الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        قراءة في فكر مالك بن نبي

        الأستاذ / عبد الوهاب بوخلخال

        تقديم

        عمر عبيد حسنة

        الحمد لله، الذي اصطفانا لوراثة النبوة والكتاب، وأوقفنا على تجربة النبوة، بدءا من لدن آدم، عليه السلام، وانتهاء بالنبوة الخاتمة، التي جاءت مصدقة لما بين يديها من النبوة والكتاب، ومهيمنة مصوبة للرؤى الدينية السابقة، ومبينة للتحريف والعبث بالخطاب الإلهي، الذي مارسه الإنسان على مسيرة النبوة وتعاليم الكتاب، ولعل من خصائص الهيمنة أن ناط بنا أمانة تبليغ وبيان تعاليم النبوة للناس، وحذرنا من علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة، فكانت قصص الأنبياء عبرة وبيانا وهدى وموعظة وسبيلا إلى الوقاية من الإصابة بهذه العلل القاتلة.

        وقد يكون في مقدمة تلك العلل تحريف النص الديني والتحايل على أحكام الله، وإخضاعها للهوى، وبذلك تحول الدين من محرك ومحرض ودافع وفاعل إلى معوق ومثبط وعائق ومانع من السمو والارتقاء، وتحول التدين (المغشوش) عند بعضهم من تزكية النفس وتهذيب السلوك إلى تعذيب النفس وانحراف السلوك، والخروج من سيرورة الحياة، والقعود عن أداء الأمانة ومسؤولية استنقاذ الناس، والانكفاء والتولي والتآكل الذاتي الذي يمهد [ ص: 5 ] للاستبدال خضوعا لسنة التداول الحضاري: ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) (محمد:38).

        ذلك أن من أخص خصائص النبوة الخاتمة، وارثة النبوات، مهمة الهيمنة ( ومهيمنا عليه ) (المائدة:48)، التي تعني - فيما تعني- الشهادة على الناس وإبلاغهم تعاليم النبوة ورسالة الله سبحانه وتعالى الخالق إلى الإنسان المخلوق: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ... ) (البقرة:143)، وقيادتهم إلى الخير وإلحاق الرحمة بهم.

        فلقد أهلنا الله سبحانه وتعالى لهذا (الجعل)، وشرع لنا وسائله وأدواته، وقدم لنا الأنموذج الذي يجسد تلك الأدوات ويمثل محل الأسوة والاقتداء، وزودنا إلى جانب ذلك بتجربة النبوة التاريخية، بكل عطائها في مجالي السلب والإيجاب لإغناء تجربتنا وإضافة حضارات إلى حضارتنا، وعقول إلى عقلنا، وعمق تاريخي لحاضرنا ومستقبلنا، زودنا بسلامة وصحة الأساس الذي تقوم عليه الحضارات الراشدة ويحقق السعادة الإنسانية، زودنا بالخطاب الإلهي المحفوظ بحفظ الله له ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9)، حيث كانت الإصابة الكبرى في تاريخ النبوة تتأتى من تحريف كلام الله عن مواضعه، ونسيان بعض ما ذكروا به، وإخضاعه لأهواء الناس وشهواتهم، فكان ذلك محور علل التدين تاريخيا، لذلك حسمت هذه القضية في الأمة الوارثة بتعهد الله بحفظ الرسالة الخاتمة، وتأهيل الجيل الذي كان أداة [ ص: 6 ] الحفظ بل الأجيال المتتابعة، فجاء النص سليما صحيحا وجاء الحفظ من خلال عزمات البشر.

        فلا تزال الأمة الوسط المنوط بها أمانة الشهادة على الناس وقيادتهم إلى الخير تمتلك النص الإلهي السليم الخاتم والخالد، الذي يشكل الإمكان المؤهل للنهوض في كل زمان ومكان وإعادة الفاعلية وإخراج الأمة الوسط وتحقيق العدل، ذلك أن هذا الحفظ وتنزيله على واقع الناس إنما تحقق من خلال عزمات البشر وسنن الله في الأنفس وطاقات الإنسان في الحمل والنقل والتمثل في السلوك، كما أن معاودة الإخراج واسترداد مقام (الجعل) وإحياء الفاعلية منوط بعزمات البشر أيضا.

        وليس أقل أهمية من تعهد الله بحفظ الخطاب الإلهي الأخير للبشرية، للحيلولة دون العبث والتحريف، تعهد الله ببيان تلك التعاليم من خلال البيان النبوي، الحديث الشريف والسنة، والتنـزيل العملي لتلك التعاليم في السيرة النبوية، يقول تعالى: ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) (النحل:44)، ويقول: ( إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه ) (القيامة:17-19)، فكان ذلك حماية من الإصابة الكبيرة والعلة التاريخية المزمنة التي لحقت بتعاليم النبوة: تحريف الكلم عن مواضعه: ( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم ) (المائـدة:13) [ ص: 7 ] ، إنها خيانة النبوة التاريخية، التي كانت عبرة للأمة الوسط لأخذ حذرها والوقاية من الإصابات.

        ومن هنا نقول: إن الأمة الوسط تمتلك اليوم كما تمتلك في كل زمان الإمكان والقدرة على معاودة النهوض واستئناف الرحلة الحضارية، حيث القيم الإلهية السليمة الصحيحة الخالدة كضابط وموجه للحركة، والتنـزيل النبوي كدليل وبوصلة عمل وتحديد وجهة لحماية مسيرة إرث النبوة من الإصابات والعلل بهدي النبوة وهيمنة الكتاب.

        والصلاة والسلام على الذي بعث شهيدا على المؤمنين، أهلهم بتعاليم النبوة للشهادة على الناس ( ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) (الحج:78).

        لذلك فقد يكون محور الاضطلاع بهذا (الجعل) وأداء هذه الأمانة وحمل هذه الرسالة في الشهادة على الناس وقيادتهم إلى الخير تصويب المنطلق، وتجسيد هذه القيم القرآنية والتعـاليم النبوية وفق البيان والتنـزيل والسيرة النبوية وغير ذلك من المؤهلات والخصائص، التي تؤهلنا لنكون شهداء على الناس، ففاقد الشيء لا يعطيه، فلابد من تصويب شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم علينا لنتأهل للشهادة على الناس.

        من هنا نقـول: إن الأمة مدعوة دائما لمراجعة تصـويب شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، ومحاولة اكتشاف مواطن الخلل، التي تحول دون بلوغها الشهادة على الناس، والعودة إلى استلهام القيم وبيانها النبوي وتنـزيلها في [ ص: 8 ] السيرة، وممارسة التجديد، ونفي نوابت السوء، وتجاوز أسباب الإعاقة، والتعافي من إصابات علل التدين، واستشعار المسؤولية، والانبعاث من جديد، وسبيل ذلك كله استرداد حسبة المناصحة، ذلك أن النقد والمراجعة والتصويب والتجديد ومحاصرة السلبيات وتصحيح المسيرة هو تكليف شرعي، هو دين من الدين كسائر التكاليف، وأن توقفه مؤذن بالسقوط الحضاري والوقوع في علل التدين، ومنافاة ومناقضة لخاتمية الرسالة وخلودها، الأمر الذي يتطلب الاجتهاد والتجديد والتصويب بعد أن توقف وحي السماء كما أخبر بذلك الصادق المصدوق: ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) (أخرجه أبو داود في الملاحم)؛ "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين" (أخرجه البيهقي).

        فأين الحملة الفقهاء العدول، وأين المناصحة والمراجعة والأدلة التي تحول دون التدين المغشوش وتكشف الانحراف عن قيم الدين؟!

        وبعد:

        فهذا "كتاب الأمة" الثاني والخمسـون بعد المائة: "قراءة في فكر مالك بن نبي"، رحمه الله، للأستاذ عبد الوهاب بوخلخال، في سلسلة "كتاب الأمة"، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في سعيها المستمر ومحاولاتها الدائبة لتشخيص علل الواقع وبيان الأسباب، التي انتهت بالأمة إلى ما صارت إليه، [ ص: 9 ] واكتشاف مواطن الخلل، والتأسيس لبناء ثقافة التقويم والمراجعة وتدريب العقل على النقد والمقارنة والمقايسة والمفاكرة والمثاقفة والمشاورة، وإحياء الفروض الكفائية، وتشجيع النفرة لاكتساب المعارف والتخصصات المتنوعة استجابة لقوله تعالى: ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (التوبة:122)، للوصول إلى حضارة المعرفة والعدل، وبذلك يبنى مجتمع المعرفة، ونبلغ سن الرشد الذي يؤهلنا لمعاودة بناء الأمة الوسط، أمة العدل، المنوط بها الشهادة على الناس وإلحاق الرحمة بهم.

        ولعل من أهم الأمور المطلوبة في هذا السياق استرداد حسبة المناصحة، التي بدأت تنحسر في حياة المسلمين، بمساحاتها الكبيرة وأبعادها الواسعة، ذلك أن مقاصد الدين في المحصلة النهائية هي النصيحة، يقول صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ) (أخرجه مسـلم)، فالنصيحة لما بين، عليه الصلاة والسلام، شاملة لكل مواقع الحياة وفعالياتها، فهي لله التبشير بدينه ونشر وتبليغ دعوته والتزام شرعه في حدود الاستطاعة؛ ولرسوله بطاعته والتزام بيانه والاهتداء بهديه والاقتداء بسيرته وكيفية تنزيله القيم الإسلامية، على واقع الناس؛ وإلى أئمة المسلمين بأطرهم على الحق وتحذيرهم من مغبة الخروج عن القيم الإسلامية؛ والنصيحة للمسلمين وعامة الناس بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه الحسبة هي الروح السارية في الأمة المسلمة لضمان استقامتها والحيلولة دون انحرافها وانتقال [ ص: 10 ] علل التدين، التي وقعت فيها الأمم السابقة، إليها؛ بسبب توقف المناصحة والتواطؤ على الباطل والتستر على المنكر: ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) (المائدة:78-79).

        إن المناصحة والمراجعة بكل استحقاقاتها هي سبيل الخروج ومعاودة تحريك فاعلية الأمة؛ ذلك أن النقد والمراجعة والمناصحة توقظ العقل، وتوسع المدارك، وتعقل الفعل، وتلفت إلى إدراك السنن وحسن تسخيرها، وتحاصر الأخطاء والسلبيات، وتسد منافذ الغيبة، وتحول دون التخلف والاستنقاع الحضاري، بينما التستر والسكوت والمديح يعطل العقل، ويوقف نمو الحياة السليمة، ويمهد لقيام أمراض حضارية هي أشبه بألغام اجتماعية لا تلبث أن تنفجر في جسم الأمة، تنهك قواها وتقعدها عن أداء رسالتها.

        ولعلنا نقول: إن من لوازم ذلك: الحوار مع تراثنا، وإدراك كيفية التعامل معه، والإفادة منه، وعدم التوقف عند حفظه وتحقيقه والفخر بعقل واجتهاد أهله، والغياب في باطنه والانقطاع عن الواقع، الذي نعاني منه، والمحيط الذي يحاصرنا، والمستقبل الذي ينتظرنا، ومدى قدرتنا على استنطاق هذا التراث وهذه التجربة الغنية في الإجابة عن سؤال النهضة، عن حدود الإفادة لحاضرنا ومستقبلنا.

        وليس ذلك فقـط، وإنما الإيمان الكامل بأن المهيمن على التراث وصـور التدين هي قيـم الكتاب والسنـة؛ فالقرآن هو المهيمن على [ ص: 11 ] الإنتاج الفقهي والفـكري والثقافي، بكل أبعاده، وليست هذه النواتج، مهما بلغت، هي المهيمنة على الكتاب والسنة، والزعم بأنه يمـكن الاكتفاء بها عن العـودة إلى الينـابيع الأولى والتـلقي عنها، ولعل غياب هذه الحقيقة ومفاعيلها في حياة الأمة هو سبب الخلل والشتات والتبعثر وتكريس الخطأ بالخضـوع لاجتهـادات البشر، التي تخطئ وتصيب، على حساب التزام النص المعصوم.

        والقضية التي نسارع إلى إيضاحها أننا هنا لا ندعو إلى تجاوز التراث وإلغائه، وإنما ندعو إلى تقويمه ومراجعته وكيفية الإفادة منه لبناء حاضرنا وإبصار مستقبلنا؛ وليس ذلك فقط وإنما الأهم هو العودة إلى قيم الكتاب والسنة من خلال هذه الفهوم والنواتج وليس القفز من فوقها، شريطة أن تبقى الهيمنة للكتاب والسنة، فكل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم .

        وإذا كان الحوار مع (الذات) يستدعي المراجعة والتقويم للتراث وموازنته ومقاربته ومقارنته بالواقع، في ضوء الكتاب والسنة، فإن دراسة حركات الإصلاح والتجديد والنهوض وتقويم مشاريعها، ومراجعة طروحاتها، وبيان مواطن الخلل والإصابات التي لحقت بها فكانت السبب في عجزها عن معاودة النهوض وبلوغ مقام الوسطية والعدل والاعتدال، الذي يؤهل للشاهدة على الناس وإلحاق الرحمة بهم وتحقيق الشهود الحضاري ( لتكونوا شهداء على الناس ) هو آكد؛ لأن معظمها يشكل حلقة من حلقات التواصل بين الماضي والحاضر، بكل ظروفها ومقوماتها. [ ص: 12 ]

        وما نزال نعتقد أن الكثير من الدراسات لحركات وأعلام ومدارس التغيير والإصلاح والنهوض، على قلتها وضآلة إنتاجها، لم تتحقق بالمطلوب من التقويم والمراجعة وبيان مواطن القصور وأسباب التقصير والخلل، الذي حال دون بلوغها أهدافها، ذلك أنها في معظمها تقتصر على التحشيد والسرد والوصف والمديح والفخر، ويكاد يكون محورها الأساس تبرئة (الذات) وعدم الاعتراف بالفشل والخلل لتكون عبرة لأولي الأبصار القادمين على الطريق؛ وإن حصل بعض الاعتراف بالفشل فما أسهل أن نلقي التبعة على (الآخر) المتآمر، وإن أعيتنا الحيلة أكثر فمشجب القدر، الذي يشكل لجاما للعقول والنفوس جاهز، لذلك نقول: إن جدوى هذه الدراسات والأفكار أقل من القليل، ولا أدل على ذلك من أن أخطاءنا تتكرر، فالعاقل الكيس الذي يدين نفسه فيبصر السنن الجارية، ويغالب القدر بقدر، ويحدد مواطن التقصير، والعاجز هو الذي يلقي بالتبعة على (الآخر) ويتمنى على الله الأماني وينتظر السنن الخارقة دون أن يوفر الأهلية والمحل لها.

        وقد تكون الإشكالية أو الأزمة الكبرى، التي تعاني منها النخبة والعقل المسلم هي الغفلة وعطالة وتعطيل آلية المران على الإدراك، وانكماش وانطماس آلية الاعتبار فتمر بنا الآيات ونحن عنها غافلون، والله يقول: ( وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) (يوسف:105)، ويقول: ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) (الحشر:2)، فإذا تعطـل الإدراك وتوقـف الاعتبـار تتوقف عمليات [ ص: 13 ] المناصحة والتقويـم والنقد والمراجعة، وعندها لا يمكن لنا أن نغادر مواقعنا التي نراوح فيها.

        ذلك أن الوجه المقابل لذلك نمو وتنمية آليات ووسائل الحماس والانفعال والتوثب وإلهاب المشاعر وتأجيج العواطف، وبروز الخطباء، الذين بات الكثير منهم يشكلون إمبراطوريات دينية تكرس تخلف المسلمين، وغياب الفقهاء والحكماء والخبراء، وبذلك تتحول الحياة لتكون نهبا لكل ناعق عالي الصوت، سميك الحنجرة، ونتوهم أن قضايانا ومشكلاتنا تعالج بالصراخ والضجيج والتظاهر والشعارات والهتافات!!

        وأريد هنا أن أشير إلى أن خصومنا وأعداءنا أصبحوا أعرف بنا منا، على حد قول الشاعر الحكيم أبو الطيب المتنبي: ابن جني أعرف بشعري مني.

        أقول: إن خصومنا وأعداءنا أحاطوا بمعرفتنا بقيمنا وتاريخنا وحاضرنا واكتشفوا العوامل المؤثرة فينا، فامتلكوا أزرار شخصيتنا، فأصبحوا قادرين على إثارتنا وتحريكنا وحشدنا في الوقت المناسب لمصلحتهم، وبذلك تحولنا إلى وقود جاهز للاشتعال نستدعى وقت اللزوم، ونثار عند الحاجة، وتستعار تضحياتنا لتصفية الحسابات وحسم الصراعات وتحقيق الغلبة في الخصومات؛ وأكثر من ذلك، فما أسهل أن يفتعل الأعداء والخصـوم حادثة أو ممارسـة أو مقالا أو صورة شاذة لإثارتنا دون إعداد واستعداد وتبصر في العواقب وكيفية إدارة الأزمة، والشواهد تتجاوز الحصر، فكم من أعداء الإسلام وطغاة الاستبداد السياسي خاطبوا الأمة وناشدوها الوقوف معهم في [ ص: 14 ] معاركهم بالشعارات الإسلامية والتذكير بالمعارك والبطولات والتضحيات التاريخية، وبعد انتهاء المعركة يصبح أبناء الإسلام هم أول الضحايا، وتكون تلك الأحداث أشبه بالكواشف واستطلاعات النار في الحرب لإبصار الإسلاميين وتحديد قدراتهم وأشخاصهم وقياس مساحة جمهورهم ومكوناتهم ووضع الخطط المدروسة للتعامل معهم وإخراجهم من الميدان.

        وبالإمكان القول: إن الأزمة الحضارية، التي نعاني منها والتي أوقفت رسالتنا وعطلت حركتنا وأطفأت فاعليتنا وغشت بصيرتنا هي أزمة نخبة وليست أزمة أمة؛ فالأمة في تاريخها الطويل أثبتت ولاءها وانتماءها وتضحياتها في سبيل قيمها، لكن الإشكالية في عدم ارتقائها هو عجز النخب الفاشلة، التي أصبحت وقفا عليها بسبب تعطيل أوعية الفرز السليم للطاقات والإمكانات والزعامات والقيادات، وفي كثير من الأحيان يمكن القول: إن الأمة في تاريخها المعاصر كثيرا ما تنحاز إلى القيم والشعارات الإسلامية وليس للأشخاص والزعامات الفاشلة.

        وقد يكون في اصطلاح كلمة (النخبة) بعض التجاوز، في التعبير، ذلك أن ما يسمى بالنخب في العالم العربي والإسلامي، في المجالات والميادين المختلفة، لم تأت ثمرة انتخاب وتشاور ولا ثمرة تطور وانتخاب طبيعي وإثبات الإمكانات في ميدان الفعل ولا من خلال تميز في التخصص أو إثبات القدرة على إدارة الأزمات وإعطاء الرأي السديد، وإنما تحكمت في وصولها للمواقع التي تشغلها عوامل كثيرة إلا المؤهلات، فكان تكريس التخلف [ ص: 15 ] والارتكاس والإحباط وتوالي الهزائم والفشل وقتل روح المبادرة والنهوض عند الأمة.

        والأخطر في ذلك هو في إحكام الإغلاق والتعصب وإقامة الأسوار الحزبية، والحيلولة دون النقد والمراجعة والتقويم وبيان مواقع الخلل، وذلك بمحاولات خبيثة مشرعنة في كثير من الأحيان، من تكييف قيم الدين وأحكامه لصالح هـذه النخب، لعل من أخطرها التباس (الذات) بالقيمة، أو الفكرة بالوثن، أو معاني وصفات البطولة في البطل، واختلال الموازين، فبدل أن يكون التقويم والميزان بالقيمة الثابتة والمعصومة، ويكون الإنسان و (الذات) والشخصية محل المعايرة والموازنة، يتحول الأمر لتصبح (الذات) هي القيمة المقدسة المعصومة، ويصبح سلوكها وعملها ورأيها هو المقياس، فيرتكس الناس إلى عبادة الأوثان، لكن هذه المرة بشكل غير معلن وغير صريح، ويعود حنين البشر إلى عهد الوثنية: ( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ) (الأعراف:138)، وعندها تتشكل الإقطاعات البشرية، التي لا هم لها إلا تمجيد القائد الملهم والزعيم الخالد وشيخ الطريقة وزعيم الحزب وقائد الجماعة ومرشد الطائفة وملهم الأجيال.

        وقد يستغرب الإنسان ويندهش عندما يتعرف على إمكانات بعض القادة والزعماء، ويتعجب من تزعمهم ورفعهم إلى مواقع القيادة، وهم في كثير من الأحيان أشبه بهياكل، ليسوا على شيء، لكن لا يلبث أن يزول [ ص: 16 ] عجبه إذا علم أن الأوثان كانت تعبد وهي عاجزة، لا تنفع ولا تضر، فهل تعود الوثنية المعاصرة ويغيب قوله تعالى: ( ألا لله الدين الخالص ) (الزمر:3)، وقوله: ( فاعبد الله مخلصا له الدين ) (الزمر:2)؟!

        ويبقى السؤال الكبير المطروح، وسؤال النهضة أحد مقوماته: إذا كنا نمتلك الخطاب الإلهي الصحيح والسليم والخالد والخاتم، بكل ما لهذه المفردات والمصطلحات من أبعاد، كما نمتلك البيان النبوي المعصوم لهذا الخطاب، الذي يضمن له عدم الانحراف بالتأويل، وهو هنا ليس التبديل بالألفاظ فقط وإنما الخروج بالمعنى عما وضع له اللفظ، آفة النص الديني التاريخية، ونمتلك أيضا السيرة النبوية، التي تمثل الواقع التنزيلي والعملي والتطبيقي لهذا النص على واقع الحياة، بكل مواقعها وتقلباتـها وتغيراتها، كما نمتلك التجربة التاريخية الحضارية الإنسانية من أنموذج تعامل البشر مع هذا الخطاب بعد توقف الوحي ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ونمتلك أيضا العمق التاريخي لتجربة النبوة والتحديات الكبيرة المحرضة والمستفزة من (الآخر) الذي يستهدف (الذات) ويستدعي بشكل طبيعي وعفوي الاستجابة للتحدي واستنفار الطاقة والنهوض للمواجهة وحماية (الذات) من الإلغاء، بكل أبعاده... فما هي إشكالية النهوض إذن، التي تعددت حولها الإجابات والأحزاب والجماعات ولما يتحقق النهوض؟!

        ولعل الجواب السريع بادي الرأي أن الإشكالية تكمن في كيفية التعامل مع ذلك كله، الكتاب والسنة والسيرة والتراث بشكل عام، والافتقار إلى [ ص: 17 ] ثقافة التعامل مع ذلك بشكل صحيح يعيد تحريك الفاعلية وآلية الإنتاج المتوقفة أو المعطلة المجربة لتعاود إنتاجها وتستعيد وظيفتها، والحكم على مشروعاتنا وقياداتنا بالفشل والخلل حال عدم تحقيقها الأهداف المنوطة بها، مهما كانت الأعذار والمسوغات والذرائع.

        وقد يكون من المفيد أن نسارع إلى القول: إن عدم الاعتراف من النخب، التي تحمل شعائر الإسلام وترفع شعاراته، بالفشل والإخفاق والخلل بجرأة وشجاعة، والفشل يحيط بنا من كل جانب، سوف يؤدي إلى محاصرة القيم وإجهاضها ونزع الثقة من الأمة بقدرتها على معاودة النهوض واسترداد الفاعلية وتحقيق (الجعل) الإلهي وإخراج الأمة الوسط المؤهلة بقيم الدين في الكتاب والسنة ( ليكون الرسول شهيدا عليكم ) لتكون شهيدة على الناس ( لتكونوا شهداء على الناس ) .

        ولعل الإجابة السريعة تأتي أيضا من البيان النبوي، الذي حذر من الوقوع في علل التدين، التي لحقت بالأمم السابقة والتي بات يلحظ نذرها وإصاباتها البعيدة تقترب من أصحاب الرسالة الخاتمة، ذلك بأننا إذا لم نفد من إيماننا بالنبوات السابقة ونتقي إصاباتها ونتلمس معالم نجاحها ونهوضها فما قيمة الإيمان بها. خاصة وأن "شرع ما قبلنا هو شرع لنا" ما لم يرد ناسخ، كما يقرر علماء الأصول؟ فهل نقع بما وقع به الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، وقال فيهم الله سبحانه وتعالى قرآنا خالدا يتلى على الزمن، ليحذر أصحاب الرسالة الخـاتمة من السقوط الحضاري وذهاب الريح، [ ص: 18 ] يقول تعالى: ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين ) (الجمعة:5) ؟

        ونخشى أن نقول: إن علل التدين التي كانت سبب سقوط الأمم السـابقة، يمكن أن تتسـرب إلينا على الرغم من تحذير القرآن وتنبيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، يقول تعالى: ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) (البقرة:78)، أي لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة وترتيلا.

        قال ابن تيمية، رحمه الله، عن ابن عباس وقتادة في قوله تعالى: ( ومنهم أميون ) أي غير عارفين بمعـاني الكتاب، يعلمونها حفظا وقراءة بلا فهم، لا يدرون ما فيها، أي تلاوة، لا يعلمون فقـه الكتاب إنما يقتصرون على ما يتلى عليهم.. هذه الأمية العقلية مع كتابنا وسنتنا وسيرة نبينا وتراثنا هي ما شخصه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( وذاك عند أوان ذهاب العلم )

        وقد يكون فيما يذكره ابن كثير، رحمه الله، عند تفسير الآية الثالثة والستين من سورة المائدة من الجدال، الذي وقع بين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه زياد بن لبيد رضي الله عنه ما يشكل الرؤية المستقبلية، ويعتبر مؤشرا دقيقا على الخلل ووصف الحال التي صرنا إليها.

        بل لعنا نقـول هنا: إن هذا الحـديث أو الحوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وزياد بن لبيد رضي الله عنه يمكن أن يعتبر مفتاح حل المشكلة وسبيل العبور إلى علاجها في المستقبل، على الرغم من تعدد مظاهرها وأعراضها، كما يعتبر [ ص: 19 ] العين السحرية، التي تراقب جودة الإنتاج ومطابقته للمواصفات وتحدد مواطن الخلل.

        فعن الإمام أحمد، رحمه الله، عن زياد بن لبيد رضي الله عنه قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فقال: ( وذاك عند أوان ذهاب العلم ) قال: قلنا: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة، قال: ( ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا ينتفعون مما فيهما بشيء )

        لذلك نقول: إن الإشكالية قد تكون في عدم أخذ الحذر والحيلولة دون انتقال علل الأمم السابقة، بسبب غياب الفقه بمفهومه الواسع، الذي يمكننا من التعامل مع الكتاب والسنة والسيرة والتراث، المنقولة إلينا بدقة وأمانة؛ المشكلة تكمن، إلى حد بعيد، في التفقه في حمل الفقه ونقله، ذلك أن حمل الفقه شيء والفقه شيء آخر ( فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه ) (أخرجه الترمذي وحسنه).

        وقد لا يتسع المجال للقول: إن غياب الفقه والاقتصار على الحمل والنقل يحولنا إلى وسائل حمل للأسفار، ونقل لها من مطبعة إلى مطبعة، من تجليد إلى تجليد، ومن نوع ورق إلى نوع آخر، ومن رف إلى رف، في صدر المجالس، حتى ولو رافق ذلك شرح واختصار واختصار وشرح وتصويب وتحقيق. [ ص: 20 ]

        وقد يكون من المهم أن نشير إلى أن إثبات النص بتحقيقه وإتقانه وأمانة نقله وحفظه وطباعته وتجليده وضبطه، الذي جاء ثمرة ومحاكاة لحفظ الذكر (القرآن) من التحريف، وصحة خطاب التكليف، والاحتفاظ بالإمكان الحضاري لمعاودة النهوض، على أهميته وضرورته وقيمته إذا لم يترافق بفقه النص وفهم الواقع وكيفية إعماله في الواقع وتنـزيله على حياة الناس ضمن استطاعتهم وحسن التعامل معه، يصبح بلا معنى عملي.

        ولو حاولنا استعراض الجهود الفكرية والذهنية والتعليمية والعلمية في الساحة الإسلامية لوجدنا أنها تتجه في معظمها إلى إثبات النص وتحقيقه، فيما وراء الكتاب والسنة طبعا، وأن القليل القليل منها يتجه إلى فقه النص وكيفية إعماله في واقع الحياة، الأمر الذي حرم المسلم من عطائه الخالد، الذي يؤهله لاسترداد الفاعلية والأهلية للشهادة على الناس؛ وخلاصة القول: إن الاهتمام والجهود العلمية اليوم تتجه إلى الاكتفاء بإثبات النص عن الفقه في كيفية إعماله في واقع الناس.

        ولعل الوجه الآخر لإشكالية الخلل في التعامل أن النص القرآني من أولى خصائصه التصديق للكتب السماوية السابقة لاستيعاب النبوة وتجاربها والهيمنة عليها لتصويب ما وقعت به من تحريف على أيدي الكهنة والطغاة، والخلود الذي يعني القدرة على الإنتاج في كل زمان ومكان إذا أحسنا التعامل معه والتنزيل لآياته وأحكامه، لكن الخلل في تقديرنا أننا لم نمتد بهذه الهيمنة ليكون النص القرآني معيار التقويم والمراقبة والمراجعة، وأنه المرجع [ ص: 21 ] الأول والأخير لكل إنتاجنا الفقهي والفكري والثقافي، وإنما التحول بهذه الهيمنة إلى موارد المعرفة الأخرى... تركنا القرآن للتلاوة والتبرك، وأصبحت شروح البشر وفهومهم هي المهيمنة على العطاء الثقافي بما فيها القرآن الكريم، فتقدم رأي الشارح على نص الشارع.

        فحوصرنا بآراء البشر، بكل ما يمكن أن يعتريها من القصور والنسبية والضعف وقيود الزمان والمكان وتغير الحال وتبدل الاستطاعات، حتى إذا أطلقنا اليوم كلمة (النص) كثيرا ما بات ينصرف إلى ما دونه الفقهاء والمفسرون والعلماء في كتبهم، وغابت هيمنة القرآن والسنة، فضاعت البوصلة الهادية إلى سبل السلام.

        وقد تكون المعادلة الصعبة، التي تورث الخلل في التعامل مع قيمنا في الكتاب والسنة لاسترداد فاعليتنا والوصول بأمتنا إلى مستوى جعل الله لها أمة وسطا شهيدة على الناس، أن القرآن أصبح اليوم بين أيدينا جملة واحدة، بخطابه المتنوع وأحكامه المتعددة وأسباب نزوله وبيانه النبوي وتجسيد معانيه في السيرة النبوية، في الوقت الذي كان ينـزل بالتدرج لبناء مجتمع وإقامة دولة، ومن سنة الله في الخلق أن أقدار التدين لا تثبت على حالة واحدة، والاستطاعات تتغير وتتبدل، والظروف الخارجية المحيطة تتغير وتتبدل، فكيف لنا والحالة هذه أن نفقه الموقع الملائم لواقعنا في القرآن؟ كيف نبحث عن أنفسنا في هذه اللحظة في القرآن؟ وما هي الآيات التي تحكم حالنا التي نحن علينا، آخذين بعين الاعتبار الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة؟ وما هو [ ص: 22 ] الموقع المناسب لواقعنا في السيرة النبوية الذي يشكل لنا موقع الاقتداء؟ وما هو الخطاب الملائم لواقع الناس، وكيف نصل بإسلامنا لإلحاق الرحمة بهم؟

        هذه هي المعادلة الصعبة، التي تحتاج إلى فقه ووعي وثقافة وعلم ومؤسسات متخصصة بكل الجوانب، وحوارات وتشاور وشورى واختبارات ميدانية وبصارة بالسنن الخارقة التي مردها إلى الله، والسنن الجارية التي فقهها منوط بالمكلف، وكيفية مغالبة قدر بقدر، والتعامل مع الابتلاءات المتنوعة، وتجريد النص من قيود الزمان والمكان، وتحقيق هيمنته وخلوده في كل زمان ومكان.

        لقد كان القرآن يتنـزل شيئا فشيئا بحسب الأحوال والحالات، وكان يجسد هذا التنـزيل المعصـوم صلى الله عليه وسلم أما الآن فالقـرآن بين أيدينا جمـلة واحدة -كما أسلفنا- بكل آياته وحالات نزوله، فكيف نتعامل معه ونحن بشر نصيب ونخطئ، وننجح ونفشل؟ لكن المشكلة أننا لم نتدرب على الاعتراف بالفشل، فينعكس ذلك على التوهم بعدم صلاحية القيم الإسلامية لحكم الحياة!!

        ولعل من أهم أسباب الخلل أيضا القراءة المبتسرة والقاصرة والانتقائية أحيانا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وغياب منهجية الاقتداء، ومعرفة الموقع المناسب لعصرنا وواقعنا من مسيرة السيرة، التي استوعبت أصول الحياة بكل قضاياها ومشكلاتها، وهذا لا يقل سوءا وخطورة عن تنـزيل الآيات على غير محالها، وعدم استيفاء توفر شروط التنـزيل في المحل.

        وقد يعود ذلك لتحكم الانفعال وممارسة رد الفعل، وثمرة للضغوط المحيطة بنا، وإيقاع الظـلم والاستبـداد ممن بيده القوة، الأمر الذي يجعلنا [ ص: 23 ] لا نبصر إلا طريقا واحدا هو طريق المواجهة، والتحاكم إلى القوة، وعسكرة العقل والاجتهاد والتربية والسيرة، فتصبح آية واحدة، هي آية السيف، تنسخ أكثر من ثلث آيات القرآن في التربية والدعوة والمعاملة والأخلاق والبر والرحمة والعفو والحب والعدل والأخوة!!

        ونتيجة هذه الحال بدأ يتمحور العمل الإسلامي حول الوصول إلى الحكم ومواجهة الخصوم بشتى الوسائل والأساليب، باستعداد وبدون استعداد، بالوسائل المشروعة أحيانا وفي أحيان كثيرة بوسائل غير مشروعة، تحت مظلة الضرورة التي تبيح المحظور، كما تصبح الإشكالية الحكم بما أنزل الله وأن الحاكمية لله سبحانه وتعالى، التي قد تستبيح كل وسيلة حتى ممارسة الظلم والاستبداد والإكراه، وكأن قوله تعالى: ( لا إكراه في الدين ) (البقرة:256)، وقوله: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) (النحل:125)، وقوله: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) (آل عمران :64)، وقوله: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) (العنكبوت:46)، وقوله: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين... ) (الممتحنة:8) ليست مما أنزل الله!؟ المطلوب أن نحكم به ونطبقه، وهكذا نجعل القرآن تفاريق خاضعة للانتقاء والتبعيض، الأمر الذي يخشى معه أن نقع في ما حذرنا الله منه ( كما أنزلنا على المقتسمين * الذين جعلوا القرآن عضين ) (الحجر:90-91) بقصد أو بدون قصد. [ ص: 24 ]

        ولسنا الآن بصدد الاستقصاء والإتيان على ذكر أسباب الخلل، الذي أعجزنا عن حسن التعامل مع قيمنا في الكتاب والسنة والسيرة والتراث، وحال دون التأهل والوصول إلى مرحلة (الجعل) الإلهي للأمة لتكون شهيدة على الناس وحمل رسالة وحضارة الرحمة للعالمين، وإنما هي نوافذ سريعة للإطلالة منها على بعض أبعاد الإشكالية، تبقى تحتاج إلى الكثير من التأمل والتفكير والمراجعة والمقارنة والمقايسة والتشاور والتثاقف لإعادة بناء ذهنية الأمة وتشكيل نسيجها الاجتماعي وإيقاظ روحها بالمسؤولية عن الإنسانية.

        وبعد:

        فهذا الكتاب يشكل حلقة في إطار دراسة حركات التجديد ورواد الإصلاح وتقويم مسيرتها والإفادة من عبرتها، وهو محاولة لفتح نافذة على عالم الأستـاذ مالك بن نبي، رحمه الله، ومنهجه المتميز، الذي تمحور حول شروط النهضة وإعادة بناء الشاكلة الثقافية، كما اصطلحنا عليها، واعتبارها محل الخلل، وأن تصويبها ومراجعتها سبيل الخروج واستعادة الفاعلية ومرآة الواقع ومرقاة النهوض.

        وبالإمكان القول: إن الأستاذ مالك بن نبي، رحمه الله، تعرف على (الذات) من خلال (الآخر)، حيث تشكلت ثقافته من خلال موطنه الثقافي فرنسا إلى حد بعيد، فكان لرؤيته النهضوية وإجابته عن سؤال النهضة نهجا خاصا حتى بين الذين عادوا إلى الثقافة الإسلامية من الموطن (الآخر) وتعرفوا عليها من خلال أدواته وثقافته؛ ولعل التأمل في تخصصه (الهندسة) وطبيعة الاستعمار النوعي لبلده الجزائر ومحاولة محو شخصيتها وثقافتها ولغتها وتراثها [ ص: 25 ] وتاريخها وقطعها عن محيطها الثقافي والجغرافي والتاريخي، إضافة إلى معايشته واستبطانه ثقافة هذه الدولة المستعمرة، يفسر لنا بعض الملامح لتشكيله الثقافي، ومنهجه، وعوامل انبعاث ذهنه المتوهج، وشخصيته القلقة، وقـدرته على الغوص في العمق المفاهيمي للثقافة الاجتماعية، والمقارنة بين الثقافات، واكتشاف العلل الكامنة في النفس، التي تشكل عوائق النهوض والتغيير.

        ولعلنا نقول هنا: إن منهج الأستاذ مالك بن نبي، رحمه الله، ورؤيته بدأت غريبة على الواقع الإسلامي، برؤيته المعرفية ومؤسساته التعليمية التقليدية ومدارسه الإصلاحية، لذلك لم يكن من السهل استيعاب منهجه وإدراك أبعاده ومراميه، بل لعلنا نرى أنه كان سابقا لعصره، وأن التنبه لأفكاره ومنهجه وإدراك أهميتها جاء بعد عصره، فميكانيكية التقويم والنقد والمراجعة كانت معطلة في العقل المسلم، ومتوقفة منذ ومضات ابن خلدون، التي لم يكتب لها الامتداد في ثقافتنا وإنما عادت إلينا من (الآخر).

        ولا شك عندي أن الذهنية الإسلامية لم تتقبل في حينها رؤية مالك؛ لأنها لم تلتفت إليها فلم تستوعبها، ولم تألف هذا النهج النقدي، ولم ترتح إليه في فورة الحماس والتهاب المشاعر وتأجج العواطف واستعار المعارك والمواجهات وتحكم فكر الأزمة، حيث كان يغلب عليها الميل صوب الخطب الرنانة والأصوات الحادة وقرع الطبول الكبيرة وزعامة الرجل الملحمة، فهو الخطيب والفقيه والعالم المثقف والقائد والزعيم والسياسي والمصلح الاجتماعي والباحث الأكاديمي؛ الرجل الملهم الذي يعرف كل شيء، كان حالها حال العقل الطفل، الذي يظن أن والده بطل يعـرف كل [ ص: 26 ] شيء ويجيب عن كل شيء ولا يعيقه شيء، في هذا الجو الصاخب بأصواته، العاجز والمتخلف في مواقعه، الممزق في ثقافته ورقعة تفكيره، كان مالك، رحمه الله، متوفر على إشكالية ينظر فيها، ويحلل جوانبها، ويخلص إلى نتائجها، فهو قد لا يكون خطيبا مفوها -والعصر عصر زعامة الخطبة- ولا فقيها متمكنا- والعصر عصر حفظ المتون والمدونات- ولا شيخا لمجموعة مريدين، حيث انتشار الطرق الصوفية وشيوع روح التواكل، ولا رائدا حزبيا سياسيا، ولا مرشد جماعة، ولا زعيم تنظيم، حيث كان كل ذلك من الأسوار التي حالت دون الإفادة الكاملة من رؤية مالك، رحمه الله، وإنما هو أحد رواد النهضة المسكون بالهم الثقافي.. كان، رحمه الله، مشروعا ثقافيا، وذهنا متوهجا، ونفسا قلقة تواقة، وعقلا ناقدا، ومستشرفا مستقبليا.

        وكم كنت أتمنى أن تتاح الفرصة لنشر المقابلة التي أجريتها، مطلع السبعينيات، مع الأستاذ مالك، رحمه الله، في دمشق بعد أن غادر القاهرة وسكن الشام، في بيت الدكتور محمد الهواري، حفظه الله، عقب محاضرته في رابطة الحقوقيين: "رسـالة المسـلم في الثلث الأخير من القرن العشرين" والتي لم أعرف ماذا حل بها بعد تطور الأحداث وتسارعها في سوريا، علها كانت تلقي بعض الأضواء الإضافية على تجربة الأستاذ مالك ورؤيته في مرحلة النضج.

        وما أزال أذكر محاولات بعض المتحمسين الذين لم يدركوا منهجه، من الذين حاولوا اقتحام المنـزل الذي نزل فيه في دمشق بعد محاضرته في رابطة الحقوقيين ليعاقبوه ويحاسبوه على بعض مواقفه السياسية، ومهادنته لبعض حكام الاستبداد السياسي. [ ص: 27 ]

        وفي تقديري أن السبب الأساس في عدم الإفادة من فكر الأستاذ مالك بالشكل المطلوب الروح الحزبية الضيقة المتخشبة، والأسوار الحزبية السميكة التي تمنع الدخول إليها والخروج منها لغير المنتمين إليها، ذلك أن معظم الجماعات والأحزاب تحولت إلى إقطاعات بشرية منعزلة وطوائف منغلقة على ذاتها مفتونة برأيها وفكرها، خائفة على اختطاف أتباعها.

        وإذا كانت جهود الأستاذ مالك الفكرية قد تمحورت حول القابلية للاستعمار وكيفية استرداد الفاعلية وإعادة بناء الشاكلة الثقافية، وأن إشكالية التخلف والسقوط الحضاري هي إشكالية ثقافية، في الأساس، فإن محاولة الباحث إعادة قراءة فكر الأستاذ مالك وإسقاطه على حقبة العولمة، تأتي في حينها، باعتبار العولمة تشكل النسخة المتطورة للاستعمار، ومرحلة التحول في الهيمنة إلى التحكم والاحتواء الثقافي أو ما يسمى بالقوة (المرنة)، والتسلل من خلال منظمات التجارة العالمية وإنشاء الأسواق الحرة وإقامة المؤسسات الإعلامية العالمية، ووكالات الأنباء، التي تقرأ للعالم حركته ومشكلاته على هواها، وبأبجديتها، وتعضد ذلك بإقامة أندية للحوار الديمقراطي، حوار الأديان، حوار الثقافات، ومنتديات الإسلام والغرب، الإسلام والديمقراطية، الإسلام وحقوق الإنسان.... إلخ.

        ذلك أن الجانب الأقوى، هو الذي يمتلك أدوات الحوار، وهو الذي يحضرها ويحدد موضوعاتها ويصمم محاورها ويختار المشاركين فيها والأماكن الملائمة لانعقادها، وما على الآخر إلا ملء المربعات المرسومة مسبقا والالتزام بالموضوعات المحددة له. [ ص: 28 ]

        ولقد اجتهد الباحث في الامتداد بفكر الأستاذ مالك صوب المستقبل، باعتباره كان سابقا لعصره إلى حد بعيد، محاولا إسقاطه على واقع العولمة، الصورة الأحدث للهيمنة والاغتصاب الثقافي.

        وكم كنا نتمنى على الباحـث أن يقـدم قراءة نقدية لفكر مالك أيضا ولا يقتصر على التوصيف والإسقاط، حيث تفتقد الدراسات التقويمية والمراجعات الفكرية لكثـير من قيمتها، وإنما يمتد بتراث مالك النقدي، الذي ينمي حاسة النقد عند العقل المسلم المعاصر، ويمنحه المنهج السليم للتقويم والمراجعة.

        فمالك إنسان يؤخذ من كلامه ويرد؛ والمشكلة في قراءة الرواد وحركات الإصلاح أننا نأخذ من كلامها ولا نرد، ظنا منا بأن ذلك ينقص من قدرهم ويبخس عطاءهم.

        وفي الخـتام، فمـالك، رحمه الله، ليس فقيها ولا أصوليا ولا مفسرا ولا زعيم جماعة ولا قائد أمة ولم يدع ذلك حتى نحاسبه عليه، وإنما صاحب رؤية حضارية ثقافية، عرف ذاته من خلال (الآخر) -كما أسلفنا- واهتدى بفطرته السليمة وبصيرته النافذة إلى قيم الإسلام وإدراك مقاصده؛ هو ناقد ذو بصيرة حيث عز النقد في الواقع الفكري الإسلامي؛ لأن النقد يمس بذات الأوثان البشرية المقدسة، ويفك الالتباس بين القيمة والذات.

        ويبقى منهج مالك وعطاؤه الثقافي في رأيي حاسة لازمة للعقل المسلم وللعمل الإسلامي، وبدونها سوف تستمر الإعاقة والعجز والخزي المعرفي، [ ص: 29 ] وسوف لا ندرك قيمته ما لم نضعه في مكانه المناسب وتقويمه من خلال الموقع الذي اختاره لنفسه.

        ويبقى المطروح: إلى أي مدى تصلح رؤى الأستاذ مالك وأفكاره التي تولدت في حقبة الاستعمار لتشكل دليلا إلى التعامل مع حقبة العولمة؟

        وفي تقديري أن إنتاج الأستاذ مالك، رحمه الله، يحتاج إلى قراءات وحوارات ودراسات؛ لأن هذا الإنتاج يمرن الذهن على النقد والمقارنة والمقايسة واكتشاف الخلل وإبصار سبيل الخروج، ويساهم بتحقيق نقلة نوعية للعقل، ويرفع غطاء المستقبل من أمام عينه، ويرتقي به إلى الشرفات العالية، التي تمكنه من إصلاح الحاضر ورؤية المستقبل ومعاودة الشهود الحضاري.

        وما قدمه الباحث في هذا الكتاب هو صناعة المفتاح، الذي يمكن من دخول عالم مالك الثقافي، والتزود برؤى ثقافية تمكن المسلم من أداء دوره في القرن الواحد والعشرين.

        وتأتي هذه القراءة في هذا الوقت والعقل المسلم في أشد الحاجة إلى المفتاح الثقافي، الذي أبدعه وأصله الأستاذ مالك، حتى يتمكن من القراءة الثقافية الدقيقة والمعمقة، التي تؤهله وتقدره على تجاوز الظواهر إلى التعرف إلى أسبابها العميقة، واستشراف مستقبل الثقافة الإسلامية وموقعها، وإبصار دورها في النهوض ورسالتها في حقبة العولمة؛ ذلك أن رؤية الأستاذ مالك الثقافية ما تزال الحاسة الغائبة عن العقل المسلم وثقافة العاملين في استرداد فاعلية الأمة وبلوغها مرحلة الشهود الحضاري وإلحاق الرحمة بالعالمين.

        والحمد لله من قبل ومن بعد. [ ص: 30 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية