الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

حقوق الإنسان (محور مقاصد الشريعة)

نخبة من الباحثين

تقديم بقلم

عمر عبيد حسنة

الحمد لله الذي جعل حرية التدين، التي تعتبر من أرقى الحقوق الإنسانية، وتأصيل كرامة الإنسان، خيارا لا إكراه فيه،

فقال تعالى: ( لا إكراه في الدين ... ) (البقرة:256) ، وقال مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم وكل من يسير على سبيله، مقررا لحقيقة يعتبر التزامها من الدين والطاعة والعبودية، كما يعتبر الخروج عليها من المنكر والفسوق والعصيان،

بقوله: ( لست عليهم بمصيطر ) (الغاشية:22) ، وقوله على سبيل الاستفهام الإنكاري: ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس:99) ، وقوله محددا مهمة النبوة: ( فإنما عليك البلاغ ) (آل عمران:20) ، ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) (النور:54) .

ذلك أن الإنسان مخلوق مكرم بتكريم الله له، قال تعالى: ( ولقد كرمنا بني آدم ... ) (الإسراء:70) ، يمتلك العقل الذي يجعله أهلا للاختيار، فهو مختار كذلك، أراد الله الخالق له أن يريد ويختار، والاختيار من أعلى درجات التكريم، وبذلك فهو المخلوق المكلف [ ص: 5 ] المسئول، ولا مسئولية بدون حرية، فإذا سقطت الأهلية (العقل)

رفعت المسئولية، وإذا أخذ ما وهب سقط ما وجب.

ولعلنا نقول في تعريف الإنسان وتمييزه عن سائر المخلوقات: بأنه المخلوق المكلف، أي المسئول، وأن أي انتهاك لحرية الاختيار اعتداء على إنسانية الإنسان وإهدار لآدميته.

والصلاة والسلام على من كانت الغاية من بعثته إلحاق الرحمة بالعالمين، واسترداد إنسانية الإنسان، وكانت غاية مهمته إبلاغ الناس بما أرسل به،

قال تعالى: ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) (النور:54) ، وقال تعالى: ( فإنما عليك البلاغ ) (آل عمران:20) ، وكانت وسيلته الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هـي أحسن، والحوار بالدليل والبرهان،

قال تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) (النحل:125) ، وقال: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هـي أحسن ) (العنكبوت:46) ..

ومن دعائم عقيدة الإسلام، أن الحجة والبينة والبرهان سبيل الإيمان والتحقق باليقين.. وبعد:

فهذا كتاب الأمة السابع والثمانون: «حقوق الإنسان.. محور مقاصد الشريعة»، لمجموعة من الباحثين المتخصصين، استمرارا للمضي [ ص: 6 ] في طرح مشروعات فكرية جماعية للقضايا المعاصرة، ومعاودة فتح ملفها

واستدعائها، لتصبح هـما ثقافيا، ومحركا اجتماعيا، وفرضا كفائيا، ومحرضا حضاريا، وشاحذا للعقول، وسبيلا للحوار الداخلي.

ولعل من الأولويات اليوم تتمثل في إعادة تشكيل النخبة، عقل الأمة، أو الطائفة القائمة على الحق، تمثلا وبلاغا، وتأسيس مرجعيتها في ضوء معرفة الوحي وتجربة النبوة الخاتمة وتطبيقات الخلافة الراشدة ومسيرة خيرة القرون، بحيث تمتلك من الرؤية الشرعية ما يمكنها من فقه الواقع بإشكالياته المتعددة، والقدرة على تحديد الاستطاعة، مناط التكليف في كل مرحلة، ومن ثم تنزيل الأحكام الشرعية بعد التحقق من توفر شروط محالها، اهتداء بالسيرة النبوية، واعتبارا بالتاريخ الخاص بمسيرة الأمة المسلمة، والعام بتاريخ الأمم، الذي يمكن من اكتشاف السنن الفاعلة في الحياة، أو قوانين الحركة الاجتماعية، حتى تتمكن من تسخيرها، ومدافعة قدر بقدر، بعيدا عن المجازفات وإهدار الطاقات، والمجاهدة تحت رايات عمية، وترك ما تستطيع إلى ما لا تستطيع، والاندفاع للإقدام على الفعل من خلال حالة الإحباط، والإعجاب بالموقف دون القدرة على النظر في تداعياته، وتحويل الأمة المسلمة إلى رصيد تضحيات جاهز للاستخدام والاستغلال من قبل (الآخر) [ ص: 7 ] وتصفية الحسابات الدولية والإقليمية بدماء المسلمين، تحت شعارات ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب.

إن حالة التخلف والإحباط التي نعاني منها، تؤدي إلى خلل في التوازن وضبط النسب، وتغيب التطلع إلى التحلي والتأهل بصفات البطولة في المجالات المتعددة، والتحول إلى انتظار البطل المنقذ، والقفز من فوق السنن، الأمر الذي لم تدعيه النبوة، ولم تمارسه.

وقد تكون الإشكالية التي نعاني منها ليست في عدم وجود قيم ضابطة لمسيرة الحياة ومعايير لتقويمها وتحديد مواطن الخلل التي تعتريها، ولا في عدم وجود تجربة تاريخية وتنزيل لهذه القيم على واقع الناس، ولا في شمولية هـذه القيم وتغطيتها لجميع مناحي الحياة البشرية، من القوة والضعف، والسقوط والنهوض، والنصر والهزيمة، والدعوة والدولة، وحقوق المسلم والمعاهد والمحارب.... إلخ، وإنما تتحدد الإشكالية -فيما نرى- بسوء التعامل مع القيم، الذي يؤدي إلى العبث بهذه الأحكام، والقراءة المغلوطة لمحالها، ومن ثم سوء تنزيلها على واقع الناس، ذلك أنه من المعروف شرعا وعقلا أن لكل حكم شرعي مواصفات وشروط لابد من توفرها في محل تنزيل الحكم، بعد النظر في توفر الاستطاعة، التي هـي مناط التكليف. [ ص: 8 ]

إن العبث في التعامل مع الأحكام الشرعية، ومحاولة الاستشهاد بها والارتكاز إليها في تسويغ مشروعية الفعل البشري، دون الإدراك لوجود الاستطاعة، وتوفر شروط المحل، يوقع بإشكالات كبيرة جدا، تكرس التخلف والتراجع، وقد تحدث أزمة ثقة بالقيم والنصوص نفسها، واتهامها بالعجز عن تقديم الحلول المطلوبة، وانتشال الأمة من معاناتها.

ولا شك أن هـناك أحكاما شرعية منوط إنفاذها بالسلطة المسلمة، كالعقوبات، والفصل في الخصومات، وإبرام المعاهدات، والقضاء بين الناس...إلخ، ونصيب الفرد من التكليف بها لا يخرج عن السعي والعمل لإيجاد السلطة المسلمة التي تضطلع بإنفاذها، أما التطاول لتنفيذها من قبل الأفراد بحجة غياب السلطة المسلمة من خلال فقه بئيس فتخلق من المشكلات والفوضى ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

إن عدم الإدراك الكامل لمواصفات الخطاب، في الكتاب والسنة، وحدود التكليف، وحدود الاستطاعة، وتوفر المحل، سوف يؤدي إلى العبث بالأحكام -كما أسلفنا- وتنزيل خطاب المعركة على محل الدعوة، وخطاب الدعوة على ساحة المعركة، أو خطاب المعركة على ساحة المعاهدة، ذلك أنه من المعلوم أن هـناك أحكاما شرعية تمثل [ ص: 9 ] خطابا للمعركة والتعبئة النفسية والتحريض على القتال والغلظة في المواجهة، وأخرى تمثل خطابا للدعوة والحوار والمجادلة باللين والحكمة وعدم الغلظة والفظاظة، وثالثة لبناء العلاقات الاجتماعية والوفاء بالمعاهدات وعقود الذمة، الأمر الذي إذا لم يدرك بفقه سليم فسوف يؤدي إلى لون من التدين المغشوش والضلال للسعي، ونحن نحسب أننا نحسن صنعا، كما يؤدي إلى تغييب مقاصد الشريعة ودورها الفاعل في حياة الناس.

ولا يقل عن ذلك خطورة ما نلاحظه من التقطيع في النسيج الثقافي للأمة، حيث أصبحت أمما انفرط عقدها، وتحولت إلى طوائف معجبة بنفسها وفكرها واجتهادها، وغيبت معاني الأخوة الشاملة، وانسدت أقنية الحوار الداخلي والتفاهم وبناء القاعدة المشتركة.

ونعود إلى القول: بأن الإشكالية هـي في التباس الذات بالقيم، وصور ومسالك التدين بقيم الدين، وبذلك تعطلت عمليات النقد والتقويم والمراجعة والاجتهاد ، وحاول كثير ستر عوراتهم الفكرية وعجزهم عن توليد الأحكام بالتستر بالقيم نفسها، والحديث عن قدسيتها وعظمتها وإنجازها التاريخي.

ولا نزال نرى: بأن الإشكالية ليست بالقيم المعصومة، وإنما بكيفية التعامل معها، أو بمعنى أكثر دقة: إن الإشكالية ليست في الدين وتعاليمه [ ص: 10 ] وإنما بصور التدين وكيفية التعامل مع هـذه القيم، وتوليد البرامج والخطط التي تسع حركة الحياة، في ضوء الاستطاعات أو الإمكانات المتوفرة والظروف المحيطة.

ولعل من نعمة الله على أمة الرسالة الخاتمة الخالدة، التي اصطفاها الله لوراثة الكتاب والاضطلاع بمسئولية ما انتهت إليه النبوة تاريخيا، أن وحي السماء الذي هـو مصدر المعرفة الأساس، لم يتعرض للتفاصيل والجزئيات بشكل عام، بل ناط ذلك بالعقل الذي يمارس الاجتهاد ووضع البرامج والآليات، في إطار معرفة الوحي، التي اكتفت بوضع القيم الضابطة للمسيرة، والمعايير المطلوبة للتقويم والمراجعة والقياس للفعل البشري، المصوبة للمسيرة، ومن لوازم ذلك امتلاك القدرة على الاستجابة لتطور الحياة، واحترام العقل البشري، ومنحه الحرية والإرادة التي بها يتحقق تكريم الإنسان وتكليفه ومسئوليته.

فالقيم، ومصدرها معرفة الوحي، وهي معصومة عن الخطأ، ويعتبر من خصائصها الخلود، تشكل أطرا مرجعية؛ والبرامج المؤطرة بالقيم، ومصدرها معرفة العقل، ويجري عليها الصواب والخطأ، وتعتبر من وسائل تحقيق الخلود، منوط بها توفير الاستجابة لتطور الحياة.

وتبقى الغاية الأساس أو المقصد الأساس من إرسال الرسل وإنزال القيم هـو إلحاق الرحمة بالعالمين وتحقيق سعادة الإنسان في دنياه [ ص: 11 ] وآخرته قال تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107) .

ويكاد يكون المنطلق أو المحور الرئيس لتحقيق هـذه السعادة وإلحاق الرحمة وتوفير الحقوق، التي تحفظ إنسانية الإنسان وتحمي كرامته، يتمثل في إيقاف تأله البشر بعضهم على بعض، وعدم القبول بأن يكون الإنسان المخلوق مصدرا لوضع القيم للآخرين المخلوقين مثله، حتى لا تتحول لتصبح جسرا للتأله عليهم والتشريع لهم والترفع عنهم.

ولعلنا نقول هـنا: بأن أصل الشر في الدنيا وانتهاك الحقوق الإنسانية والفساد وسفك الدماء، كامن في تسلط الإنسان على الإنسان، وإن هـذا التسلط، أو إن شئت فقل: «التأله»، أخذ على مدار التاريخ والرحلة البشرية أشكالا متعددة ومتنوعة، وكان لكل عصر آلهته وطاغوته.. فمنذ فجر التاريخ، في العهد الزراعي، أخذ هـذا التأله أو التسلط صورة الإقطاعي الذي يملك الأرض والإنسان، ويتصرف كما يحلو له، ولا تزال عقدة أقنان الأرض تتسلل بشكل أو بآخر إلى كثير من النفوس في مجالات الحياة المختلفة، الأمر الذي يزري بكرامة الإنسان.

ولعل من أخطر أشكال التسلط وأعتاها هـو تلبس الحكم بالألوهية، واعتبار الحاكم هـو المتحدث باسم الله، أو هـو ظل الله على [ ص: 12 ] الأرض، ينفذ إرادته ويتحكم بالبشر كما يحلو له، وأن أية معارضة أو قعود عن طاعة الأوامر هـو عصيان لله تعالى.. فباسم الله قد يستغل البشر، وتنتهك الحرمات، وتستباح الأعراض، وتوضع القيم والتشريعات، التي لا تقبل المناقشة ولا النقد.

ومن أشكال التسلط وانتهاك حقوق الإنسان التي حفظها التاريخ أيضا، تسلط طبقة رجال الدين، التي شكلت نوعا من الكهانة واحتكار تفسير إرادة الله والتسلط على البشر باسم الدين، والتحكم بدنيا الناس وأخراهم، وابتزاز أموالهم وأعراضهم بما يسمى «الاعتراف والغفران»، وتصرفهم بالمصير والآخرة، وبيع صكوك الغفران، بما أسمي بالحكم «الثيوقراطي» أو الديني، والذي كان من الطبيعي الخروج عليهم، ذلك الخروج الذي لم يقتصر على رفض سلطة رجال الدين والكهنوت وتسلطهم وتصويب الممارسات التي لا علاقة لها بنصوص الدين، وإنما كان خروجا وانسلاخا من الدين كله وما يمت إليه بصلة.

إن الخروج على الواقع المنحرف، للتخلص من الحكم الثيوقراطي أوتسلط رجال الدين، جاء معالجة للانحراف ولكن بانحراف مماثل، لم يكن في صالح إنسانية الإنسان وحقوقه، وإنما هـروبا من تسلط البشر [ ص: 13 ] باسم الله إلى الوقوع من ألوهية البشر، لكن بشكل ولون آخر.

ومن أشكال التسلط والتأله في التاريخ أيضا، الادعاء بأن العرق الآري، يمتلك من الخصائص والصفات المتميزة مالا يملكه الآخرون، الأمر الذي يبرر له استعمار الآخرين، والتحكم بأحوالهم، وسوقهم وفق إرادته، لأنهم يتصفون بالدونية بأصل الخلق فهم عضويا غير مؤهلين.

ومن آثار ذلك أيضا، الادعاء بتميز الرجل الأبيض.. وقد يكون الأخطر من هـذا جميعه الادعاء أيضا باختيار الله لشعب دون سائر الشعوب والأجناس، لا على كسب فعله هـذا الشعب وإنما بأصل الخلق، وقد يكون منهم المؤمن والكافر والفاسق... إلخ، وما يترتب على ذلك من العنصرية والتمييز والاعتداء على عدل الله، الذي يدعون ذلك باسمه.

ومن صور وأشكال التسلط أيضا، التسلط باسم الطبقة، والادعاء بأنها صاحبة المصلحة الحقيقية، وكذلك الحزب القائد، باعتبارهم لأنفسهم أنهم قدر الأمة، ومطاردة الآخرين على أنهم أعداء الشعب.

وقد لا يتسع المجال هـنا لمزيد من فتح النوافذ على أشكال التسلط والظلم، وإهدار كرامة الإنسان، والعبث بحقوقه، مصدر الشر في العالم، وحسبنا أن نقول: بأنه لا مجال لاسترداد كرامة الإنسان [ ص: 14 ] وحماية حقوقه إلا بإيقاف هـذا التسلط المتأتي من التأله البشري بكل أشكاله، وإعادة تصويب مفهوم الألوهية، وأنها مصدر القيم التي يتساوى الناس أمامها جميعا، بحيث تستمد هـذه القيم والمعايير من مصدر خارج عن الإنسان، ومن ثم التمييز بين قيم الدين المعصومة، وصور التدين التي يمكن أن تلحق بها إصابات وممارسات مخطئة وظلم محتمل،

لذلك قال تعالى: ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) (الأنعام:82) ..

فالتلبس بين قيم الدين وصور التدين وادعاء العصمة لسلوك الناس، نوع من الظلم والعتو في الأرض والعودة إلى التسلط ولكن بفلسفة أخرى.

وبالإمكان أن نقول بكل الاطمئنان: بأن الدعوة إلى الإيمان بالله وعدم الإشراك به، بأي نوع من أنواع الشرك، هـو السبيل الوحيد لتوفير كرامة الإنسان وتحقيق إنسانيته ومساواته بالآخرين، فالتوحيد في نهاية المطاف يعني التحرير.. والذين يحاولون إلغاء الألوهية بهذا المفهوم، أو تحييده عن حياة الناس، إنما يفعلون ذلك ليجعلوا من أنفسهم آلهة - ولكل عصر آلهة- لأن الإيمان بالله واستمرار القيم والمعايير منه تسويهم بغيرهم.

وقد يكون من المفيد أن نذكر: أن القيم المشرعة للحقوق [ ص: 15 ] الإنسانية، والمعايير وموازين التقويم الحارسة لها والضامنة لامتدادها، عندما تستمد من مصدر خارج عن الإنسان، من الخالق العالم بأحوال الناس، البريء من الهوى والانحياز والخطأ، المتصف بصفات الكمال، يتلقاها الناس بالقبول، لشعورهم بالتساوي وعدم التمييز أمامها، والعدل في إنفاذها، إضافة إلى أن احترامها والالتزام بها إنما يتم بدافع داخلي وبوازع ذاتي، لاعتقادهم بأن الذي شرعها وأمر بالتزامها يعلم السر وأخفى، ويحاسب عن التقصير بها أو الانتهاك لها.. وليس هـذا فقط، بل وجود تشريعات لبيانها، وعقوبات لانتهاكها، وبذلك تتحصل القناعة والثواب بها من داخل النفس، وتصان بالتشريعات الملزمة والعقوبات للمعتدي عليها.

بينما عندما توضع تلك القيم والمعايير من الإنسان نفسه، فزيادة على احتمال أن تتحول إلى وسيلة للتسلط والتعالي والانحياز، لأن الإنسان، أي إنسان، مهما حاول التحرر فهو يقع بشكل طبيعي تحت تأثير تربيته ومجتمعه وقبيلته وطائفته وحزبه وأهوائه ونزواته، إضافة إلى عمره المحدود وعلمه المحدود، الذي لا يمكن أن يحيط بالحاضر والمستقبل، فالإنسان نفسه يرى في وقت ما لا يراه في وقت آخر.

ومن جانب آخر، يمكن لنا أن نطرح السؤال الكبير: ما هـي [ ص: 16 ] الضمانات التي تجعل من الآخرين محل قبول واحترام لهذه المعايير البشرية، وعلى الأخص أن الناس خلقهم الله، ويشعرون وكأنهم يعيشون على مائدة مستديرة -بالتعبير الدبلوماسي- أي خلقوا متساوون في الحقوق، فبأي حق يمكن لبعضهم أن يعطي نفسه حق التشريع ووضع القيم للآخرين؟ وما هـي الضمانات ألا تجيئ هـذه القيم منحازة ومحققة لمصلحة من وضعها، وأداة للتسلط على الموضوعة له؟

أما إذا استمدت من مصدر خارج عن الإنسان فيتساوى أمامها الجميع، حيث تبرأ من الانحياز بأصل مصدرها، وتحمي كرامة الإنسان، وتمنحه الحق في وضع البرامج والآليات للتعامل مع هـذه القيم الضابطة لمسيرة الحياة، وبذلك لا تلغي الإنسان وإرادته ونمو عقله، وتحميه من السقوط والانهيار، ولا تسمح بتسلطه وتألهه على البشر من أمثاله، والانشغال بوضع فلسفات وتسويغات لعمليات انتهاك حقوق الإنسان هـنا وهناك.

وقبل أن نقدم بعض الملامح لقضية حقوق الإنسان، وكونها محور مقاصد الشريعة، لابد أن نشير هـنا إلى قضية مركزية في مسألة حقوق الإنسان وحماية كرامته وتقرير إنسانيته، تتمثل في القيمة الكبرى التي حسمها الإسلام ولم يساوم عليها وهي عدم الإكراه، [ ص: 17 ] فلا إكراه، ولا إجبار،

قال تعالى: ( لا إكراه في الدين ) (البقرة:256) ، وقال تعالى: ( وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) (ق:45) .

لقد جعل الله السبيل إلى الاقتناع بالدين هـو التفكير والعلم والقراءة والاستدلال والبرهان، وجعل السلاح الأقوى في التأثير هـو القلم.. وليس من قبيل المصادفة أن يكون أول ما نزل قوله تعالى ( اقرأ ) ، ( علم ) ، ( علم بالقلم ) ، وأن مشروعية الجهاد دائما جاءت لمدافعة الظلم وحماية حرية الاعتقاد.. وتبقى الإشكالية استبدال السيف بالقلم، نتيجة للقهر والإحباط.

فالإكراه بكل المعايير إسقاط للعقل، أساس كرامة الإنسان، وإلغاء للإرادة والاختيار، وسبيل للتسلط والفساد وسفك الدماء والظلم، وقتل للإنسان، بل هـو أشد من القتل، ذلك أن إجبار الإنسان على دين أو مبدأ أو عقيدة لا يختارها ولا يقتنع بها، أو حرمانه من عقيدة أو دين يختاره، أشد فظاعة من قتله، لأن ذلك قتل لإرادته واختياره، وإلغاء لإنسانيته، وإسقاط لكرامته،

لذلك قال تعالى: ( والفتنة أشد من القتل ) (البقرة:191) ، فجريمة القتل على فظاعتها ومخاطرها تبقى دون جريمة الإجبار والإكراه.. والمعروف [ ص: 18 ] أن الله شرع الجهاد، على الرغم مما يقع فيه من القتل، لحماية اختيار الناس، والحيلولة دون إكراههم أو إجبارهم أو فتنتهم،

فقال تعالى: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) (البقرة:193) ، وفي ذلك إلغاء لتأله البشر.

وقد يبدو كلامنا عن «الإكراه» هـو من بعض الوجوه إغراق في الابتعاد عن الواقع، ذلك أن المسلمين اليوم عاجزون حتى عن الدفاع عن أنفسهم، ناهيك عن إكراه الآخرين، وأن عمليات «الإكراه» والاغتصاب السياسي والثقافي والإعلامي والعسكري تمارس ضدهم على المستويات كافة، إلا أن ذلك لم يمنعنا من التأكيد على أن شعار المسلمين الدائم يبقى هـو: «لا إكراه»، بعيدا عن جميع أنواع ردور الفعل.

لذلك يمكن أن نخلص إلى الحقيقة التي هـي أشبه بالبدهيات: بأنه لا إنسان بلا دين، أي بلا معايير، بلا قيم، وأن الإشكالية التاريخية بين النبوة من جانب والطاغوت من جانب آخر هـي في مصدرية تلقي القيم (الدين) ، ونسخ ألوهية البشر، وإفراد الله بالتوحيد، والتوحيد هـو التحرير -كما أسلفنا- أو تلقي القيم من البشر، لأن ذلك مهما ادعي له من الموضوعية والحياد فهو جسر للتسلط، والتأله، [ ص: 19 ] والانحياز، والاستغلال، والطاغوت، أي الطغيان، والإجبار.

ولعل الخطورة التي تتأتى من قبل أتباع النبوات، إنما تتأتى من صور التدين ومسالكه، وذلك عندما يتحول بعضهم إلى طبقة من الكهنة تحتكر المعرفة، ويحل فهمها محل القيم المعصومة، ويصبح سلوكها هـو المعيار والمقياس ومصدر القيم، وتحاول تحويل الناس المؤمنين من قيم ومعايير الله الشارع، المعصومة، المبرأة من الانحياز والظلم، إلى فهم البشر، إلى فهم الشارح الظني، الذي يجري عليه الخطأ والصواب، وعند ذلك يهتز المعيار، وتتداخل انحيازات البشر وتأثيراتهم ورغباتهم، فتنقلب المعادلة، فبدل أن يعرف الرجال بالحق يعرف الحق بالرجال، ويبدأ الاستغلال والتسلط، لكن هـذه المرة باسم الدين، الذي يعتبر الملجأ الأخير للناس.

والخشية هـنا أن يفقد الناس ثقتهم بالقيم نفسها لا بحملتها فقط، ويصعب عليهم تجاوز الصورة المجسدة أمامهم إلى الحقيقة المجردة، فيكون التنكر لقيم الدين التي إنما شرعت لتحقيق الخلاص، فتحولت على يد الكهنة إلى أخطر مجال للاستغلال والتسلط، وهكذا يتحول الناس من جحيم إلى جحيم، وكلما دخلت أمة لعنت أختها، وتستمر رحلة العذاب والقهر والإجبار وإهدار كرامة الإنسان وحقوقه، وتشيع [ ص: 20 ] الفلسفات والتسويغات، ويقتل الإنسان عمليا، سواء أكان ذلك بمطارق من حديد أو بحبال من حرير.

ولقد حذر الله سبحانه وتعالى الأمة الخاتمة من علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة، وما يمكن أن تحدثه الكهانات الدينية من الظلم والتسلط والاستغلال، لتكون على بينة من أمرها وحذر من سوء العاقبة،

فقال تعالى: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) (التوبة:31) ..

وقد يكون فيما ورد في تفسير الآية وبيان معناها ما لا يحتاج أي استزادة لمستزيد:

روى الإمام أحمد والترمذي ، ( عن عدي بن حاتم ، رضي الله عنه : أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عدي إلى المدينة، وكان رئيسا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هـذه الآية: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) قال فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: «بلى إنهم حرموا عليهم [ ص: 21 ] الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم ) ... وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وغيرهما في تفسير: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) : إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا" (مختصر تفسير ابن كثير، مجلد2، ص136-137) .

وقد لا نكون بحاجة كبيرة للكلام عن دور الإسلام، أو دور القيم والمعايير الإسلامية، في تأسيس وتأصيل حقوق الإنسان، سواء على مستوى القيم والمبادئ أو على مستوى التطبيق والتجسيد والممارسة الحضارية، أي على مستوى الثقافة والحضارة معا، واعتبار ذلك دين من الدين، وعبادة من العبادات، التي هـي جزء من عقيدة المسلم، لا يخرج من عهدة التكليف إلا بأدائها، بل لعلنا نقول: إن حقوق الإنسان في الإسلام جزء من العقيدة، أو هـي من صلب العقيدة، وأن ممارستها نوع من العبادة التي يترتب عليها الثواب في الفعل والعقاب في الامتناع.

ولم يكتف الإسلام بأن جعلها قناعات فكرية ووصايا ومواعظ وآداب أخلاقية فقط، وكل أمر الالتزام بها إلى ضمير الإنسان وقناعته، وإنما أيد ذلك بتشريعات ملزمة وعقوبات صارمة لمن يخرج عليها، [ ص: 22 ] باعتبار أن لها بعدا اجتماعيا يتجاوز الإنسان، وأقام لها أيضا الحراسات والرقابة العامة والمستمرة، من مهام الأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر، أو ما يسمى بمهام الحسبة بشكل عام، على مختلف الأصعدة، فالتقى بذلك الوازع الداخلي والرقابة الذاتية مع التشريع الملزم، مع الرقابات والحراسة الدائمة من داخل النفس ومن خارجها.

ويبقى الإيمان بيوم الحساب وقاية للناس من الإحباط والارتكاس والارتداد عن الالتزام بالحقوق، عند عدم تحصل النتائج في الدنيا، وبذلك يستمر الخير حتى ولو غاب إنفاذ التشريع الملزم أو تراجعت الرقابة العامة.

ولابد من العودة إلى التأكيد: بأن ما أتت به النبوة في الكتاب والسنة، في هـذا المجال وفي غيره، هـو عبارة عن قيم ومعايير ضابطة لمسيرة الحياة، وأن أمر التشريعات والبرامج والخطط والتأسيس والتأصيل لهذه القيم إنما نيط بالعقل البشري، ليرتقي بوسائل إقرار حقوق الإنسان ويحققها ويحميها ويطور لها الرقابات والمنظمات وآليات الاحتساب ضمن مرجعية القيم، وأن الكثير من التخاذل قد لحق بالأمة المسلمة، بسبب عجزها وتقصيرها في تطوير هـذه الآليات.

لقد تطورت التشريعات وتطورت الآليات والتنظيمات، وتطورت وسائل الرقابة العامة حتى غدا الإعلام اليوم، المقروء [ ص: 23 ] والمسموع والمكتوب والمشاهد، سلطة رابعة من سلطات الدول، بل نكاد نقول: إنه يتطور ويتطور ليقفز إلى المقدمة فيكون السلطة الأولى، ذلك أن الرقابة ترقى بالأداء، وتصوب الخطو، وترشد إليه، وتكشف الخطأ، وتفضح الاختلاس والاختلال والرشاوى، لكنها في غياب القيم والمعايير الضابطة قد تتحول إلى وسيلة بيد أهل الظلم والاستكبار، فتجعل الحق باطلا والباطل حقا.

وبالإمكان القول: إن مؤسسات حقوق الإنسان، وأشكال الحسبة والرقابة العامة ومنظمات المجتمع، المتجاورة مع النظام السياسي في بلاد المسلمين، إن وجدت، لا تزال تعاني من غربة الزمان والمكان، وكأنها تعيش بمعزل عن العالم وما حققه من تقنيات وتشريعات في هـذا المجال، ودائما نجد لأنفسنا العزاء بالهروب إلى القيم للاحتماء بها وبما حققته من إنجاز تاريخي لتغطية مركب النقص وستر العورات، وتستمر في حياتنا الكهانات حتى تكون فوق الحساب والتقويم والمراجعة والنقد، خشية أن يكون ذلك موجه للقيم ذاتها، وتستمر رحلة التستر على الأخطاء والأشخاص باسم حماية قيم الدين، ونسبق من العالم، ونبقى نراوح في مكاننا، ونظن أننا نقطع المسافات بالصياح والهياج والصراخ، حالنا في ذلك أشبه ما يكون [ ص: 24 ] بحال الطفل الذي يستخدم الصراخ لاستدعاء أمه كلما أراد شيئا.

لقد امتدت حالة الطفولة لتستغرق حياتنا، حتى ظننا أن كل مشكلاتنا يمكن أن تحل بالصياح والبكاء والصراخ والحماس والخطب الرنانة، وكأننا لما نشبع بعد خطبا حماسية وصراخا لا يجدي، على الرغم من كل هـذا التقهقر وهذا الزمن الضائع، وهذه الفجوة الرعيبة بين قيمنا الإسلامية وواقعنا المتردي، دون أن يتملكنا القلق السوي الذي يدفعنا لاكتشاف الخلل وسبل معالجته.

وعلى أحسن الأحوال، فإننا نعيش في حالة ترقب، انتظارا لظهور البطل صاحب السلطة والقدرة الخارقة على قهر العدو، ومواجهة الخصم، يقدم حياته فداء ويقاتل نيابة عنا، ليثأر لنا من (الآخر) ، الذي ندعي دائما أنه سبب تخلفنا؛ بدل إشاعة معاني البطولة في النفوس ليتطلع إليها أفراد الأمة جميعها، والبحث عن المؤهلات والصفات الموضوعية التي تنتج البطل والمبدع والمخترع والمتفوق، وتؤهل لنهوض الأمة، حتى أن بعضنا بات لا يكاد يبصر من تاريخنا إلا فترات الغزوات والانتصارات، أما ما هـي المؤهلات التي حققت هـذه الانتصارات، وأن نفقه لماذا شرعت تلك الغزوات، وماذا حققت هـذه الانتصارات، وكيف تعاملت مع السنن والأقدار، وما قدمت من [ ص: 25 ] التضحيات، لتوفير حقوق الإنسان وحمايتها من الانتهاك، وكيف ساهمت في إقرار حرية التدين والاختيار، ولماذا شرع الإقدام على الموت وتقديم الشهداء، فذلك لا يزال من الفقه الغائب.

لقد أباح الإسلام قتل أعداء حرية الاختيار الذين يمارسون الفتنة – لأن الفتنة حرمان للإنسان من حق الاختيار- وقرر الشعار الكبير: «لا إكراه»، ولكن مع الأسف، فإن ذلك لا يزال يقرأ بأشكال مغلوطة، أو لا يحظى إلا بالقليل من الدراسات، لأن ذلك يقتضي اجتهادا وتفكيرا وجهدا كبيرا، بينما الكثير منا –حتى في المؤسسات الأكاديمية- لا يحسن إلا الشحن والنقل من الماضي والتفريغ في الحاضر، ولو اختلف الزمان والمكان والإنسان، وذلك إلقاء بالتبعة على (الآخر) من بعض الوجوه أيضا.

وقد لا نكون بحاجة إلى التأكيد بأن حقوق الإنسان في الإسلام إنما شرعت بأصل الخلق، ولم تأت ثمرة لمعاناة أو مظاهرات أو صراعات بين الحاكم والمحكوم، أو بين العمال وأصحاب المعامل، أو بين الطبقات الغنية والفقيرة، أو ثمرة للثورات والحروب، فانتزعت انتزاعا.. وإنما هـي مقاصد الدين وغاياته العليا، ورسالة النبوة التاريخية، وأن الصراع التاريخي بين النبوة والكافرين بها هـو بين إنكار هـذه الحقوق وتقريرها. [ ص: 26 ]

من هـنا ندرك مقاصد النبوة الخاتمة «الإسلام»، التي تعتبر جماع النبوات من لدن آدم عليه السلام، والتي انتهت إليها أصول النبوات جميعا، وأن المؤمن بها مؤمن بالنبوة التاريخية ومتلق عنها،

قال تعالى: ( وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) (المؤمنون:52) ، وأن الصراع التاريخي كان بين التوحيد والتحرير وبين الخارجين عليه، الذين يريدون أن يجعلوا من أنفسهم آلهة تتسلط على الناس، بين إقرار حقوق الإنسان وبين انتهاكها، لذلك نرى أن مرتكزات العقيدة، والشريعة، والأخلاق، والمسالك، في الرسالة الخاتمة، جميعها تتمحور حول هـذه الحقوق أو هـذه المقاصد، إيمانا وتشريعا وممارسة ورقابة، للوقاية من الانتهاك لها، إلى درجة يمكن أن نقول معها: إن حقوق الإنسان في حقيقة الأمر هـي مقاصد الشريعة، أو مقاصد الدين، وأن مقاصد الدين هـي حقوق الإنسان في الإسلام.

وقد يكون من المفيد أن نتوقف قليلا عند هـذه النقطة، فنلقي عليها بعض الضوء بما يمكن أن يتسع له المجال، فنقول: لقد استقرأ كثير من العلماء التكاليف الشرعية، أوامرها ونواهيها، في العقيدة والشريعة والعبادة والأخلاق، في الأصول والفروع، وأخذوا بعين الاعتبار أيضا مراتب الحكم الشرعي في الفعل والكف، أو في الأمر والنهي، وخلصوا [ ص: 27 ] إلى أن الشريعة (الدين) إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في دنياهم وآخرتهم، وحمايتهم من المفاسد وما يفضي إليها، أي أنها تمحورت حول جلب المصالح ودرء المفاسد، وأن هـذه المصالح لا تتحقق والمفاسد لا تدرأ إلا بتوفير ما اصطلحوا على تسميته الكليات الخمس، أو الضروريات الخمس، التي لا تستقيم الحياة وتستقر وتستمر بدونها، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.. ورأوا، بعد التحري والاستقصاء والاستقراء، أن أي أمر أو نهي هـو عائد إليها في نهاية المطاف، إما بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، وإنما شرع لتحقيق إحدى هـذه الكليات الخمس، أو الضروريات الخمس.

فالدين: حاجة فطرية وضرورة حياتية، وعدم «الإكراه »، تحقيق لكرامة الإنسان؛ والنفس: إشباع غريزة الحياة، إقرارا وحماية؛ والعقل: محل أهلية الإنسان وتميزه، يستلزم حق التفكير والإرادة والاختيار؛ والنسل: نزوع وحاجة أصلية للجنس الآخر، يقتضي الحق في ممارسة الجنس بالطرق المشروعة وحماية الأنساب؛ والمال: تلبية لنزعة التملك والاحتياز وما يترتب على ذلك من حق التصرف والتملك والأهلية...إلخ، ولذلك اعتبر الإسلام هـذه المقاصد من الثوابت الأساسية لاستقامة الحياة، ورتب على الإخلال بها أو الانتهاك لها عقوبات رادعة. [ ص: 28 ]

لقد اعتبر الإسلام الاعتداء على هـذه الحقوق جريمة كبرى، وعظم أمرها، كما أنه لم يدع أمر تحديد العقوبة لرأي البشر واجتهادهم، وإنما نص على الجريمة ونص على العقوبة وحددها، وما العقوبات الحدية في الإسلام، أو العقوبات المنصوص عليها، إلا حماية لهذه الحقوق الإنسانية الأساسية وراجعة إليها.

فالقصاص وحد الحرابة والفساد في الأرض، يحمي حق الحياة، فمن قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا، ويحقق الأمن الاجتماعي والنفسي؛ وحد السرقة، إضافة إلى تحريم الغش والاحتكار والربا والميسر والغصب وما وضع لها من عقوبات تعزيرية، يحمي حق التملك؛ وحد الشرب وتحريم المسكرات والمفترات يحمي حق العقل، محل التفكير والتعبير؛ وحد القذف يحمي حق صيانة الأعراض؛ وحد الزنى يحمي حق النسل وعدم اختلاط النسب؛ وحد الارتداد يحمي حق الاختيار والتدين والخروج على الجماعة والعبث بدينها (التارك لدينه المفارق للجماعة) .

وهكذا نرى أن الإسلام اعتبر الاعتداء على الحقوق الأساسية جريمة كبرى، ونص على عقوبتها بما أسمي بالحدود الشرعية، والحدود هـي العقوبات النصية التي لا مجال للاجتهاد فيها. [ ص: 29 ]

وصحيح أن الحدود قد لا تنشئ حقوقا أو مجتمعا تسوده هـذه الحقوق، وإنها وإن كانت تساهم بذلك، لكنها في الأصل لحماية هـذه الحقوق وليس لإنشائها، وما وراء ذلك من الانتهاكات الجزئية لهذه الحقوق فترك أمر تحديد عقوباتها للاجتهاد بما أسمي بالتعزيرات.. فإذا كانت عمدة القانون الجنائي: لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، ليكون المواطن على بينة من أمره، أدركنا أهمية التنصيص على العقوبات والجرائم الكبرى، التي تنال كيان المجتمع وتنتهك حقوق الإنسان، والتي لم يترك أمرها للاجتهاد من جانب، وكيف أن هـذا التنصيص تعليم للإنسان بأهمية النص على العقوبات التعزيرية الاجتهادية أيضا، ليكون الإنسان على بينة مما يلحقه عند الفعل أوالامتناع عن الفعل.

وقد تكون المشكلة اليوم، وعلى الأخص في عالم المسلمين، قضية حقوق الإنسان بين القيم الدينية والمسالك البشرية، أو بين نصوص الدين وواقع التدين، ذلك أنه بالإمكان القول: بأن كثيرا من علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة، والتي حذرنا منها، قد تسربت إلينا بشكل أو بآخر، فجعلت صورة التدين وعلى الأخص التعاطي مع حقوق الإنسان بهذا الشكل البئيس، حيث تسربت إلينا بعض الكهانات، واستمرأها بعضنا، فأصبح يتوهم أنه [ ص: 30 ] هو الإسلام والإسلام هـو، ولابد أن يحترم ويكرم ويعظم ويبجل، لأن تكريمه تكريم للإسلام وتعظيم له، ولا يجوز أن يحاسب أو يراجع، لأنه يمثل قيم الإسلام، والقيم معصومة فهو يمارس المعصوم وإن لم يدع ذلك، وبدل أن يكون في خدمة الأمة، يتمثل قيم الإسلام في سلوكه ويجسدها في حياته وعلاقاته، تصبح الأمة في خدمته، وبدل أن يكون في خدمة المؤسسة التي يعمل فيها تصبح المؤسسة في خدمته (!)

لذلك نرى بعض الناس نفر من الدين بسبب هـذه الصور المنفرة، ونرى كثيرا من أفراد المجتمع في هـذا المناخ الردئ والتدين المغشوش استمرأ هـذه الكهانة، وقد لا يكون له أدنى كسب شرعي، وقد يكون أمضى عمره في تخصصات علمية- وذلك من الفروض الكفائية كما هـو معلوم- فيغادرها إلى نوع من صناعة المشيخة ومنابر الوعظ والإرشاد، ويعيش نوعا من العطالة، وقد يوقع الأمة جمعيها في الإثم لعدوله عن تخصصه، وبدل أن يكون في خدمة المجتمع يريد أن يصبح المجتمع في خدمته، وبذلك تمارس صور من التدين تزري بقيم الدين وتحاصرها وتهون من شأنها، بدل أن تغري بها، فتتحول المشكلة من أزمة تدين لتصبح أزمة دين، والعياذ بالله. [ ص: 31 ]

وقد لا نجد حرجا في القول: بأن هـؤلاء الذين غادروا تخصصاتهم العلمية إلى منابر الوعظ والإرشاد، قد أهدروا بذلك حقوق الأمة عليهم، حيث لم يقوموا بواجباتهم، ولم يكتفوا بذلك وإنما تجاوزوا

إلى مطالبة الأمة بحقوق لا يستحقونها، أو حقوق ليست لهم، لأن مالهم من حقوق إنما يتقرر في ساحة اختصاصهم مما تحتاج إليه الأمة.

ولعل من أخطر الإصابات التي نعاني منها على الأصعدة المتعددة، الاستمرار في هـذه الصورة من الضخ الخطابي والكتابي عن تميز حقوق الإنسان في الإسلام، وعظمة القيم الإسلامية، وتفردها، وصوابيتها، وقدرتها على استرداد إنسانية الإنسان وتحقيق أمنه وسلامه، والإنجاز التاريخي العظيم لهذه القيم، وتنتهي مهمتنا عند النزول من على درجات المنبر، دون التفكير بواقع المسلمين المتردي وانتهاك حقوق الإنسان وإهدار كرامته، ودون التفكير بوضع البرامج والآليات لتنزيل القيم الإسلامية على واقع الناس، وتجسيد هـذه الحقوق في حياتهم العملية، والانطلاق إلى فضاءات المجتمع والأمة، ووضع البرامج، وإقامة المؤسسات والروابط والندوات والنوادي المعنية بحقوق الإنسان وتحقيق كرامته، وإعادة النظر بتطوير نظام الحسبة ومؤسسات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإغراء الناس بالقيم الإسلامية، وإقناعهم بها، والإيمان بدورها في تحقيق كرامة الإنسان وتأمين حقوقه. [ ص: 32 ]

إن استمرار الكلام عن عظمة الإسلام، وما منحه للإنسان من حقوق، دون النظر في واقع المسلمين وأسباب العطالة لهذه القيم والتبصر بكيفية إعادة فاعليتها فأمر محزن قد ينال من القيم نفسها -كما أسلفنا- ويحمل الناس على التطلع إلى ما عند (الآخر) لعل فيه الخلاص، وعلى الأخص إذا كان من يدعون إلى تلك القيم هـم أول من ينتهكها بسلوكهم، ولا يبصرون إلا حقوقهم، ولا يرون شيئا من واجباتهم.

ولا يعفينا من المسئولية الإلقاء بالتبعة على (الآخر) ، على الأنظمة السياسية والأجهزة الأمنية، أو صور الاستبداد السياسي بشكل عام، لأن فضاءات المجتمع كبيرة، وكبيرة جدا، ودوائر الخير فيه تتسع لبذر الخير ورعايته، لكن المشكلة أننا نحاصر أنفسنا، أو نسوغ عطالتنا، دون أن نفكر كيف نتحول نحن إلى أدوات للتغيير، كل بحسب موقعه.

ولعل من المفارقات العجيبة والأمور الغريبة، أن تكون حقوق الإنسان أكثر انتهاكا في عالم المسلمين، الأمر الذي يقود مجتمعنا، في معظم الأحيان، إلى انفجارات اجتماعية ومجازفات خطيرة، تهلك الأمة وتجعل بأسها بينها شديد، وتبدد الطاقة، وتقضي على الآمال، وتغري (بالآخر) ، حيث يتمتع الإنسان بأقدار كبيرة من حقوقه وكرامته، لأنه قد يجد نفسه هـناك ويفتقد نفسه هـنا، وقد يستطيع [ ص: 33 ] أن يقول في الشارع ما لا يستطيع قوله في بعض مساجد العالم الإسلامي (‍!) وهذا من البلاء والفتنة والصراع الثقافي الذي لا ينفع معه الادعاء، ذلك أن إمكانية النهوض الحضاري ترتكز أساسا على

كرامة الإنسان وحماية حقوقه، حتى يتمكن من استثمار طاقاته والانطلاق وإعادة البناء، خاصة أن كل الادعاءات التاريخية لعوامل النهوض التي تجاوزت الإنسان إلى أشيائه باءت بالفشل، وفتحت المجال لتقدم (الآخر) ، والمشكلة أننا نلغي الإنسان ومن ثم نتساءل: لماذا هـذا التخلف؟!

ولعل من نعمة الله تعالى على هـذه الأمة، امتلاكها لإمكان النهوض الحضاري عندما تعزم على الرشد وتأخذ ما آتاها الله بقوة.. فهي تمتلك النص الإلهي السليم، أو القيم المعيارية للفعل والسلوك البشري، الخارجة عن وضع الإنسان وعبثه.

كما تمتلك التجربة المعصومة من السيرة في تنزيل هـذه القيم على واقع الناس، وتجسيدها في برامج وممارسات بشرية، إضافة إلى التاريخ الغني بعبر السقوط والنهوض، التي لم تقتصر على تجربة الرسالة الخاتمة وإنما تتقدم إلى الإفادة من رصيد تجربة النبوة التاريخية، والكثير من الفترات التاريخية التي مكنتها من التجاوز ومعاودة الانطلاق.. فسلامة المعايير كفيلة بإعادة التصويب باستمرار.. وتبقى [ ص: 34 ] المشكلة في كيفية التعامل مع المعايير أكثر منها في مسالك الناس وصور التدين.

وعلى الرغم من واقع الإنسان في عالم المسلمين، أو واقع حقوق الإنسان، التي قد لا ترقى إلى مستوى حقوق الحيوان في بعض الثقافات والمجتمعات الأخرى، مع ذلك ما تزال القيم الإسلامية – معقد الأمل- في امتداد وصعود وظهور، والإيمان بها يمتد في سائر الحضارات والثقافات والشعوب، مهما كانت درجة رقيها أو تخلفها، ولعل ذلك مؤشر على أن القيم الإسلامية الخالدة قادرة على إقناع الإنسان بها، والارتحال إليها، مهما كانت سويته الحضارية، ومهما كان الواقع الإسلامي، وهذا من الإمكان الحضاري للقيم الإسلامية القادرة باستمرار على انتشال الإنسان ليجد إنسانيته فيها، وهذا مؤذن بظهور الدين (الإسلام) على الدين كله، على الرغم من إصابات المتدينيين التي قد لا تثير الاقتداء.

ولا نزال نعتقد أن الإصابة الأساس تكمن في أدوات توصيل القيم الإسلامية وما نالها من العطب.. ومما لا شك فيه أن الالتزام بها أو التحلي بها وتوصيلها بالقدوة، يعتبر من أهم وسائل توصيلها وأكثرها تأثيرا. [ ص: 35 ]

فالإسلام اليوم يظهر وينتشر بقوة مبادئه، وسلامة معاييره، وبعدها عن التحيز، ورصيدها في الفطرة الإنسانية، وتحقيقها لكرامة الإنسانية.. ولعل الإشارة إلى بعض المنطلقات الأساسية لحقوق الإنسان، تفسر لنا انتشاره وظهوره المستقبلي على الدين كله.

وقد يكون من أبرز المنطلقات: إعلان المساواة التي هـي روح الحضارة الإنسانية، فالناس في الإسلام ينحدرون من أصل واحد،

يقول تعالى: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ... ) (الحجرات:13) ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( الناس بنو آدم، وآدم من تراب..... ) (أخرجه الترمذي ) .

والإيمان في الإسلام بالإله الواحد، وتوجيه الخطاب للناس جميعا، يسوي بين الناس، ويدفع تأله البشر وتسلط بعضهم على بعض، والتخلص من العنصريات والألوان والأجناس والشعب المختار، ذلك أن الإسلام دين مفتوح للجميع، والأكرم هـو الأتقى، وليس حكرا على جنس أو عرق أو طبقة أو جغرافية أو لون، وأن الحضارة الإسلامية جاءت نسيجا من جميع العروق والأجناس والطبقات والمواقع الجغرافية.. فالتوحيد يعني التحرير –كما أسلفنا- ذلك أن الإشكاليات التاريخية المستهدفة لإنسانية الإنسان وحقوقه إنما تركزت [ ص: 36 ] حول التمييز بشتى أشكاله، وتسلط الإنسان على الإنسان، وإكراه الإنسان على ما لم يقتنع به.. فالقيم التي معيارها وشعارها: «لا إكراه»، مرشحة لوراثة الحضارة والإنسانية واسترداد إنسانية الإنسان في كل مواقعها.

وهذا الكتاب، أريد له أن يكون محاولة للتأصيل والتدليل على أن مقاصد الشريعة، بعد النظر والتدقيق، هـي حقوق الإنسان، الهدف منها توفير الحقوق وحمايتها، وبيان ما تتميز به التعاليم والمعايير الإسلامية من منطلقات تؤكد وحدة الأصل البشري، وما يترتب عليها من المساواة التي تعتبر روح الحضارة، والتأكيد على كرامة الإنسان بأصل الخلق والتكوين، لمجرد كونه إنسانا، مهما كان لونه وجنسه ودينه، كما تؤصل وتؤسس لحرية الاختيار تحت شعار: «لا إكراه»، وتعتبر أن إلغاء الاختيار والإرادة إسقاط لإنسانية الإنسان.

إن «الإكراه»، أكبر من القتل،

قال تعالى: ( والفتنة أكبر من القتل ) (البقرة:217) ، وإن الاعتداء على حقوق الإنسان يشكل جريمة اجتماعية وفردية، رتب الإسلام عليها عقوبات نصية حدية، ولم يترك أمرها للاجتهاد، حيث لا تستقيم الحياة إلا بتوفيرها.

والكتاب محاولة أيضا لتحرير بعض الأحكام الفقهية، وأهمية الاجتهاد في إدراك مواصفات الخطاب الإلهي، وشروط تنزيله على [ ص: 37 ] محاله، عندما تتوفر الاستطاعات التي تعتبر مناط التكليف، وأهمية تطوير وسائل الرقابة العامة لحراسة الحقوق، وإبراز دور الحسبة في حماية الحقوق، والتأسيس لهذه الوسائل في إطار المجتمع المدني، ومحاولة فك الحصار عن القيم الإسلامية، وإعادة النظر بوسائل توصيلها لإلحاق الرحمة بالعالمين.

وتشتد الحاجة أكثر فأكثر إلى مثل هـذه البحوث في ظل الموجة العاتية لانتهاكات حقوق الإنسان، باسم حقوق الإنسان، وعودة التأله البشري، وتسلط الإنسان على الإنسان، تحت مظلة الدفاع عن حقوق الإنسان، حيث أعطت بعض الدول لنفسها حق «الفيتو»، الذي أشبه ما يكون بالمقصلة التي تقطع رقاب الشعوب، وتغتال حقوق الأمم وليس الأفراد.

ونعتقد أن ما نقدمه في هـذا الكتاب، هـو استدعاء لبعض الأبعاد الحضارية الغائبة لمقاصد الشريعة، وإشاعة روح الاحتساب ، وتصحيح صور من التدين، والتمييز بين قيم التدين ومسالك المتدينين، والوصول إلى بناء إنسان الواجب، إنسان الفاعلية، الذي يحتسب في حمل الفكرة ويضحي في سبيلها، دون أن يبالي بما يناله من أذى، أو ينتظر من فوائد وحقوق.

والحمد لله رب العالمين. [ ص: 38 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية