الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل اللمم

فأما اللمم فقد روي عن جماعة من السلف أنه الإلمام بالذنب مرة ، ثم لا يعود إليه ، وإن كان كبيرا ، قال البغوي : هذا قول أبي هريرة ، ومجاهد ، والحسن ، ورواية عطاء عن ابن عباس ، قال : وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللمم ما دون الشرك قال السدي : قال أبو صالح : سئلت عن قول الله عز وجل : إلا اللمم ؟ فقلت : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده فذكرت ذلك لابن عباس فقال : لقد أعانك عليها ملك كريم .

والجمهور على أن اللمم ما دون الكبائر ، وهو أصح الروايتين عن ابن عباس ، كما في صحيح البخاري من حديث طاووس عنه قال : ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه رواه مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ، وفيه والعينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والرجل زناها الخطى .

وقال الكلبي : اللمم على وجهين ، كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ، ولا عذابا في الآخرة ، فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ، ما لم يبلغ الكبائر والفواحش ، والوجه الآخر هو الذنب العظيم ، يلم به المسلم المرة بعد المرة ، فيتوب منه .

قال سعيد بن المسيب : هو ما ألم بالقلب ، أي ما خطر عليه .

[ ص: 324 ] قال الحسين بن الفضل : اللمم النظر من غير تعمد ، فهو مغفور ، فإن أعاد النظر فليس بلمم ، وهو ذنب ، وقد روى عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما



وذهبت طائفة ثالثة إلى أن اللمم ما فعلوه في الجاهلية قبل إسلامهم ، فالله لا يؤاخذهم به ، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : أنتم بالأمس كنتم تعملون معنا ، فأنزل الله هذه الآية ، وهذا قول زيد بن ثابت ، وزيد بن أسلم .

والصحيح قول الجمهور أن اللمم صغائر الذنوب ، كالنظرة ، والغمزة ، والقبلة ، ونحو ذلك ، هذا قول جمهور الصحابة ومن بعدهم ، وهو قول أبي هريرة وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، ومسروق ، والشعبي ، ولا ينافي هذا قول أبي هريرة ، وابن عباس في الرواية الأخرى : إنه يلم بالكبيرة ثم لا يعود إليها ، فإن اللمم إما أنه يتناول هذا وهذا ، ويكون على وجهين ، كما قال الكلبي ، أو أن أبا هريرة ، وابن عباس ألحقا من ارتكب الكبيرة مرة واحدة - ولم يصر عليها ، بل حصلت منه فلتة في عمره - باللمم ، ورأيا أنها إنما تتغلظ وتكبر وتعظم في حق من تكررت منه مرارا عديدة ، وهذا من فقه الصحابة رضي الله عنهم وغور علومهم ، ولا ريب أن الله يسامح عبده المرة والمرتين والثلاث ، وإنما يخاف العنت على من اتخذ الذنب عادته ، وتكرر منه مرارا كثيرة ، وفي ذلك آثار سلفية ، والاعتبار بالواقع يدل على هذا ، ويذكر عن علي رضي الله عنه أنه دفع إليه سارق ، فأمر بقطع يده ، فقال : يا أمير المؤمنين ، والله ما سرقت غير هذه المرة ، فقال : كذبت ، فلما قطعت يده قال : اصدقني ، كم لك بهذه المرة ؟ فقال : كذا وكذا مرة ؟ فقال : صدقت ، إن الله لا يؤاخذ بأول ذنب ، أو كما قال ، فأول ذنب إن لم يكن هو اللمم ، فهو من جنسه ونظيره ، فالقولان عن أبي هريرة ، وابن عباس متفقان غير مختلفين ، والله أعلم .

[ ص: 325 ] وهذه اللفظة فيها معنى المقاربة والإعتاب بالفعل حينا بعد حين ، فإنه يقال : ألم بكذا ، إذا قاربه ولم يغشه ، ومن هذا سميت القبلة والغمزة لمما ، لأنها تلم بما بعدها ، ويقال : فلان لا يزورنا إلا لماما ، أي حينا بعد حين ، فمعنى اللفظة ثابت في الوجهين اللذين فسر الصحابة بهما الآية ، وليس معنى الآية الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم فإنهم لا يجتنبونه ، فإن هذا يكون ثناء عليهم بترك اجتناب اللمم ، وهذا محال ، وإنما هذا استثناء من مضمون الكلام ومعناه ، فإن سياق الكلام في تقسيم الناس إلى محسن ومسيء ، وأن الله يجزي هذا بإساءته وهذا بإحسانه ، ثم ذكر المحسنين ووصفهم بأنهم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ، ومضمون هذا أنه لا يكون محسنا مجزيا بإحسانه ، ناجيا من عذاب الله ، إلا من اجتنب كبائر الإثم والفواحش ، فحسن حينئذ استثناء اللمم ، وإن لم يدخل في الكبائر ، فإنه داخل في جنس الإثم والفواحش .

وضابط الانقطاع أن يكون له دخول في جنس المستثنى منه ، وإن لم يدخل في نفسه ، ولم يتناوله لفظه ، كقوله تعالى لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما فإن السلام داخل في الكلام الذي هو جنس اللغو والسلام ، وكذلك قوله : لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا فإن الحميم والغساق داخل في جنس الذوق المنقسم ، فكأنه قيل في الأول : لا يسمعون فيها شيئا إلا سلاما ، وفي الثاني : لا يذوقون فيها شيئا إلا حميما وغساقا ، ونص على فرد من أفراد الجنس تصريحا ، ليكون نفيه بطريق التصريح والتنصيص ، لا بطريق العموم الذي يتطرق إليه تخصيص هذا الفرد ، وكذلك قوله تعالى ما لهم به من علم إلا اتباع الظن فإن الظن داخل في الشعور الذي هو جنس العلم والظن .

وأدق من هذا دخول الانقطاع فيما يفهمه الكلام بلازمه ، كقوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إذ مفهوم هذا أن نكاح منكوحات الآباء سبب للعقوبة إلا ما قد سلف منه قبل التحريم ، فإنه عفو ، وكذلكوأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف وإن كان المراد به ما كان في شرع من [ ص: 326 ] تقدم فهو استثناء من القبح المفهوم من ذلك التحريم والذم لمن فعله ، فحسن أن يقال : إلا ما قد سلف .

فتأمل هذا فإنه من فقه العربية .

وأما قوله : لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى فهذا الاستثناء هو لتحقيق دوام الحياة وعدم ذوق الموت ، وهو يجعل النفي الأول العام بمنزلة النص الذي لا يتطرق إليه استثناء البتة ، إذ لو تطرق إليه استثناء فرد من أفراده لكان أولى بذكره من العدول عنه إلى الاستثناء المنقطع ، فجرى هذا الاستثناء مجرى التأكيد ، والتنصيص على حفظ العموم ، وهذا جار في كل منقطع ، فتأمله فإنه من أسرار العربية .

فقوله : وما بالربع من أحد إلا الأواري ، يفهم منه لو وجدت فيها أحدا لاستثنيته ولم أعدل إلى الأواري التي ليست بأحد .

وقريب من هذا لفظة " أو " في قوله تعالى ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وقوله : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون هو كالتنصيص على أن المراد بالأول الحقيقة لا المبالغة ، فإنها إن لم تزد قسوتها على الحجارة فهي كالحجارة في القسوة لا دونها ، وأنه إن لم يزد عددهم على مائة ألف لم ينقص عنها ، فذكر " أو " هاهنا كالتنصيص على حفظ المائة الألف ، وأنها ليست مما أريد بها المبالغة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية