الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 15 ] الطبقة الأولى :

          فيها أربعة وثلاثون مجلسا [ ص: 16 ] [ ص: 17 ] بسم الله الرحمن الرحيم

          المجلس الأول في ذكر آدم عليه الصلاة والسلام

          الحمد لله الذي سير بقدرته الفلك والفلك ، ودبر بصنعته النور والحلك ، اختار آدم فحسده الشيطان وغبطه الملك ، وافتخروا بالتسبيح والتقديس فأما إبليس فهلك قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك تعالى عن وزير ، وتنزه عن نظير ، قبل من خلقه اليسير ، وأعطى من رزقه الكثير ، أنشأ السحاب الغزير يحمل الماء النمير ليعم عباده بالخير ويمير ، فكلما قصر القطر في الوقع صاح الرعد بصوت الأمير ، وكلما أظلمت مسالك الغيث لاح البرق يوضح وينير ، فقامت الورق على الورق تصدح بالمدح على جنبات الغدير ، فالجماد ينطق بلسان حاله ، والنبات يتكلم بحركاته وبأشكاله ، والكل إلى التوحيد يشير ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .

          أحمده وهو بالحمد جدير وأقر بأنه مالك التصوير والتصبير .

          وأصلي على محمد رسوله البشير النذير ، وعلى صاحبه أبي بكر الصديق وعلى عمر ذي العدل العزير ، وعلى عثمان مجهز جيش العسرة في الزمان العسير ، وعلى علي المخصوص بالموالاة يوم الغدير ، وعلى عمه العباس المستسقى به الماء النمير .

          اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وألهمنا القيام بحقك وبارك لنا في الحلال من رزقك ، وعد علينا في كل حال برفقك ، وانفعني بما أقول والحاضرين من خلقك برحمتك يا أرحم الراحمين .

          قال الله تعالى : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة .

          " إذ " كلمة جعلت لما مضى من الأوقات ، فكأنه قال اذكر ذلك الوقت .

          والملائكة واحدهم ملك والأصل ملأك وأنشد سيبويه :


          فلست بإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب

          [ ص: 18 ] ومعنى ملأك : صاحب رسالة ، يقال مألكة وملأكة .

          واختلف العلماء ما المقصود بإعلام الملائكة بخلق آدم عليه السلام على تسعة أقوال :

          أحدها : أنه أراد إظهار كبر إبليس ، وكان ذلك قد خفي على الملائكة لما يرون من تعبده ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

          والثاني : ليبلو طاعة الملائكة ، قاله الحسن .

          والثالث : أنه لما خلق الله تعالى النار جزعت الملائكة ، فقال : هذه لمن عصاني فقالوا : أو يأتي علينا زمان نعصيك فيه ؟ فأخبرهم بخلق غيرهم ، قاله ابن زيد .

          والرابع : أنه أراد إظهار عجزهم عما يعلمه لأنهم قاسوا على حال من كان قبل آدم .

          والخامس : أن الملائكة التي طردت الجن من الأرض قبل آدم أقاموا في الأرض يعبدون ، فأخبرهم أني جاعل في الأرض خليفة ليوطنوا أنفسهم على العزل .

          والسادس : أنهم ظنوا أن الله لا يخلق خلقا أكرم منهم ، فأخبرهم بما يخلق .

          والسابع : أنه أعلمهم بما سيكون ليعلموا علمه بالحادثات .

          والثامن : أنه أراد تعظيم آدم بذكره قبل وجوده .

          والتاسع : أنه أعلمهم أنه خلقه ليسكنه الأرض ، وإن كان ابتداء خلقه في السماء .

          والخليفة : القائم مقام غيره ، يقال : خلف الخليفة خلافة وخليفي ، وعلى وزن ذلك أحرف منها : خطيبي من الخطبة ، ورديدي من الرد ، ودليلي من الدلالة ، وحجيزي من حجزت ، وهزيمي من هزمت .

          قال أبو بكر ابن الأنباري : والأصل في الخليفة : خليف فدخلت الهاء للمبالغة في مدحه بهذا الوصف كما قالوا : علامة ونسابة وراوية .

          وفي معنى خلافته قولان:

          أحدهما : خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه . روي عن ابن عباس ومجاهد .

          والثاني : أنه خلف من كان في الأرض قبله ، روي عن ابن عباس .

          قوله تعالى : أتجعل فيها من يفسد فيها الألف للاستفهام وفيها ثلاثة أقوال :

          أحدها : أنه استفهام إنكار ، والتقدير : كيف تفعل هذا ، وهو لا يليق بالحكمة ، وروى يحيى بن كثير عن أبيه قال : كان الذين قالوا هذا عشرة آلاف من الملائكة فأرسلت عليهم نار فأحرقتهم . [ ص: 19 ]

          والثاني : أنه استفهام إيجاب ، تقديره : ستجعل كما قال جرير :

          ألستم خير من ركب المطايا .

          قاله أبو عبيدة .

          والثالث أنه استفهام استعلام .

          ثم في مرادهم أربعة أقوال :

          أحدها : أنهم استعلموا وجه الحكمة في جعل من يفسد ، والثاني : أنهم استعظموا معصية المستخلفين فكأنهم قالوا : كيف يعصونك وقد استخلفتهم ، وإنما ينبغي أن يسبحوا كما نسبح نحن ، والثالث : أنهم تعجبوا من استخلاف من يفسد ، والرابع : أنهم استفهموا عن حال أنفسهم ، فتقدير الكلام : أتجعل فيها من يفسد ونحن نسبح أم لا ، ذكره ابن الأنباري .

          والمراد بالفساد العمل بالمعاصي ، وسفك الدم : صبه وإراقته ، وشدد السين أبو نهيك ، وقرأ طلحة بن مصرف " يسفك " بضم الفاء .

          والتسبيح : التنزيه لله من كل سوء ، والتقديس : التطهير ، والمعنى ننزهك ونعظمك .

          قوله تعالى : إني أعلم ما لا تعلمون أي أنه سيكون من ذريته أنبياء وصالحون .

          وأما خلق آدم فأخبرنا هبة الله الشيباني قال : أخبرنا الحسن بن علي التميمي ، قال : أخبرنا أحمد بن جعفر ، قال : أخبرنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني محمد بن جعفر ، عن عوف الأعرابي ، عن قسامة بن زهير ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك ، والخبيث والطيب ، والسهل والحزن ، وبين ذلك " .

          واختلف العلماء فيمن جاء بالطين الذي خلق منه آدم ، على قولين :

          أحدهما : أنه إبليس ، قاله ابن عباس وابن مسعود .

          والثاني : ملك الموت ، قال السدي عن أشياخه : بعث الله ملك الموت فجاء بالطين فبل ، ثم ترك أربعين سنة حتى أنتن ، ثم نفخ فيه الروح . [ ص: 20 ]

          حدثنا عبد الله بن محمد القاضي بن علي المديني ، قال أخبرنا أحمد بن يحيى النقور ، قال أخبرنا ابن حبابة ، قال حدثنا البغوي ، قال حدثنا هدبة ، قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لما نفخ في آدم الروح مارت فطارت فصارت في رأسه فعطس فقال : الحمد لله ، فقال له الله تعالى : رحمك الله " .

          قال العلماء : خلق آدم يوم الجمعة وكان طوله ستون ذراعا وعرضه سبعة أذرع .

          وفي تسميته آدم قولان :

          أحدهما : لأنه خلق من أديم الأرض ، قاله سعيد بن جبير ، وأديم الأرض وجهه .

          والثاني : أنه مأخوذ من الأدمة وهي سمرة اللون ، قاله الضحاك .

          قوله تعالى : وعلم آدم الأسماء كلها والصحيح أن هذا على إطلاقه فإن قوما قالوا : علمه أسماء الملائكة .

          قوله تعالى : ثم عرضهم يعني المسميات ، فقال للملائكة : " أنبئوني " أي أخبروني بأسماء هؤلاء .

          وفي قوله : إن كنتم صادقين ثلاثة أقوال :

          أحدها : إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون ويسفكون الدماء . قاله السدي عن أشياخه .

          والثاني : إن كنتم صادقين أني لا أخلق أعلم منكم وأفضل . قاله الحسن .

          والثالث : أن المراد إبليس ، لأنه قال : إن فضلت عليه لأهلكنه ، فالتقدير إن كنت صادقا إنك تفعل ذلك فأنبئني بأسماء هؤلاء .

          فلما أنبأهم بأسمائهم أقرت الملائكة بالعجز قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا فقال : يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم . قال الله تعالى : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض أي ما غاب فيها وأعلم ما تبدون من الطاعة وما كنتم تكتمون من أن الله لا يخلق أفضل منكم ، وقيل : ما كتم إبليس من الكبر .

          ثم أمر الله تعالى الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس .

          أنبأنا محمد بن عمر الأرموي ، قال : أنبأنا أبو الحسين محمد بن علي المهندي ، قال : [ ص: 21 ] أنبأنا ابن شاهين ، قال أنبأنا عبد الله بن سليمان ، قال حدثنا هارون بن زيد ابن الزرقاء ، قال حدثنا ضمرة بن ربيعة عن قادم بن مسور ، قال : قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : لما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم أول من سجد له إسرافيل فأثابه الله عز وجل أن كتب القرآن في جبهته .

          قوله تعالى : اسكن أنت وزوجك الجنة زوجه حواء خلقت من ضلعه وهو في الجنة ، والرغد : الرزق الواسع .

          وفي الشجرة المنهي عنها خمسة أقوال : الأول : الحنطة ، والثاني : الكرم ، روي عن ابن عباس ، والثالث : التين قاله عطاء وقتادة ، والرابع : شجرة الكافور ، روي عن علي رضي الله عنه ، والخامس : النخلة ، قاله أبو مالك .

          قوله تعالى : فأزلهما الشيطان عنها أي حملهما على الزلل ، وقرأ الأعمش " فأزالهما " أي عن الجنة ، قال السدي : دخل الشيطان في فم الحية فكلمهما ، وقال الحسن : ناداهما من باب الجنة .

          فإن قيل : إن كان آدم تعمد فمعصيته كبيرة ، والكبائر لا تجوز على الأنبياء ، وإن كان نسي فالنسيان معفو عنه .

          فالجواب : أن العلماء اختلفوا ، فقال بعضهم : فعل ذلك عن نسيان ، والأنبياء مطالبون بحقيقة التيقظ وتجويد التحفظ أكثر من غيرهم ، والنسيان ينشأ من الذهول عن مراعاة الأمر ، فكانت المؤاخذة على سبب النسيان .

          وقال بعضهم : تعمد الأكل لكنه أكل متأولا ، وفي تأويله قولان :

          أحدهما : أنه تأول الكراهة دون التحريم .

          والثاني : أنه نهي عن شجرة فأكل من جنسها ظنا أن المراد عين تلك الشجرة .

          قوله تعالى : قلنا اهبطوا منها جميعا قال ابن عباس : أهبط آدم وحواء وإبليس والحية ، أما آدم فأهبط على جبل بالهند يقال له " واسم " وحواء بجدة ، والحية بنصيبين ، وإبليس بالأبلة ، وكان مكث آدم في الجنة نصف يوم من أيام الآخرة ، وهو خمسمائة سنة ، وأنزل معه الحجر الأسود وعصا موسى ، وكانت من آس الجنة ، فأمره الله تعالى أن يذبح كبشا من الضأن مما أنزل الله تعالى إليه ، فذبحه ثم جز صوفه ، فعزلته حواء ، فنسج لنفسه [ ص: 22 ] جبة ولحواء درعا وخمارا ، وعلم الزراعة فزرع فنبت في الحال ، فحصد وأكل ، ولم يزل في البكاء .

          قال وهب بن منبه : سجد آدم على جبل بالهند مائة عام يبكي حتى جرت دموعه في وادي سرنديب فأنبت الله تعالى في ذلك الوادي من دموعه الدارصيني والقرنفل ، وجعل طير ذلك الوادي الطواويس ، ثم جاءه جبريل عليه السلام فقال : ارفع رأسك فقد غفر لك ، فرفع رأسه ، ثم أتى الكعبة فطاف أسبوعا ، فما أتمه حتى خاض في دموعه .

          وأما الكلمات التي تلقاها آدم فهي قوله تعالى : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين .

          قال العلماء : التقى آدم وحواء بعرفات فتعارفا ثم رجعا إلى الهند فاتخذا مغارة يأويان فيها ، وولدت حواء لآدم أربعين ولدا في عشرين بطنا ، وبعرفات مسح الله ظهر آدم فأخرج جميع ذريته فنشرهم بين يديه ، فرأى فيهم رجلا فأعجبه فقال : من هذا ؟ قال : داود ، قال : كم عمره ؟ قال : ستون سنة ، قال : فزده من عمري أربعين ، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت فقال : أو لم يبقى من عمري أربعون سنة ؟ قال : أو لم تعطها ابنك داود ؟ قال : ما فعلت ، فأتم الله عز وجل لآدم ألف سنة وأكمل لداود مائة .

          وهذا الجحد إنما ينسب إلى النسيان .

          ومرض آدم عشرين يوما وجاءته الملائكة بالأكفان والحنوط فقبض يوم الجمعة ، وصلي عليه ، وفي حديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة لما صلت على آدم كبرت عليه أربعا .

          وقال ابن عباس : مات آدم على نود ، وهو الجبل الذي أهبط عليه ، فصلى عليه شيث وكبر ثلاثين تكبيرة .

          ولما ركب نوح السفينة حمل آدم ودفنه ببيت المقدس ، ولم يمت حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا .

          وقال عروة : لما مات آدم وضع عند باب الكعبة وصلى عليه جبريل ، ودفنته الملائكة في مسجد الخيف ، والله أعلم . [ ص: 23 ]

          فصل : وقد حذرت قصة آدم من الذنوب وخوفت عواقبها ، وكان بعض السلف يقول : غرقت السفينة ونحن نيام ! آدم لم يسامح بلقمة ولا داود بنظرة ، ونحن على ما نحن فيه !

          التالي السابق


          الخدمات العلمية