الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال وكل ما كان الأكل فيه فرضا عليه ، فإنه يكون مثابا على الآكل ; لأنه تمثل به الأمر فيتوصل به إلى أداء الفرائض من الصوم والصلاة ) فيقول للذي له السعي لأداء الجمعة والطهارة لأداء الصلاة والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم { يؤجر المؤمن في كل شيء حتى في مباضعته أهله فقيل إنه يقضي شهوته [ ص: 276 ] أفيؤجر على ذلك ؟ قال : أرأيت لو وضعها في غير حله أما كان يعاقب على ذلك } وبمثله نستدل هنا فنقول لو ترك الأكل في موضع كان فرضا عليه كان معاقبا عليه وعلى ذلك فإذا أكل كان مثابا عليه ، وقال صلى الله عليه وسلم { أفضل دينار المرء دينار ينفقه على نفسه } ، فإذا كان هو مثابا فيما ينفقه على غيره ففيما ينفقه على نفسه أولى قال ، ولا يكون محسنا ، ولا مسيئا في ذلك ، ولا معاتبا ، ولا معاقبا ; لأنه مثاب على ذلك ، كما هو مثاب على إقامة العبادات فكيف يكون معاتبا عليه أو محاسبا ؟ والأصل فيه حديثان أحدهما حديث { أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان من لحم وخبز شعير هو من النعم التي نسأل عنها يوم القيامة وتلا قوله تعالى { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } فقال صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر إنما ذلك للكفار أما علمت أن المؤمن لا يسأل عن ثلاث قال : وما هي يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم : ما يواري سوأته وما يقيم به صلبه وما يكن من الحر والبرد ثم هو مسئول بعد ذلك عن كل نعمة } .

والثاني حديث { عمر رضي الله عنه ، فإنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضيافة رجل فأتي بعذق فيه تمر وبسر ورطب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسألن عن هذا يوم القيامة فأخذ عمر رضي الله عنه العذق وجعل ينفضه حتى تناثر على الأرض ويقول : أونسأل عن هذا : قال صلى الله عليه وسلم إي والله لتسألن عن كل نعمة حتى الشربة من الماء البارد إلا عن ثلاث كسرة تقيم بها صلبك أو خرقة تواري بها سوأتك أو كن يكنك من الحر } قال في الكتاب ، وهذا قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أن المرء لا يحاسب على هذا المقدار وكفى بإجماعهم حجة فمن زجى عمره بهذا وكان قانعا راضيا دخل الجنة بغير حساب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من هدي بالإسلام وقنع بما آتاه الله تعالى دخل الجنة بغير حساب } وقيل في تأويل قوله تعالى { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } أن المصلح الذي يصير على هذا المقدار الذي لا بد منه ثم بعده التناول إلى مقدار الشبع مباح على الإطلاق لقوله تعالى { قل من حرم زينة الله } الآية فعرفنا أن ذلك القدر ليس بمحرم ، فإذا لم يكن محرما ، فهو مباح على الإطلاق ، وكذلك أكل الخبيص والفواكه وأنواع الحلاوات من السكر وغير ذلك مباح ، ولكنه دون ما تقدم حتى إن الامتناع منه والاكتفاء بما دونه أفضل له فكان تناول هذه النعم رخصة والامتناع منها عزيمة فذلك أفضل لحديثين رويا في الباب أحدهما حديث الصديق [ ص: 277 ] رضي الله عنه فإنه أتي يوما بقدح تندت بعسل وبرد له فقربه إلى فيه ثم رده وأمر بالتصدق به على الفقراء وقال أرجو أن لا أكون من الذين يقال لهم { أذهبتم طيباتكم } الآية ففي هذا دليل أن تناول ذلك مباح ; لأنه قربه إلى فيه ، وفيه دليل أن الامتناع منه أفضل والثاني حديث عمر رضي الله عنه فإنه اشترى جارية وأمر بها فزينت له وأدخلت عليه فلما رآها بكى وقال : أرجو أن لا أكون من الذين يتوصلون إلى جميع شهواتهم في الدنيا ثم دعا شابا من الأنصار لم يكن تحته امرأة فأهداها له وتلا قوله تعالى { ويؤثرون على أنفسهم } الآية ، ولأن أفضل مناهج الدين طريق المرسلين عليهم السلام ، وقد كان طريقهم الاكتفاء بما دون هذا في عامة الأوقات .

وكذا نبينا عليه السلام ربما أصاب في بعض الأوقات من ذلك على ما روي أنه قال لأصحابه رضي الله عنهم { ليت لنا ملتوتا نأكله فجاء به عثمان رضي الله عنه في قصعة فقيل : إنه أصاب منه ، وقيل لم يصب وأمر بالتصدق به } ثم فيما تقدم من تناول الخبز إلى الشبع لا حساب عليه سوى العرض على ما روي { عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } قال صلى الله عليه وسلم ذاك العرض يا بنت أبي بكر أما علمت أن من نوقش الحساب عذب } ومعنى العرض بيان المنة وتذكير النعمة والسؤال أنه هل قام بشكرها ؟ وقيل في تأويل قوله تعالى { فأما من أوتي كتابه بيمينه } الآية أنه العرض بمثل هذا ، وأما في اقتضاء الشهوات من الحلال وتناول اللذات ، فهو محاسب على ذلك غير معاقب عليه ، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الدنيا { حلالها حساب وحرامها عقاب } والدليل على أن الاكتفاء بما دون ذلك أفضل حديث { الضحاك رضي الله عنه ، فإنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وافدا من قومه وكان متنعما فيهم قال صلى الله عليه وسلم ما طعامك يا ضحاك قال اللحم والعسل والزيت ولب الخبز قال ثم تصير إلى ماذا فقال أصير إلى ما يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى ضرب للدنيا مثلا بما يخرج من ابن آدم ثم قال له إياك أن تأكل فوق الشبع } ، فقد بين له النبي صلى الله عليه وسلم أن طعامه ، وإن كان لذيذا طيبا في الابتداء ، فإنه يصير إلى الخبث والنتن في الانتهاء ، فهو مثل الدنيا ، وفي هذا بيان أن الاكتفاء بما دون ذلك أفضل ، وفي حديث { الأحنف بن قيس رضي الله عنه أنه كان عند عمر رضي الله عنه فأتي بقصعة فيها خبز شعير وزيت فجعل عمر رضي الله عنه يأكل من ذلك ويدعو الأحنف إلى أكله وكان لا يسعه ذلك [ ص: 278 ] فذكر الأحنف ذلك لحفصة وقال : إن الله تعالى وسع الدنيا على أمير المؤمنين ، فلو وسع على نفسه وجعل طعامه طيبا فذكرت ذلك لعمر رضي الله عنه فبكى وقال أرأيت لو أن ثلاثة اصطلحوا فتقدم أحدهم في الطريق والثاني بعده ثم خالفهم الثالث في الطريق أكان يدركهم ؟ فقالت : لا ، قال : فقد تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يصب من شهوات الدنيا شيئا وأبو بكر رضي الله عنه بعده كذلك ، فلو اشتغل عمر بقضاء الشهوات في الدنيا متى يدركهم } ففي هذا بيان أن الاكتفاء بما دون ذلك أفضل ، وفي الحاصل المسألة صارت على أربعة أوجه ففي مقدار ما يسد به رمقه ويتقوى على الطاعة هو مثاب غير معاقب ، وفيما زاد على ذلك إلى حد الشبع هو مباح له محاسب على ذلك حسابا يسيرا بالعرض .

وفي قضاء الشهوات ونيل اللذات من الحلال هو مرخص له فيه محاسب على ذلك مطالب بشكر النعمة وحق الجائعين ، وفيما زاد على الشبع هو معاقب عليه ، فإن الأكل فوق الشبع حرام ، وقد بينا هذا ، وفي الكتاب قال أكرهه ومراده التحريم على ما روي أن أبا حنيفة رضي الله عنه قيل له : إذا قلت في شيء أكرهه ما رأيك فيه قال إلى الحرمة أقرب والدليل عليه ما روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إذا تجشأ أحدكم فليقل اللهم لا تفتنا } والجشأ من الأكل فوق الشبع ففي هذا بيان أن الأكل فوق الشبع من أسباب الموت وتسبب الموت ارتكاب الحرام ، وهذا كله فيما اكتسبه من حله فأما ما اكتسبه من غير حله ، فهو معاقب على التناول منه ففي غير حالة الضرورة القليل والكثير منه سواء لحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { كل لحم نبت من السحت فالنار أولى به } ، وقال صلى الله عليه وسلم { ما اكتسب المرء درهما من غير حله ينفقه على أهله ويبارك له فيه أو يتصدق به فيقبل منه أو يخلفه وراء ظهره إلا كان ذلك زاده إلى النار } وقال صلى الله عليه وسلم { من اكتسب من حيث شاء ولا يبالي أدخله الله تعالى النار من أي باب كان ولا يبالي } { ، وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه طيب طعمتك أو قال أكلتك تستجب دعوتك } .

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيان حال الناس بعده يصبح أحدهم أشعث أغبر يقول يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له } { وقال صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة الدرهم الحلال فيهم أعز من أخ في الله والأخ في الله أعز فيهم من درهم حلال } قال في الكتاب ، وكذلك أمر اللباس يعني أنه مأجور فيما يواري به سوأته [ ص: 279 ] ويدفع أذى الحر والبرد عنه ويتمكن من إقامة الصلوات وما زاد على ذلك مباح له وترك الأجود من الثياب والاكتفاء بما دون ذلك أفضل ، كما في الطعام لما روي عن { النبي صلى الله عليه وسلم أنه لبس يوما ثوبا معلما ثم نزعه وقال شغلني علمه عن صلاتي كلما وقع بصري عليه } ، وعن عمر رضي الله عنه أنه رفع ثوبه إلى عامله ليرقعه فزاد عليه ثوبا آخر وجاءه بالثوبين فأخذ عمر رضي الله عنه ثوبه ورد الآخر وقال ثوبك أجود وألين ، ولكن ثوبي أنشف للعرق ، وعن علي رضي الله عنه أنه كان يكره التزيي بالزي الحسن ويقول أنا ألبس من الثياب ما يكفيني لعبادة ربي فيه فعرفنا أن الاكتفاء بما دون الأجود أفضل له ، وإن كان يرخص له في لبس ذلك

التالي السابق


الخدمات العلمية