الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون

أوبقت الرجل: إذا أنشبته في أمر يهلك فيه، فالإيباق في السفن هو تغريقها، والضمير في: "كسبوا" هو لركابها من البشر، أي: بذنوب البشر، ثم ذكر تعالى ثانية: ويعف عن كثير مبالغة وإيضاحا، وقرأ نافع ، وابن عامر ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة : "ويعلم" بالرفع على القطع والاستئناف، وحسن ذلك إذا جاء بعد الجزاء. وقرأ الباقون والجمهور: "ويعلم" بالنصب على تقدير: "أن"، وهذه الواو ونحوها هي التي يسميها الكوفيون "واو الصرف"، لأن حقيقة واو الصرف هي التي تريد بها عطف [ ص: 521 ] فعل على اسم، فيقدر "أن" لتكون مع الفعل بتأويل المصدر فيجيء عطفه على الاسم، وذلك نحو قول الشاعر:


........................... ... تقضي لبانات ويسأم سائم



فكأنه أراد: وسآمة سائم، فقدر: "وأن يسأم" ليكون ذلك بتأويل المصدر الذي هو "سآمة"، قال أبو علي : حسن النصب إذا كان قبله شرط وجزاء، وكل واحد منهما غير واجب.

وقوله تعالى: ما لهم من محيص هو معلومهم الذي أراد أن يعلمه المجادلون في آياته عز وجل، و"المحيص": المنجى وموضع الروغان، يقال: حاص إذا راغ، وفي حديث هرقل: "فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب"، ثم وعظ تعالى [ ص: 522 ] عباده وحقر عندهم أمر الدنيا وشأنها، ورغبهم فيما عنده من نعيمهم والمنزلة الرفيعة لديه، وعظم قدر ذلك في قوله تعالى: فما أوتيتم من شيء الآية.

وقوله تعالى: والذين يجتنبون عطف على قوله تعالى: "الذين آمنوا" ، وقرأ جمهور الناس: "كبائر" على الجمع، قال الحسن: هي كل ما توعد فيه بالنار، وقال الضحاك : أو كان فيه حد من الحدود، وقال ابن مسعود رضى الله عنه: الكبائر من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس رضى الله عنهم: هي كل ما ختمه الله تعالى بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم : "كبير" على الإفراد الذي هو اسم الجنس، وقال ابن عباس رضى الله عنهما: كبير الإثم: هو الشرك والفواحش، قال السدي : الزنى، وقال مقاتل : موجبات الحدود، ويحتمل أن يكون "كبير" اسم جنس بمعنى "كبائر"، فتدخل فيه الموبقات السبع على ما قد تفسر من أمرها في غير هذه الآية.

وقوله تعالى: وإذا ما غضبوا هم يغفرون حض على كسر الغضب والتدرب في إطفائه، إذ هو جمهرة من جهنم، وباب من أبوابها، وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: "لا تغضب"، قال: زدني، قال: "لا تغضب"، قال: زدني، قال: "لا تغضب"، ومن جاهد هذا العارض من نفسه حتى غلبه فقد كفي هما عظيما في دنياه وآخرته.

وقوله تعالى: والذين استجابوا لربهم : مدح لكل من آمن بالله تعالى وقبل شرعه، ومدح تعالى القوم الذين أمرهم شورى بينهم، لأن في ذلك اجتماع الكلمة والتحاب واتصال الأيدي والتعاضد على الخير، وفي الحديث: "ما تشاور قوم إلا هدوا لأحسن ما بحضرتهم" ، وقوله تعالى: ومما رزقناهم ينفقون معناه: في [ ص: 523 ] سبيل الله وبرسم الشرع وعلى حدوده في القوام الذي مدحه الله تعالى في غير هذه الآية.

وقال ابن زيد : قوله تعالى: والذين استجابوا لربهم الآية نزلت في الأنصار، والظاهر أن الله تعالى مدح كل من اتصف بهذه الصفة كائنا من كان، وهل حصل الأنصار في هذه الصفة إلا بعد سبق المهاجرين إليها؟ رضي الله تعالى عن جميعهم بمنه.

التالي السابق


الخدمات العلمية