الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا

                                                                                                                                                                                                                                        قوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر يعني لا يجعلون لله تعالى [ ص: 157 ] شريكا ، ولا يجعلون بينهم وبينه في العبادة وسيطا .

                                                                                                                                                                                                                                        ولا يقتلون النفس التي حرم الله يعني حرم قتلها ، وهي نفس المؤمن والمعاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        إلا بالحق والحق المستباح به قتلها ، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس .

                                                                                                                                                                                                                                        ولا يزنون والزنى إتيان النساء المحرمات في قبل أو دبر ، واللواط زنى في أحد القولين وهو في القول الثاني موجب لقتل الفاعل والمفعول به ، وفي إتيان البهائم ثلاثة أقاويل :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها : أنه كالزنى في الفرق بين البكر والثيب .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أنه يوجب قتل البهيمة ومن أتاها للخبر المأثور فيه .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : أنه يوجب التعزير . فجمع في هذه الآية بين ثلاث من الكبائر: الشرك وقتل النفس والزنى ، روى عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود قال : قلت : يا رسول الله (أو قال غيري) : أي ذنب أعظم عند الله؟ قال : (أن تجعل لله ندا وهو خلقك) قال : ثم أي؟ قال : (أن تقتل ولدك خيفة أن يطعم معك) قال : ثم أي ؟ قال : (أن تزاني حليلة جارك) قال: فأنزل الله ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                        ومن يفعل ذلك يعني هذه الثلاثة أو بعضها يلق أثاما فيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 158 ] :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها : أن الأثام العقوبة قاله بلعام بن قيس:


                                                                                                                                                                                                                                        جزى الله ابن عروة حيث أمسى عقوقا والعقوق له أثام



                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أن الأثام اسم واد في جهنم ، قاله ابن عمر ، وقتادة ، ومنه قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                        لقيت المهالك في حربنا     وبعد المهالك تلقى أثاما



                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : الجزاء ، قاله السدي ، وقال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                        وإن مقامنا ندعو عليكم     بأبطح ذي المجاز له أثام



                                                                                                                                                                                                                                        يضاعف له العذاب يوم القيامة فيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها : أن المضاعفة عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، قاله قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أنها الجمع بين عقوبات الكبائر المجتمعة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : أنها استدامة العذاب بالخلود .

                                                                                                                                                                                                                                        ويخلد فيه أي يخلد في العذاب بالشرك .

                                                                                                                                                                                                                                        مهانا بالعقوبة .

                                                                                                                                                                                                                                        إلا من تاب يعني من الزنى .

                                                                                                                                                                                                                                        وآمن يعني من الشرك . وعمل عملا صالحا يعني بعد السيئات .

                                                                                                                                                                                                                                        فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات فيه ثلاثة أقاويل :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها : في الدنيا يبدلهم بالشرك إيمانا ، وبالزنى إحصانا وبذكر الله بعد نسيانه ، وبطاعته بعد عصيانه ، وهذا معنى قول الحسن ، وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أنه في الآخرة فيمن غلبت حسناته على سيئاته فيبدل الله السيئات حسنات ، قاله أبو هريرة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : أنه يبدل الله عقاب سيئاته إذا تاب منها بثواب حسناته إذا انتقل إليها ، قاله ابن بحر .

                                                                                                                                                                                                                                        وكان الله غفورا لما تقدم قبل التوبة .

                                                                                                                                                                                                                                        رحيما لما بعدها . وحكى الكلبي أن وحشيا وهو عبد عتبة بن غزوان كتب بعد وقعة أحد وقتل [ ص: 159 ] حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم : هل من توبة؟ فإن الله أنزل بمكة إياسي من كل خير والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية وإن وحشيا قد فعل هذا كله ، وقد زنى وأشرك وقتل النفس التي حرم الله ، فأنزل الله إلا من تاب أي من الزنى وآمن بعد الشرك وعمل صالحا بعد السيئات ، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال وحشي : هذا شرط شديد ولعلي لا أبقى بعد التوبة حتى أعمل صالحا ، فكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل من شيء أوسع من هذا؟ فأنزل الله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء : 48 ، 116] ، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي . فأرسل وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم : إنى لأخاف أن لا أكون في مشيئة الله ، فأنزل الله في وحشي وأصحابه قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا [الزمر : 53] الآية . فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم .

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية