الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

نظرات في مسيرة العمل الإسلامي

عمر عبيد حسنة

تقديم

بقلم فضيلة الشيخ محمد الغزالي

ارتقت وسائل الإعلام في العصر الحاضر وقطعت آمادا فسيحة في اجتذاب النفوس وصياغة الأفكار، وتوسلت بها مذاهب مفلسة أتقنت فن الدعاية حتى بدت وكأنها في جانب كبير من اليسار..!

والغريب أنك تبحث عن الإعلام الإسلامي وسط هـذا السباق المحموم فلا تجد إلا نفرا قلائل يتحركون بدأب، ويتحملون بجلد، ويستميتون في عرض الحق وسط ميدان كثرت فيه ألاعيب السحرة، وغابت عنه عصا موسى ..

ولذلك تسمع طنينا للباطل لا ينتهي، وأنينا للحق لا ينقطع..

وكان المفروض أن يكون الإعلام الإسلامي أندى صوتا وأرحب ساحة لأنه يقوم بدءا على كتاب معجز البيان، ورسول أوتي جوامع الكلم واختصرت له المعاني اختصارا..

والواقع أن المد الإسلامي الأول كان وحيا يصنع الرجال، وتعليما يفتق الألباب، وريادة نفسية واجتماعية تفرش أشعتها على مساحات رحبة ومساحات بعيدة بين أيدي المسلمين، كما تكشف الطريق مصابيح السيارة المنطلقة، فهي تمضي إلى غايتها على بصيرة..

وقد بلغ من نجاح الإعلام الإسلامي قديما أن الأعداء كانوا ينهزمون أمامه على مسيرة شهر! وأن جلال الإيمان قسمهم على أنفسهم فما يلقونه إلا وأمرهم فرط وأفئدتهم هـواء..

إن سيطرة الإسلام على الأفكار والمشاعر سبقت قدرته الحربية على مقارعة [ ص: 7 ] الضلال، ومن ثم أحس معارضوه أن مقاومته تشبه مقاومته النهار الطالع، أو إمساك الليل المدبر! ألا ما كان أعظم هـذا النجاح..

إنه نجاح أسهمت في إحرازه أجهزة الدولة وقوى الأمة معا، وقد كانا في صدر تاريخنا كيانا واحدا، وبقي هـذا النجاح متفاوت الألق قرابة ألف عام، وإن كان نصيب الشعوب الإسلامية في استبقائه أكثر وأرجح من السلطات الرسمية..

حتى جاءت القرون الأخيرة فإذا نحن مع الناس كما قال الطغرائي:

تقدمتني أناس كان شأوهم وراء خطوي لو أمشي على مهل!

ولا مكان لمفاخرة أو منافرة! فإن الدعايات الناجحة لا تنطلق من فراغ، وإنما تساندها جماهير تكدح، وصفوة ترسم وتقود، وذاك ما أعوز أمتنا في عصرها الحاضر.

أما خصومنا فقد استقامت أمورهم على نحو مثير، وليس يرجح تفوقهم العسكري إلا تفوقهم المدني، وليس يشبه حماسهم لأسباب القوة إلا حماسنا نحن لأسباب الضعف!

ولقد برعوا في خدمة مواريثهم ونحن لا ندري ما الكتاب ولا الإيمان؟ فكيف نحسن الجهاد لهما وما أحسنا معرفتهما ؟؟

كانت الصحف التي تخدم التنصير والاستشراق قوية الأداء، وكانت المقالات التي تنشر في صحف أخرى شديدة المكر مكينة الحقد، أما الكتابات الدينية عندنا فكان ينقصها الموضوع والأداء جميعا ! ولا أذكر أنه في شبابي الباكر كانت هـناك صحافة دينية ذات وزن..

نعم، ولدت مجلات أدبية رفيعة المستوى كمجلة (الرسالة) بيد أن تيارات الغزو الثقافي كانت أقوى منها فعصفت بها وبمثيلاتها، وخلت الأسواق للصحف (العلمانية) .

ولنعترف بأنها صحف غنية بفنون القول والتوجيه، فيها المقال، والخبر، والتعليق، وفيها القصة والعبرة والصورة، وتستطيع أن تقرأ السطور وما بين السطور ! بل تستطيع أن ترى العالم أمامك بجده وهزله وخيره وشره.. [ ص: 8 ]

ومن خلال هـذه الصحافة الذكية استطاعت الجماعات المشرفة عليها أن تلف كتل الجماهير حول ما تريد، وأن تمحو وتثبت كيف تشاء، وأن تنجح قضايا وتحبط أخرى، وأن تصنع الحماس حينا والبرود حينا آخر حتى انتهت أمتنا الكبرى إلى ما انتهت إليه!

ربما وجدت في الميدان الديني صحف تنشر بحوثا علمية متخصصة، وربما وجدت صحف تكترث بالنقد وتهتم بما ظهر واستتر من مآسي المسلمين، إلا أن هـذه وتلك لم تكن تشبع القارئ أو تغنيه..

وأكره المواربة في وصف عللنا، إن عددا من المحررين المسئولين كان حسن الإيمان ولم يكن حسن الفقه، لعله كان مخلصا للإسلام، لكن جراثيم التخلف الفكري السارية في دمه كانت تجعله يهزم الإسلام، ويصد عنه..

ومع ذلك فإن الصحافة الدينية ارتقت خلال ربع القرن الأخير، وبلغت مكانا لا بأس به..

والصحافي القدير غير الكاتب القدير، فإن فن الإبراز والعرض وتلوين الأداء وتنويع المادة المقروءة، ومواكبة الأحداث الجارية موهبة لا يقدر عليها كل كاتب..

وقد كان ( العقاد ) راسخ القدم مهيب القلم إلا أنه لم يكن صحافيا، أما ( سيد قطب ) فقد كان مؤلفا ضخما وكان كذلك صحافيا عظيما، وقد عاصرته، أو اقتربت منه وهو يخرج مجلة (الفكر الجديد) فأحسست بأنه مكين أمين.

والأستاذ ( عمر عبيد حسنة ) من أولئك الذين جمعوا بين الكتابة والصحافة، وأحسنوا صياغة العقل الإسلامي في كلا الميدانين..

والعراك الآن محتدم بين شتى الملل والمذاهب، كل يريد اجتذاب الجماهير إليه واستهواءها إلى مبادئه ! وقد افتنت الصحف المتنافسة في بلوغ غاياتها وتنوعت وسائلها وربما كانت الصورة الساخرة أنكى من كلمة صريحة، والتعليق اللاذع أسرع طعنة من نافذة، والمقال الذي يستغرق ربع عمود أجدى من كتاب مسهب، ووضع الخبر في مكان أخطر من وضعه في مكان آخر، وإبراز بعض الإحصاءات الميدانية أهم من حبك الأدلة النظرية، وقد يكون التفاهم مع بعض الخصائص النفسية والمصالح الاجتماعية أخصر طريق إلى المقصود !! [ ص: 9 ]

إن الصحافة سلاح أفتك من أسلحة البر والبحر والجو في أحيان كثيرة، ويسرنا أن الإسلاميين عرفوا هـذه الحقيقة أخيرا، وبدأت صحافتهم تشق طريقها إلى الأمام..

ولا ريب أن مجلة (الأمة) قد أحرزت نجاحا مبينا في خدمة الإسلام وكانت نجدة حقيقية للمتعلقين به والداعين إليه، ولا ريب أن ممن كانوا وراء هـذا النجاح الأستاذ (عمر عبيد) واقتداره في التأليف والتنسيق، والعطاء المشبع والرؤية البعيدة..

ومجلة (الأمة) تصدرها دولة قطر ، وكان المفروض أن يرى القراء فيها ملامح العمل الرسمي وتحفظه ! بيد أن المجلة برزت في طابع شعبي صادق شجاع إلى حد بعيد، وأقبل عليها عشرات الألوف، وكان يمكن أن يقبل عليها مئات الألوف، وليس من دافع لهذا الإقبال إلا أنهم يرون فيها ما يريدون ويقرءون ما يحبون..

وما أهمتهم قضية إلا وجدوا لها صدى بين صحائف المجلة التي أضحت وجها إسلاميا جميلا لا لقطر وحدها بل لدول الخليج كلها، ولولا التقشف الذي فرض نفسه على هـذه الدول لبلغ توزيع المجلة ألف ألف أو يزيد..

والسؤال الذي نجيب عنه هـنا: كيف تم هـذا النجاح ؟

إن أسرة التحرير تعاونت تعاونا مثمرا على تحقيقه، والكتاب المنتقون بعناية لهم دور مقدور كذلك..

وفي حديث الشهر الذي يحرره الأستاذ (عمر) أمور نحب إلقاء ضوء عليها، فما أكثر الغموض الذي يكتنف العمل الديني عندنا، وما أحوج الإسلام إلى إزالة هـذا الغموض..!

إن أعدادا من الدعاة لا يدرون (جغرافية) الميدان الذي يقاتلون فيه، ولا آماد الانحراف الذي يقاومونه، ويحسب كثير منهم القوى الإسلامية - أعني المحسوبة على الإسلام - قوى خالصة مجدية ! وأن القوى الأخرى هـم خصم مناوئ يجب القضاء عليه! وقد يقولون: من ليس منا فهو علينا !

ومنهم من يحسب إقامة الإسلام تتم بانقلاب عسكري ! وأن دور الإعداد التربوي والبناء العقائدي يجيء في المرحلة التالية !! [ ص: 10 ]

وأغلب العاملين في الحقل الإسلامي لا يريد الاعتراف بالأولويات التي يتوزع عليها الاهتمام وتتضافر حولها الجهود..

وقد تشغله نافلة عن فريضة، بل قد تشغله سنة عادية، أو تقليد متوارث عن معاقد الإيمان..

وشيء آخر يثير الحسرة: رفض دراسة الأخطاء التي تورط فيها بعضنا، ولحقتنا منها خسائر جسيمة !

إنني أسارع إلى القول بأن الأخطاء لا تخدش التقوى، وأن القيادات العظيمة ليست معصومة، ولا يهز مكانتها أن تجيء النتائج عكس تقديرها.. إنما الذي يطيح بالمكانة تجاهل الغلط، ونقله من الأمس إلى اليوم وإلى الغد، وادعاء العصمة، والتعمية على الجماهير المسترسلة..

إن هـذه الكبرياء لا تقل دمامة عن العوج الذي نحاربه في صفوف خصومنا، ونزدريهم من أجله !!

وقد لاحظت أن الأستاذ (عمر عبيد) في توجيهه الشهري يبرأ من الآفات التي أومأت إليها، وأنه يلمح بذور الخير في أي ميدان فيبرزها وينميها ويوجهها لخدمة الإسلام.

ويلمح الأخطاء فيحاصرها في صمت ويمنع تكاثرها ويأخذ في نقصها من أطرافها..

وهو يبحث عن الخير بين من هـو معه ومن هـو ضده، ويستعين به على بلوغ هـدفه، ولا يتجاهل الشر وإن وقع بين الأقربين منه، وإنما يعمل بأدب ورفق على حسمه وحماية المسلمين من غوائله..

والرجل يتحاشى الحدة في خصامه وفي سلامه، وقد أعانه هـذا الهدوء الفكري على المضي في طريقه يبني ولا يهدم ويصل ولا يقطع، ويستفيد من إمكانات يعجز عنها أصحاب المشاعر المهتاجة أو الأبصار الكليلة..

وقد سرني أن تخرج رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية بقطر توجيهاته الشهرية في سلسلة كتاب الأمة، وأملي أن يكون هـذا الكتاب تصويرا حسنا لحاجات الصحوة الإسلامية في مرحلتها الحاضرة، وهي مرحلة لها بعدها في مستقبل الإسلام وجهاده ضد المتربصين به، وما أكثرهم.. [ ص: 11 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية