الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  225 90 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال حدثنا يحيى ، عن هشام ، قال : حدثتني فاطمة ، عن أسماء ، قالت : جاءت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : أرأيت إحدانا تحيض في الثوب ، كيف تصنع ؟ قال : تحته ، ثم تقرصه بالماء ، وتنضحه ، وتصلي فيه .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  ( بيان رجاله ) : وهم خمسة : محمد بن المثنى بفتح النون ، وهو المعروف بالزمن ، ويحيى هو ابن سعيد القطان ، وهشام هو ابن عروة بن الزبير ، وقد تقدموا في باب : أحب الدين إلى الله أدومه ، وفاطمة هي بنت المنذر بن الزبير زوجة هشام المذكور ، تروي عن جدتها أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، المعروفة بذات النطاقين ، تقدمتا في باب من أجاب الفتيا بإشارة .

                                                                                                                                                                                  ( بيان لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع ، وفيه العنعنة في موضعين ، وفيه رواية الأنثى عن الأنثى ، ورواته ما بين شامي ، ومصري .

                                                                                                                                                                                  ( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري هنا ، وفي البيوع أيضا عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك ، وفي الصلاة عن أبي موسى ، عن يحيى ، وأخرجه مسلم في الطهارة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع ، وعن محمد بن حاتم ، عن يحيى ، وعن أبي كريب ، عن عبد الله بن نمير ، وعن أبي الطاهر بن السرح ، وعن ابن وهب ، عن يحيى بن عبد الله بن سالم ، ومالك ، وعمرو بن الحارث ، وأخرجه أبو داود في الطهارة ، عن القعنبي ، عن مالك ، وعن مسدد ، عن حماد بن زيد ، وعيسى بن يونس ، وعن موسى بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، وأخرجه الترمذي فيه ، عن محمد بن يحيى ، عن سفيان ، عشرتهم عن هشام بن عروة به ، وأخرجه النسائي فيه ، عن يحيى بن حبيب ، عن حماد بن زيد به ، وأخرجه ابن ماجه فيه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن أبي خالد الأحمر ، عن هشام بن عروة به .

                                                                                                                                                                                  ( بيان لغته وإعرابه ) : قوله : " تحته " ، من حت الشيء عن الثوب وغيره يحته حتا فركه ، وقشره ، فانحت ، وتحات ، وفي ( المنتهى ) : الحت حتك الورق من الشجر ، والمني ، والدم ، ونحوهما من الثوب ، وغيره ، وهو دون النحت ، وعند ابن طريف : حت الشيء نفضه ، وقيل : معناه تحكه ، وكذا وقع في رواية ابن خزيمة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " تقرصه " ، قال في ( المغرب ) : الحت القرص باليد ، والقرص بأطراف الأصابع ، وفي ( المحكم ) : القرص التجميش ، والغمز بالإصبع ، والمقرص المقطع المأخوذ من شيئين ، وقد قرضه وقرصه ، وفي ( الجامع ) : كل مقطع مقرص ، وفي ( الصحاح ) اقرصيه بماء أي اغسليه بأطراف أصابعك ، ويروى : قرصيه بالتشديد ، وقال أبو عبيد : أي قطعيه ، وقال في ( مجمع الغرائب ) : هو أبلغ في إذهاب الأثر عن الثوب ، وقال عياض : رويناه بفتح التاء المثناة من فوق ، وسكون القاف ، وضم الراء ، وبضم التاء ، وفتح القاف ، وكسر الراء المشددة ، قال : وهو الدلك بأطراف الأصابع مع صب الماء عليه حتى يذهب أثره ، قوله : " وتنضحه " : أي : تغسله ، قاله الخطابي ، وقال القرطبي : المراد به الرش ، وهو من باب فتح يفتح بفتح عين الفعل فيهما ، وقال الكرماني : تنضحه بكسر الضاد ، وكذا قال مغلطاي في شرحه ، وهو غلط .

                                                                                                                                                                                  قوله : " إحدانا " مبتدأ ، وقوله : " تحيض " خبره ، قوله : " كيف تصنع " ، يتعلق بقوله : " أرأيت " .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 140 ] بيان معانيه : قوله : " جاءت امرأة " ، وقع في رواية الشافعي رحمه الله تعالى عنه ، عن سفيان بن عيينة ، عن هشام في هذا الحديث أن أسماء هي السائلة ، وأنكر النووي هذا ، وضعف هذه الرواية ، ولا وجه لإنكاره ، لأنه لا يبعد أن يبهم الراوي اسم نفسه ، وقد وقع مثل هذا في حديث أبي سعيد رضي الله عنه في قصة الرقية بفاتحة الكتاب ، قوله : " أرأيت " ، أي : أخبرني ، قاله الزمخشري ، وفيه تجوز لإطلاق الرؤية ، وإرادة الإخبار ; لأن الرؤية سبب الإخبار ، وجعل الاستفهام بمعنى الأمر بجامع الطلب ، قوله : " تحيض في الثوب " ، أي : يصل دم الحيض إلى الثوب ، هكذا فسره الكرماني ، قلت : المعنى تحيض حال كونها في الثوب ، ومن ضرورة ذلك وصول الدم إلى الثوب ، وللبخاري من طريق مالك عن هشام : إذا أصاب ثوبها الدم من الحيض ، وفي رواية أبي داود : عن أسماء : سمعت امرأة تسأل النبي عليه الصلاة والسلام : كيف تصنع إحدانا بثوبها إذا رأت الطهر ، أتصلي فيه ؟ قال : تنظر ، فإن رأت فيه دما فلتقرصه بشيء من ماء ، ولتنضح ما لم تر ، ولتصل فيه .

                                                                                                                                                                                  وعند مسلم : المرأة تصيب ثوبها من دم الحيضة ، وعند الترمذي : اقرصيه بماء ثم رشيه ، وعند ابن خزيمة : كيف تصنع بثيابها التي كانت تلبس فقال : إن رأت فيها شيئا فلتحكه ، ثم لتقرصه بشيء من ماء ، وتنضح في سائر الثوب بماء ولتصل فيه ، وفي لفظ : إن رأيت فيه دما ، فحكيه ، وفي لفظ : رشيه وصلي فيه ، وفي لفظ : ثم تنضحه وتصلي فيه ، وعند أبي نعيم : لتحته ، ثم لتقرصه ، ثم لتنضحه ، ثم لتصل فيه ، وفي حديث مجاهد ، عن عائشة عند البخاري : ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه ، فإذا أصابه شيء من دم ، قالت : بريقها ، فمصعته بظفرها ، أي : عركته ، واختلف في سماع مجاهد ، عن عائشة ، فأنكره ابن حبان ، ويحيى بن معين ، ويحيى بن سعيد ، وشعبة ، وآخرون ، وأثبته البخاري ، وعلي بن المديني ، ومسلم ، وآخرون ، وعند البخاري من حديث القاسم عنها : ثم تقرص الدم من ثوبها عند طهرها ، فتغسله ، وتنضح على سائره ، ثم تصلي فيه ، وفي حديث أم قيس بنت محصن عند ابن خزيمة ، وابن حبان : اغسليه بالماء والسدر ، وحكيه ولو بضلع ، زاد ابن حبان قوله صلى الله عليه وسلم : " اغسليه بالماء " ، أمر فرض ، وذكر السدر والحك بالضلع أمر ندب وإرشاد ، وقال ابن القطان : هو حديث في غاية الصحة ، وعاب على أبي أحمد قوله : الأحاديث الصحاح ليس فيها ذكر الضلع ، والسدر ، وعند أبي أحمد العسكري : حكيه بضلع وأتبعيه بماء وسدر ، وعند أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : إن خولة بنت يسار قالت : يا رسول الله ، ليس لي إلا ثوب واحد ، وأنا أحيض فيه ، قال : فإذا طهرت فاغسلي موضع حيضك ، ثم صلي فيه ، قالت : يا رسول الله ، أرى لم يخرج أثره ، قال : يكفيك الماء ، ولا يضرك أثره ، ولما ذكره ابن أبي خيثمة في ( تاريخه الكبير ) جعله من مسند خولة ، وكذلك الطبراني ، وفي ( سنن أبي داود ) عن امرأة من غفار : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ثيابها من الدم قال : أصلحي من نفسك ، ثم خذي إناء من ماء ، واطرحي فيه ملحا ، ثم اغسلي ما أصاب حقيبة الرحل من الدم ، ثم عودي لمركبك ، وعند الدارمي بسند فيه ضعف ، عن أم سلمة رضي الله عنها : إن إحداهن تسبقها القطرة من الدم فقال صلى الله عليه وسلم إذا أصاب إحداكن ذلك ، فلتقصعه بريقها، وعند ابن خزيمة ، وقيل لها : كيف كنتن تصنعن بثيابكن إذا طمثتن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : إن كنا لنطمث في ثيابنا أو في دروعنا ، فما نغسل منه إلا أثر ما أصابه الدم ، قوله : " تحته " ، الضمير المنصوب فيه وفي قوله : " ثم تقرصه " ، يرجع إلى الثوب ، وفي قوله : وتنضحه ، يرجع إلى الماء ، وقد ذكرنا عن قريب أن الخطابي قال : تنضحه ، أي : تغسله ، وقال القرطبي : المراد به الرش ; لأن غسل الدم استفيد من قوله : " تقرصه بالماء " ، وأما النضح فهو لما شك فيه من الثوب ، وقال بعضهم : فعلى هذا الضمير في قوله : " تنضحه " ، يعود على الثوب بخلاف : تحته ، فإنه يعود على الدم ، فيلزم منه اختلاف الضمائر ، وهو على خلاف الأصل ، قلت : لا نسلم ذلك ; لأن لفظ الدم غير مذكور صريحا ، والأصل في عود الضمير أن يكون إلى شيء صريح ، والمذكور هنا صريحا الثوب والماء ، فالضميران الأولان يرجعان إلى الثوب لأنه المذكور قبلهما ، والضمير الثالث يرجع إلى الماء لأنه المذكور قبله ، وهذا هو الأصل ، ثم قال هذا القائل أيضا ، ثم إن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئا لأنه إن كان طاهرا فلا حاجة إليه ، وإن كان متنجسا لم يتطهر بذلك ، فالأحسن ما قاله الخطابي ، قلت : الذي قاله القرطبي هو الأحسن لأنه يلزم التكرار من قول الخطابي بلا فائدة ، لأنا ذكرنا أن الحت هو الفرك ، والقرص هو الدلك بأطراف الأصابع مع صب الماء عليه حتى يذهب أثره ، لما نقلناه عن القاضي عياض [ ص: 141 ] ففهم الغسل من لفظة القرص ، فإذا قلنا : الرش بمعنى الغسل ، يلزم التكرار ، ثم قوله : " ثم إن الرش " إلى آخره كلام من غير روية ; لأن الرش ها هنا لإزالة الشك المتردد في الخاطر كما جاء في رش المتوضئ الماء على سراويله بعد فراغه من الوضوء ، وليس معناه على الوجه الذي ذكرناه فافهم .

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام : منها ما قاله الخطابي : إن فيه دليلا على أن النجاسات إنما تزول بالماء دون غيره من المائعات ; لأن جميع النجاسات بمثابة الدم ، لا فرق بينه وبينها إجماعا ، وكذلك استدل به البيهقي في ( سننه ) على أصحابنا في وجوب الطهارة بالماء دون غيره من المائعات الطاهرة ، قلت : هذا خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط ، كقوله تعالى : وربائبكم اللاتي في حجوركم والمعنى في ذلك أن الماء أكثر وجودا من غيره أو نقول : تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه ، أو نقول : إنه مفهوم لقب ، ولا يقول به إمامنا .

                                                                                                                                                                                  ومنها أنه يدل على وجوب غسل النجاسات من الثياب ، وقال ابن بطال : حديث أسماء أصل عند العلماء في غسل النجاسات من الثياب ، ثم قال : وهذا الحديث محمول عندهم على الدم الكثير ; لأن الله تعالى شرط في نجاسته أن يكون مسفوحا ، وهو كناية عن الكثير الجاري إلا أن الفقهاء اختلفوا في مقدار ما يتجاوز عنه من الدم ، فاعتبر الكوفيون فيه ، وفي النجاسات دون الدرهم في الفرق بين قليله وكثيره ، وقال مالك : قليل الدم معفو ، ويغسل قليل سائر النجاسات ، وروي عن ابن وهب أن قليل دم الحيض ككثيره ، وكسائر الأنجاس بخلاف سائر الدماء ، والحجة في أن اليسير من دم الحيض كالكثير ، قوله صلى الله عليه وسلم لأسماء : " حتيه ثم اقرصيه " ، حيث لم يفرق بين قليله وكثيره ، ولا سألها عن مقداره ، ولم يحد فيه مقدار الدرهم ، ولا دونه ، قلت : حديث عائشة ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد فيه تحيض ، فإن أصابه شيء من دم بلته بريقها ، ثم قصعته بريقها ، رواه أبو داود ، وأخرجه البخاري أيضا ، ولفظه : قالت : بريقها فمصعته ، يدل على الفرق بين القليل والكثير ، وقال البيهقي : هذا في الدم اليسير الذي يكون معفوا عنه ، وأما الكثير منه فصح عنها أي عن عائشة أنها كانت تغسله فهذا حجة عليهم في عدم الفرق بين القليل والكثير من النجاسة ، وعلى الشافعي أيضا في قوله : إن يسير الدم يغسل كسائر الأنجاس إلا دم البراغيث فإنه لا يمكن التحرز عنه ، وقد رويعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لا يرى بالقطرة والقطرتين بأسا في الصلاة ، وعصر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بثرة ، فخرج منها دم فمسحه بيده ، وصلى ، فالشافعية ليسوا بأكثر احتياطا من أبي هريرة ، وابن عمر ، ولا أكثر رواية عنهما حتى خالفوهما حيث لم يفرقوا بين القليل والكثير على أن قليل الدم موضع ضرورة ; لأن الإنسان لا يخلو في غالب حاله من بثرة أو دمل أو برغوث ، فعفي عنه ، ولهذا حرم الله المسفوح منه ، فدل أن غيره ليس بمحرم ، وأما تقدير أصحابنا القليل بقدر الدرهم ، فلما ذكره صاحب ( الأسرار ) عن علي وابن مسعود أنهما قدرا النجاسة بالدرهم ، وكفى بهما حجة في الاقتداء ، وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أيضا أنه قدره بظفره ، وفي ( المحيط ) : وكان ظفره قريبا من كفنا فدل على أن ما دون الدرهم لا يمنع ، وقال في ( المحيط ) أيضا الدرهم الكبير ما يكون مثل عرض الكف ، وفي صلاة الأصل : الدرهم الكبير المثقال ، يعني يبلغ مثقالا ، وعند السرخسي يعتبر بدرهم زمانه ، وأما الحديث الذي رواه الدارقطني في ( سننه ) عن روح بن غطيف ،عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تعاد الصلاة من قدر درهم من الدم ، وفي لفظ : إذا كان في الثوب قدر الدرهم من الدم غسل الثوب ، وأعيدت الصلاة ، وإن أصحابنا لم يحتجوا به لأنه حديث منكر ، بل قال البخاري : إنه باطل ، فإن قلت : النص وهو قوله : " وثيابك فطهر " ، لم يفصل بين القليل والكثير ، فلا يعفى القليل ، قلت : القليل غير مراد منه بالإجماع بدليل عفو موضع الاستنجاء ، فتعين الكثير ، وقد قدر الكثير بالآثار .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن فيه الدلالة على أن الدم نجس بالإجماع .

                                                                                                                                                                                  ومنها أن فيه الدلالة على أن العدد ليس بشرط في إزالة النجاسة بل المراد الإنقاء .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أنها إذا لم تر في ثوبها شيئا من الدم ترش عليه ماء ، وتصلي فيه .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية