الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 495 ] قوله عز وجل:

وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط

ذكر الله تعالى الخلق الذميمة من الإنسان جملة، وهي في الكفار بينة متمكنة، وأما المؤمن في الأغلب، فيشكر عند النعمة، وكثيرا ما يصبر عند الشدة. وقرأ جمهور القراء والناس: "ونأى"، الهمزة عين الفعل، وقرأ ابن عامر : "وناء"، الهمزة لام الفعل، وهي قراءة أبي جعفر ، والمعنى فيهما واحد، قال أبو علي : ناء قلب نأى، "رجع فعل فلع"، ومنه قول الشاعر :


وكل خليل راءني فهو قائل ... من أجلك هذا هامة اليوم أو غد



ومنه قول الآخر:


وقد شاءني أهل السباق وأمعنوا



[ ص: 496 ] و"ناء" معناه: بعد ولم يمل إلى شكر ولا طاعة.

وقوله تعالى: فذو دعاء عريض ، أي طويل أيضا، فاستغنى بالصفة الواحدة عن لزيمتها، إذ العرض يقتضي الطول ويتضمنه، ولم يقل: "طويل" لأن الطويل قد لا يكون عريضا، فعريض أدل على الكثرة.

ثم أمر تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقف قريشا على هذا الاحتجاج وموضع تغريرهم بأنفسهم، فقال تعالى: قل أرأيتم إن كان هذا الشرع من عند الله وبأمره وخالفتموه أنتم، ألستم على هلكة من قبل الله تعالى؟ فمن أضل ممن يبقى على مثل هذا الغرر مع الله تعالى؟ وهذا هو الشقاق.

ثم وعد تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه سيري الكفار آياته، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: في الآفاق وفي أنفسهم فقال المنهال ، والسدي ، وجماعة: هو وعد بما يفتحه الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من الأقطار حول مكة، وفي غير ذلك من الأرض كخيبر ونحوها، و "في أنفسهم" أراد به فتح مكة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا تأويل حسن ينتظم الإعلام بغيب ظهر وجوده بعد، كذلك ويجري معه لفظ الاستئناف الذي في الفعل، وقال الضحاك ، وقتادة : سنريهم آياتنا في الآفاق هو ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديما، وفي أنفسهم يوم بدر، وقال ابن زيد ، وعطاء : "الآفاق" آفاق السماء، وأراد به الآيات في الشمس والقمر والرياح وغير ذلك، و"في أنفسهم" عبرة الإنسان بجسمه وحواسه وغريب خلقته وتدريجه في البطن ونحو ذلك.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذه آيات قد كانت مرتبة، فليس هذا المعنى يجري مع قوله تعالى: "سنريهم"، والتأويل الأول أرجحها، والله أعلم.

[ ص: 497 ] والضمير في قوله تعالى: أنه الحق عائد على الشرع والقرآن، فبإظهار الله تعالى إياه وفتح البلاد عليه تبين لهم أنه الحق، ثم قال تعالى وعدا لنبيه عليه الصلاة والسلام: أولم يكف بربك ، والتقدير: أولم يكف ربك؟ والباء زائدة للتأكيد، و"أن" يحتمل أنه في موضع رفع على البدل من الموضع; إذ التقدير: أو لم يكف ربك؟ ويحتمل أن يكون في موضع خفض على البدل من اللفظ، وهذا كله بدل الاشتمال، ويصح أن يكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر، أي: لأنه. وقرأ الجمهور: "[أنه]" بفتح الألف، وقرأ بعض الناس: [إنه] بكسرها على الاعتراض أثناء القول.

وقوله تعالى: [ألا] استفتاح يقتضي إقبال السامع على ما يقال له، فاستفتح الإخبار على أنهم في شك وريب وضلال أداهم إلى الشك في البعث. وقرأ جمهور الناس: "في مرية" بكسر الميم، وقرأ أبو عبد الرحمن ، والحسن : [في مرية] بضم الميم، والمعنى واحد، ثم استفتح الإخبار بإحاطته بكل شيء على معنى الوعيد لهم، وإحاطته تعالى هي بالقدرة والسلطان، لا إله إلا هو، العزيز الحكيم.

كمل تفسير سورة (حم السجدة) والحمد لله رب العالمين

التالي السابق


الخدمات العلمية