الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
450 حديث أول لشريك

مالك عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن أنس بن مالك أنه قال : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة ، قال : فجاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، تهدمت البيوت وانقطعت السبل وهلكت المواشي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم ظهور الجبال والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر . قال : فانجابت عن المدينة انجياب الثوب .

[ ص: 62 ]

التالي السابق


[ ص: 62 ] في هذا الحديث الفزع إلى الله وإلى من ترجى دعوته عند نزول البلاء ، وفيه أن ذكر ما نزل ليس بشكوى إذا كان على الوجه المذكور ، وفيه الدعاء في الاستسقاء ، وفيه ما عليه بنو آدم من قلة الصبر عند البلاء ، ألا ترى سرعة شكواهم بالماء بعد الحاجة إليه ، وذلك معنى قول الله - عز وجل - : ( إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا ) .

وفيه إباحة الدعاء في الاستصحاء كما يدعى في الاستسقاء ، وفيه ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخلق العظيم في إباحة كل من دعاه إلى ما أراد ما لم يكن إثما .

وقد ذكرنا أحكام الاستسقاء والصلاة فيها والقراءة وسائر سننها في باب عبد الله بن أبي بكر من هذا الكتاب ، وروى هذا الحديث الليث عن سعيد المقبري ، عن شريك ، عن أنس قال : بينا نحن في المسجد ( يوم ) الجمعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، قام رجل فقال : يا رسول الله ، انقطعت السبل وهلكت الأموال وأجدبت البلاد فادع الله أن يسقينا ، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه حذاء وجهه وقال : اللهم اسقنا وذكر نحو حديث مالك إلا أنه قال : اللهم حوالينا ولا علينا ، ولكن الجبال ومنابت الشجر قال : فتمزق السحاب فما نرى منه شيئا .

ورواه إسماعيل بن جعفر عن شريك عن أنس مثله بأتم معنى وأحسن سياقة ، وفي آخر حديثه قال شريك : سألت أنسا : الرجل الذي أتاه آخرا هو الرجل الأول ؟ قال : لا .

[ ص: 63 ] ورواه ثابت وحميد وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، كلهم عن أنس بمعنى حديث شريك هذا .

حدثنا إبراهيم بن شاكر ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ، حدثنا سعيد بن خمير وسعيد بن عثمان قالا : حدثنا أحمد بن عبد الله بن صالح قال : حدثنا النصر بن محمد قال : حدثنا عكرمة بن عمار قال : حدثنا أبو زميل قال : حدثني ابن عباس قال : استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمطر الناس حتى سالت قناه أربعين يوما ، فأصبح الناس منهم من يقول : لقد صدق نوء كذا ، ومنهم من يقول : هذه رحمة وضعها الله .

أخبرنا أحمد بن قاسم ومحمد بن إبراهيم قالا : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا إبراهيم بن موسى بن جميل قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال : حدثنا نصر بن علي قال : أخبرنا الأصمعي قال : أخبرنا عبد الله بن عمرو بن السعدي : سعد بن بكر عن أبيه قال : شهدت عمر بن الخطاب يستسقي فجعل يستغفر ، قال : فجعلت أقول فيم خرج له ؟ ولا أشعر أن الاستسقاء هو الاستغفار ، قال : فقلدتنا السماء قلدا كل خمس عشرة حتى رأيت الأرنبة تأكلها صغار الإبل من وراء حقاق العرفط ، قال : قلت ما حقاق العرفط ؟ قال : ابنا سنتين وثلاث . قال نصر : قال الأصمعي الأرنبة شجرة صغيرة يقول : فطالت من الأمطار حتى صارت الإبل كلها تتناولها من فوق شجر العرفط ويروى هذا الخبر عن مسلم الملائي ، عن أنس بغير هذا ، قال : جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أتيناك وما لنا صبي يغط ، ولا بعير يئط ، وأنشد :

[ ص: 64 ]

أتيناك والعذراء تدمي لبانها وقد شغلت أم الصبي عن الطفل وألقى بكفيه وخر استكانة
من الجوع موتا ما يمر وما يحلي .

ولا شيء مما يأكل الناس عندنا
سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل وليس لنا إلا إليك فرارنا
وأين فرار الناس إلا إلى الرسل

.

فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجر رداءه حتى صعد المنبر فرفع يديه ، ثم قال : اللهم اسقنا غيثا مغيثا غدقا طبقا نافعا غير ضار عاجلا غير رايث وكذلك تخرجون ، قال : فما رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه حتى التقت السماء بأبراقها وجاء أهل البطاح يضجون : الغرق الغرق ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اللهم حوالينا ولا علينا . فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل [ ص: 65 ] فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه ، ثم قال : لله در أبي طالب ، لو كان حيا قرت عيناه ، من ينشدنا قوله ؟ فقال علي : أنا يا رسول الله ، لعلك تريد :


وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يطيف به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل

.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أجل ، فقام رجل من كنانة فقال : يا رسول الله ، إن يك شاعر أحسن فقد أحسنت
. أخبرناه خلف بن قاسم ، أخبرنا محمد بن أحمد بن بحير القاضي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن صدقة الواسطي ابن ابنة خالد الطحان ، حدثنا أحمد بن رشدين بن خيثم ، عن مسلم الملائي ، عن أنس بن مالك فذكره ، قال القاضي : قال لنا إبراهيم : اللبان : الصدر ، والحنظل العامي الذي له عام ، والعلهز لا أعرفه . وهكذا قال الشيخ : وأظنه العنقز وهو أصول البردي .

وأما قوله : بعير يئط ، فالأطيط الصوت ، وغدقا : كثيرا ، وطبقا : يطبق الأرض .

وذكر أبو عبد الله محمد بن زكرياء بن دينار الغلابي قال : حدثنا العباس بن بكار قال : حدثنا عيسى بن يزيد عن موسى بن عقبة أن أعرابيا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أجدبت عليه السنة فقال : يا رسول الله ، إنه مرت بنا سنون كسني يوسف ، فادع الله لنا ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المنبر يجر [ ص: 66 ] رداءه وحوله على كتفه ، ثم قال : اللهم اسقنا غيثا مغيثا ( مريئا مريعا ) ، فما استتم الدعاء حتى استقلت سحابة تمطر سحا ، فلم تزل كذلك حتى قدم أهل الأسافل يصيحون الغرق الغرق ، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه ، ثم قال : لله أبو طالب ، لو كان حاضرا لقرت عيناه ، أما منكم أحد ينشدني شعره ؟ فقام علي بن أبي طالب فقال : لعلك تريد يا رسول الله قوله :


وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ربيع اليتامى عصمة للأرامل

.

فقال : نعم . .

فقال الأعرابي وكان من مزينة :

لك الحمد والحمد ممن شكر سقينا بوجه النبي المطر
دعا ربه المصطفى دعوة فأسلم معها إليه النظر
فلم يك إلا أن ألقى الرداء وأسرع حتى رأينا الدرر
ولم يرجع الكف عند الدعاء إلى النحر حتى أفاض الغدر
سحاب وما في أديم السماء سحاب يراه الحديد البصر
فكان كما قاله عمه وأبيض يسقى به ذو غدر
به ينزل الله غيث السماء فهذا العيان لذاك الخبر
فمن يشكر الله يلق المزيد ومن يكفر الله يلق الغير

.

ليس هذا البيت في رواية الغلابي ، قال موسى بن عقبة ، فأمر له النبي - صلى الله عليه وسلم - براحلتين وكساه ثوبا
.

[ ص: 67 ] وأما قوله : الآكام ، فهي الكداء والجبار الصغار من التراب ، الواحدة أكمة ، ومنابت الشجر مواضع المرعى حيث ترعى البهائم ، وانجياب الثوب انقطاع الثوب ، يعني الخلق ، يقول صارت السحابة قطعا وانكشفت عن المدينة كما ينكشف الثوب عن الشيء يكون عليه .




الخدمات العلمية