره في الماضي، في النوع لا في الأفراد. وقد أشرنا إلى هذا المعنى من قبل في الكلام على تسلسل الحوادث، فراجع الفتوى رقم: 135105.
وعلى ذلك فالقول بحوادث لا أول لأنواعها لا يستلزم القول بسرمدية الكون أو بقدم العالم، بمعنى أنه وجد بلا خالق، أو أن أفراده غير مسبوقة بالعدم!! بل كل فرد منها مسبوق بالعدم، وبالخالق الذي خلقه.

والقول بقدم العالم يعني ـ كما يوضح ابن القيم في (الجواب الكافي) ـ : أنه لم يكن معدوما أصلا، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها، ويسمونها بالعقول والنفوس. اهـ.
وهذا لا إشكال في بطلانه، ولكنه يخالف إثبات القدم النوعي للحوادث.

  قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الصفدية): لفظ القديم والأزلي فيه إجمال، فقد يراد بالقديم الشيء المعين الذي ما زال موجودا ليس لوجوده أول، ويراد بالقديم الشيء الذي يكون شيئا بعد شيء، فنوعه المتوالي قديم، وليس شيء منه بعينه قديما، ولا مجموعه قديم، ولكن هو في نفسه قديم بهذا الاعتبار، فالتأثير الدائم الذي يكون شيئا بعد شيء وهو من لوازم ذاته هو قديم النوع، وليس شيء من أعيانه قديما، فليس شيء من أعيان الآثار قديما ... اهـ.
وبهذا يتبين الجواب عن السؤال الثالث، والخامس.
وأما الرابع فجوابه: أن إثبات القدم بالمعنى الاصطلاحي لشيء، يستلزم نفيه عن غيره، وإلا لما كان قديما، بمعنى انفراده وسبقه، وقد تقدم لنا ذكر دليل التمانع في إبطال تعدد الألهة، وذلك في الفتوى رقم: 129287.
والله أعلم.

www.islamweb.net