الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 210 ] محمد بن عبد الله ( د ، ت ، س )

                                                                                      ابن حسن ابن السيد الحسن بن علي بن أبي طالب ، الهاشمي ، الحسني ، المدني الأمير الواثب على المنصور هو وأخوه إبراهيم .

                                                                                      حدث عن نافع ، وأبي الزناد .

                                                                                      وعنه عبد الله بن جعفر المخرمي ، وعبد العزيز الدراوردي ، وعبد الله بن نافع الصائغ . وثقه النسائي وغيره .

                                                                                      حج المنصور سنة أربع وأربعين ومائة ، فاستعمل على المدينة رياحا المري وقد قلق لتخلف ابني حسن عن المجيء إليه . فيقال : إن المنصور لما كان حج قبل أيام السفاح ، كان فيما قال محمد بن عبد الله ، إذ اشتور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له بالخلافة ، حين اضطرب أمر بني أمية : كان المنصور ممن بايع لي . وسأل المنصور زيادا متولي المدينة عن ابني حسن ، قال : ما يهمك منهما ، أنا آتيك بهما . وقال عبد العزيز بن عمران : حدثنا عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار قال : استخلف المنصور ، فلم يكن له هم إلا طلب محمد والمسألة عنه . فدعا بني هاشم واحدا واحدا ، يخلو به ويسأله فيقول : يا أمير المؤمنين ، قد عرف أنك قد عرفته يطلب هذا الشأن قبل اليوم . فهو يخافك ، وهو الآن لا يريد لك خلافا .

                                                                                      [ ص: 211 ] وأما حسن بن زيد بن حسن فأخبره بأمره وقال : لا آمن أن يخرج . فاشترى المنصور رقيقا من العرب فكان يعطي الواحد منهم البعيرين ، وفرقهم في طلبه ، وهو مختف .

                                                                                      وقال لعقبة السندي : اخف شخصك ، واستتر . ثم ائتني وقت كذا ، فأتاه فقال : إن بني عمنا قد أبوا إلا كيدا لنا ، ولهم شيعة بخراسان يكاتبونهم ، ويرسلون إليهم بصدقاتهم . فاخرج إليهم بكسوة وألطاف حتى تأتيهم متنكرا ، فحسهم لي ، فاشخص حتى تلقى عبد الله بن حسن متقشفا ، فإن جبهك -وهو فاعل- فاصبر وعاوده حتى يأنس بك . فإذا ظهر لك ، فاعجل علي . فذهب عقبة ، فلقي عبد الله بالكتاب ، فانتهره وقال : ما أعرف هؤلاء . فلم يزل يعود إليه حتى قبل الكتاب والهدية . فسأله عقبة الجواب . فقال : لا أكتب إلى أحد . فأنت كتابي إليهم ، وأخبرهم أن ابني خارجان لوقت كذا . وقال : فأسرع بها عقبة إلى المنصور .

                                                                                      وقيل : كان ابنا حسن منهومين بالصيد .

                                                                                      وقال المدائني : قدم محمد بن عبد الله في أربعين رجلا متخفيا ، فأتى عبد الرحمن بن عثمان فقال له : أهلكتني ، فانزل عندي وفرق أصحابك ، فأبى . فقال : انزل في بني راسب ففعل .

                                                                                      وقيل : أقام محمد يدعو الناس سرا . وقيل : نزل بعبد الله بن سفيان الري أياما ، وحج المنصور سنة أربعين ، فأكرم عبد الله بن حسن ، ثم قال لعقبة : تراء له . ثم قال : يا أبا محمد : قد علمت ما أعطيتني من العهود قال : أنا على ذلك . فتراءى له عقبة وغمزه فأبلس عبد الله ، وقال : أقلني يا أمير المؤمنين أقالك الله ! قال : كلا وسجنه .

                                                                                      [ ص: 212 ] وقيل : إنه قال له : أرى ابنيك قد استوحشا مني . وإني لأحب قربهما ، قال : ما لي بهما علم . وقد خرجا عن يدي .

                                                                                      وقيل : هم الأخوان باغتيال المنصور بمكة ، وواطأهما قائد كبير ، ففهم المنصور ، فتحرز ، وهرب القائد وتحيل المنصور من زياد فقبض عليه ، واستعمل على المدينة محمد بن خالد القسري ، وبذل له أزيد من مائة ألف دينار إعانة ، فعجز ، فعزله برياح بن عثمان بن حيان المري . وعذب القسري . فأخبر رياح بأن محمد بن عبد الله في شعب رضوى من أرض ينبع . فندب له عمرو بن عثمان الجهني ، فكبسه ليلة ، ففر محمد ومعه ولد ، فوقع من جبل من يد أمه فتقطع ، وفيه يقول أبوه :

                                                                                      منخرق السربال يشكو الوجى تنكبه أطراف مرو حداد     شرده الخوف وأزرى به
                                                                                      كذاك من يكره حر الجلاد     قد كان في الموت له راحة
                                                                                      والموت حتم في رقاب العباد

                                                                                      وتتبع رياح بني حسن واعتقلهم . فأخذ حسنا وإبراهيم ابني حسن ، وهما عما محمد وحسن بن جعفر بن حسن بن حسن . وسليمان بن داود بن حسن بن حسن ، وأخاه عبد الله ، ومحمدا ، وإسماعيل وإسحاق أولاد إبراهيم المذكور وعباس بن حسن بن حسن بن حسن ، وأخاه عليا العابد وقيدهم . وشتم ابني حسن على المنبر ، فسبح الناس ، وعظموا قوله . فقال رياح : ألصق الله بوجوهكم الهوان ، لأكتبن إلى خليفتكم غشكم . فقالوا : لا نسمع منك يا ابن المجلودة . وبادروه يرمونه بالحصباء ، فنزل ، واقتحم دار مروان ، وأغلق عليه ، فأحاط به الناس ورجموه وشتموه ثم إنهم كفوا ، وحملوا آل حسن في القيود [ ص: 213 ] إلى العراق ، وجعفر الصادق يبكي لهم . وأخذ معهم أخوهم من أمهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان وهو ابن فاطمة بنت الحسين . فقيل : جعلوا في المحامل ولا وطاء تحتهم . وقيل : أخذ معهم أربعمائة من جهينة ، ومزينة .

                                                                                      قال ابن أبي الموالي : وسجنت مع عبد الله بن حسن فوافى المنصور الربذة راجعا من حجه . فطلب عبد الله أن يحضر إليه فأبى . ودخلت أنا وعنده عمه عيسى بن علي ، فسلمت قال : لا سلم الله عليك . أين الفاسقان ؟ ابنا الفاسق ؟ ! .

                                                                                      قلت : هل ينفعني الصدق ؟ قال : وما ذاك ؟ قلت : امرأتي طالق وعلي وعلي إن كنت أعرف مكانهما . فلم يقبل . فضربني أربعمائة سوط . فغاب عقلي ورددت إلى أصحابي . ثم طلب أخاهم الديباج فحلف له ، فلم يقبل ، وضربه مائة سوط وغله ، فأتى وقد لصق قميصه على جسمه من الدماء .

                                                                                      [ ص: 214 ] فأول من مات في الحبس عبد الله أبوهما . ثم مات أخوه حسن ، ثم الديباج ، فقطع رأسه وبعثه مع طائفة من الشيعة طافوا به خراسان يحلفون أن هذا رأس محمد بن عبد الله بن فاطمة يوهمون أنه ابن حسن الذي كانوا يجدون خروجه في الكتب .

                                                                                      وقيل : إن المنصور قال لمحمد بن إبراهيم بن حسن : أنت الديباج الأصفر ؟ قال : نعم ، قال : لأقتلنك قتلة ما سمع بها . ثم أمر باصطوانة فنقرت ، وأدخل فيها ، ثم سد عليه وهو حي . وكان من الملاح .

                                                                                      وقيل : إنه قتل الديباج محمد بن عبد الله أيضا .

                                                                                      وعن موسى بن عبد الله بن حسن قال : ما كنا نعرف في الحبس أوقات الصلوات إلا بأجزاء يقرؤها علي بن حسن .

                                                                                      وقيل : إن المنصور قتل عبد الله بن حسن أيضا بالسم .

                                                                                      وعن أبي نعيم قال : بلغني أن عبيد الله بن عمر ، وابن أبي ذئب ، وعبد الحميد بن جعفر دخلوا على محمد بن عبد الله ، وقالوا : ما تنتظر ؟ والله ما نجد في هذا البلد أشأم عليها منك .

                                                                                      وأما رياح ، فطلب جعفرا الصادق وبني عمه إلى داره ، فسمع التكبير في الليل ، فاختفى رياح . فظهر محمد في مائتين وخمسين نفسا . فأخرج أهل السجن .

                                                                                      وكان على حمار ، في أول رجب سنة خمس وأربعين ، فحبس رياحا وجماعة . وخطب فقال : أما بعد : فإنه كان من أمر هذا الطاغية أبي جعفر ، ما لم يخف عليكم من بنائه القبة الخضراء التي بناها تصغيرا لكعبة الله . وإن أحق الناس [ ص: 215 ] بالقيام للدين أبناء المهاجرين والأنصار . اللهم قد فعلوا وفعلوا ، فأحصهم عددا واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا .

                                                                                      قال علي بن الجعد : كان المنصور يكتب على ألسن قواده إلى محمد بن عبد الله بأنهم معه فاخرج ، فقال : يثق بالمحال . وخرج معه مثل ابن عجلان ، وعبد الحميد بن جعفر .

                                                                                      قال ابن سعد : فلما قتل أتى والي المدينة بابن عجلان فسبه وأمر بقطع يده . فقال العلماء : أصلح الله الأمير ، إن هذا فقيه المدينة وعابدها ، وشبه عليه بأنه المهدي فتركه . قال : ولزم عبيد الله بن عمر ضيعة له ، وخرج أخواه عبد الله ، وأبو بكر ، فعفا عنهما المنصور .

                                                                                      واختفى جعفر الصادق ، ثم إن محمدا استعمل عمالا على المدينة ، ولزم مالك بيته .

                                                                                      قال أبو داود : كان الثوري يتكلم في عبد الحميد بن جعفر لخروجه ويقول : إن مر بك المهدي وأنت في البيت ، فلا تخرج إليه حتى يجتمع الناس عليه .

                                                                                      وقيل : بعث محمد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وقد شاخ ليبايعه ، فقال : يا ابن أخي ، أنت والله مقتول ! كيف أبايعك ؟ ! فارتدع الناس عنه . فأتته بنت أخيه معاوية ، فقالت : يا عم إن إخوتي قد أسرعوا إلى ابن خالهم ، فلا تثبط عنه فيقتل هو وإخوتي . فأبى . فيقال : قتلته . فأراد محمد [ ص: 216 ] الصلاة عليه فقال ابنه : تقتل أبي وتصلي عليه ؟ فنحاه الحرس . وتقدم محمد ، وكان محمد أسود جسيما فيه تمتمة . ولما خرج قامت قيامة المنصور . فقال لآله : اذهبوا إلى هذا الأحمق عبد الله بن علي ، فله رأي جيد في الحرب . فلما دخلوا قال : لأمر ما جئتم : فما جاء بكم جميعا ، وقد هجرتموني من دهر . قالوا : استأذنا أمير المؤمنين ، فأذن لنا . قال : ليس ذا بشيء . ما الخبر ؟ قالوا : خرج محمد . قال : فما ترون ابن سلامة صانعا ؟ - يعني المنصور - قالوا : لا ندري . قال : إن البخل قد قتله ، فليخرج الأموال ويكرم الجند ، فإن غلب فما أوشك أن يعود إليه ماله .

                                                                                      وجهز المنصور ولي عهده عيسى بن موسى لحرب محمد ، وكتب إلى محمد يحثه على التوبة ، ويعده ويمنيه ، فأجابه : من المهدي محمد بن عبد الله طسم تلك آيات الكتاب المبين وأنا أعرض عليك من الأمان مثل ما عرضت . فإن الحق حقنا . . . إلى أن قال : فأي الأمانات تعطيني ؟ أمان ابن هبيرة ، أم أمان عمك ، أم أمان أبي مسلم ؟ ! .

                                                                                      فأرسل إليه بكتاب مزعج ، وأخذ جند محمد مكة . وجاءه منها عسكر ، وسار ولي العهد في أربعة آلاف فارس ، ونفذ إلى أهل المدينة يتألفهم ، فتفلل خلق عن محمد ، وبادر آخرون إلى خدمة عيسى . فأشير على محمد أن يفر إلى مصر ، فلن يردك أحد عنها . فصاح جبير : أعوذ بالله أن نخرج من المدينة ونبي الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : رأيتني في درع حصينة فأولتها المدينة . [ ص: 217 ] ثم إن محمدا استشار أن يخندق على نفسه ، فاختلفت الآراء . ثم حفر خندق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحفر فيه بيده . ‏

                                                                                      عن عثمان الزبيري قال : اجتمع مع محمد جمع لم أر أكثر منه . إني لأحسبنا كنا مائة ألف . فخطب محمد وقال : إن هذا قد قرب وقد حللتكم من بيعتي . قال : فتسللوا حتى بقي في شرذمة ، وهرب الناس بذراريهم في الجبال . فلم يتعرض عيسى لأذاهم . وراسل محمدا يدعوه إلى الطاعة . فقال : إياك أن يقتلك من يدعوك إلى الله ، فتكون شر قتيل ، أو تقتله فيكون أعظم لوزرك .

                                                                                      فبعث إليه : إن أبيت فإنا نقاتلك على ما قاتل عليه جدك طلحة والزبير على نكث البيعة ، ثم أحاط عيسى بالمدينة في أثناء رمضان ، ودعا محمدا إلى الطاعة ثلاثة أيام ، ثم قرب من السور ، فنادى بنفسه : يا أهل المدينة ، إن الله قد حرم الدماء فهلموا إلى الأمان ، وخلوا بيننا وبين هذا ، فشتموه ، فانصرف ، وفعل ذلك من الغد ، وزحف في اليوم الثالث ، وظهر وكرر بذل الأمان لمحمد فأبى ، وترجل ، فقال بعضهم : إني لأحسبه قتل بيده سبعين يومئذ .

                                                                                      وقال عبد الحميد بن جعفر : كنا مع محمد في عدة أصحاب بدر ، ثم تبارز جماعة ، وأقبل رجل من جند المنصور ، عند أحجار الزيت فطلب المبارزة ، فخرج إليه رجل عليه قباء أصفر فقتل الجندي ، ثم برز آخر فقتله ، فاعتوره أصحاب عيسى حتى أثبتوه بالسهام ، ودام القتال من بكرة إلى العصر . وطم أصحاب عيسى الخندق فجازت خيلهم .

                                                                                      قال عبد الله بن جعفر : تحنط محمد للموت . فقلت له : ما لك بما ترى طاقة . [ ص: 218 ] فالحق بالحسن بن معاوية نائبك بمكة . قال : لو رحت لقتل هؤلاء فلا أرجع ، وأنت مني في سعة .

                                                                                      وقيل : ناشده غير واحد الله وهو يقول : والله لا تبتلون بي مرتين . ثم قتل رياحا وعباس بن عثمان فمقته الناس . ثم صلى العصر . وعرقب فرسه ، وعرقب بنو شجاع دوابهم ، وكسروا أجفان سيوفهم ثم حمل هو ، فهزم القوم مرتين . ثم استدار بعضهم من ورائه . وشد حميد بن قحطبة على محمد فقتله وأخذ رأسه . وكان مع محمد سيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذو الفقار ، فجاءه سهم ، فوجد الموت ، فكسر السيف . ولم يصح بل قيل : أعطاه رجلا كان له عليه أربعمائة دينار . وقال : لن تلقى طالبيا إلا وأخذه منك ، وأعطاك حقك فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة ، أخذه منه وأعطاه الدين .

                                                                                      وكان مصرع محمد عند أحجار الزيت في رابع عشر رمضان ، سنة خمس قال الواقدي : عاش ثلاثا وخمسين سنة ، وقيل : صلب عدة من أصحابه ، وطيف بالرأس .

                                                                                      قال ابن حزم : ذهبت طائفة من الجارودية أنه لم يمت ، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلا ، وخلف من الأولاد : حسنا ، وعبد الله ، وفاطمة ، وزينب .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية