الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن جبر عظمه بعظم نجس فإن لم يخف التلف من قلعه لزمه قلعه ; لأنه نجاسة غير معفو عنها أوصلها إلى موضع يلحقه حكم التطهير لا يخاف التلف من إزالتها ، فأشبه إذا وصلت المرأة شعرها بشعر نجس ، فإن امتنع من قلعه أجبره السلطان على قلعه ; لأنه مستحق عليه تدخله النيابة ، فإذا امتنع لزم السلطان أن يقلعه كرد المغصوب ، وإن خاف التلف من قلعه لم يجب قلعه ، ومن أصحابنا من قال : يجب ; لأنه حصل بفعله وعدوانه فانتزع منه ، وإن خيف عليه التلف كما لو غصب مالا ولم يمكن انتزاعه منه إلا بضرب يخاف منه التلف ، والمذهب الأول ; لأن النجاسة يسقط حكمها عند خوف التلف ، ولهذا يحل أكل الميتة عند خوف التلف فكذلك ههنا ، وإن مات فقد قال أبو العباس يقلع حتى لا يلقى الله تعالى حاملا للنجاسة ، والمنصوص أنه لا يقلع ; لأن قلعه عبادة ، وقد سقطت العبادة عنه بالموت وإن فتح موضعا من بدنه وطرح فيه دما والتحم وجب فتحه وإخراجه كالعظم . وإن شرب خمرا فالمنصوص في صلاة الخوف أنه يلزمه أن يتقايأ لما ذكرناه في العظم ، ومن أصحابنا من قال : لا يلزمه ; لأن النجاسة حصلت في معدته فصار كالطعام الذي أكله وحصل في المعدة )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) إذا انكسر عظمه فينبغي أن يجبره بعظم طاهر ، قال أصحابنا : ولا يجوز أن يجبره بنجس مع قدرته على طاهر يقوم مقامه ، فإن جبره بنجس نظر - إن كان محتاجا إلى الجبر ولم يجد طاهرا يقوم مقامه فهو معذور ، وإن لم يحتج إليه ووجد طاهرا يقوم مقامه أثم ووجب نزعه إن لم يخف منه تلف نفسه ولا تلف عضو ولا شيئا من الأعذار المذكورة في التيمم ، فإن لم يفعل أجبره السلطان ولا تصح صلاته معه ، ولا يعذر بالألم الذي يجده إذا لم يخف منه ، وسواء اكتسى العظم لحما أم لا ، هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور ; لأنها نجاسة أجنبية حصلت في غير معدنها ، وفيه [ ص: 146 ] وجه شاذ ضعيف أنه إذا اكتسى اللحم لا ينزع وإن لم يخف الهلاك ، حكاه الرافعي ومال إليه إمام الحرمين والغزالي وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وإن خاف من النزع هلاك النفس ، أو عضو أو فوات منفعة عضو لم يجب النزع على الصحيح من الوجهين ودليلهما في الكتاب . قال صاحب التتمة وغيره : لو لم يخف التلف وخاف كثرة الألم وتأخر البرء - وقلنا : لو خاف التلف لم يجب النزع - فهل يجب هنا ؟ فيه وجهان بناء على القولين في نظيره في التيمم وحيث أوجبنا النزع فتركه لزمه إعادة كل صلاة صلاها معه قولا واحدا ; لأنه صلى بنجاسة متعمدا ، ومتى وجب النزع فمات قبله لم ينزع على الصحيح المنصوص ، وفيه وجه أبي العباس ودليلهما في الكتاب وهما جاريان سواء استتر باللحم أم لا ، وقيل : إن استتر لم ينزع وجها واحدا ، فإذا قلنا ينزع فهل النزع واجب أم مستحب ؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي الصحيح أنه واجب وبه قطع صاحب الحاوي .



                                      ( فرع ) مداواة الجرح بدواء نجس وخياطته بخيط نجس كالوصل بعظم نجس ، فيجب النزع حيث يجب نزع العظم ، ذكره المتولي والبغوي وآخرون وكذا لو فتح موضعا من بدنه وطرح فيه دما أو نجاسة أخرى أو وشم يده أو غيرها فإنه ينجس عند الغرز فله حكم العظم . هذا هو الصحيح المشهور ، قال الرافعي وفي تعليق الفراء أنه يزال الوشم بالعلاج فإن لم يمكن إلا بالجرح لا يجرح ولا إثم عليه بعد التوبة .



                                      ( فرع ) إذا شرب خمرا أو غيرها من النجاسات ، قال الشافعي رحمه الله في البويطي في باب صلاة الخوف : وإن أكره على أكل محرم فعليه أن يتقايأه هذا نصه في البويطي ، وقال في الأم : ولو أسر رجل فحمل على شرب محرم أو أكل محرم وخاف إن لم يفعله فعليه أن يتقايأه إن قدر عليه ، وهذان النصان ظاهران أو صريحان في وجوب الاستقاءة لمن قدر عليها ، وبهذا قال أكثر الأصحاب ، وصححه صاحبا الشامل والمستظهري ، وفيه وجه أنه لا يجب بل يستحب وصححه القاضي أبو الطيب ولا فرق بين المعذور في الشرب وغيره كما نص عليه .



                                      ( فرع ) لو انقلعت سنه فردها موضعها ، قال أصحابنا العراقيون : [ ص: 147 ] لا يجوز ; لأنها نجسة وهذا بناء على طريقتهم أن عضو الآدمي المنفصل في حياته نجس وهو المنصوص في الأم ، ولكن المذهب طهارته وهو الأصح عند الخراسانيين ، وقد سبق إيضاحه في باب إزالة النجاسة ، فلو تحركت سنه فله أن يربطها بفضة وذهب وهي طاهرة بلا خلاف ، وصرح به الماوردي والقاضي أبو الطيب والمحاملي وسائر الأصحاب .



                                      . ( فرع ) قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر : ولا تصل المرأة بشعرها شعر إنسان ولا شعر ما لا يؤكل لحمه بحال ، قال أصحابنا : إذا وصلت شعرها بشعر آدمي فهو حرام بلا خلاف سواء كان شعر رجل أو امرأة وسواء شعر المحرم والزوج وغيرهما بلا خلاف ، لعموم الأحاديث الصحيحة في لعن الواصلة والمستوصلة ، ولأنه يحرم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه لكرامته ، بل يدفن شعره وظفره وسائر أجزائه ، وإن وصلته بشعر غير آدمي - فإن كان شعرا نجسا وهو شعر الميتة وشعر ما لا يؤكل إذا انفصل في حياته - فهو حرام أيضا بلا خلاف للحديث ; لأنه حمل نجاسة في الصلاة وغيرها عمدا ، وسواء في هذين النوعين المرأة المزوجة وغيرها من النساء والرجال .

                                      وأما الشعر الطاهر من غير الآدمي فإن لم يكن لها زوج ولا سيد - فهو حرام أيضا على المذهب الصحيح ، وبه قطع الدارمي والقاضي أبو الطيب والبغوي والجمهور ، وفيه وجه أنه مكروه قاله الشيخ أبو حامد وحكاه الشاشي ورجحه ، وحكاه غيره وجزم به المحاملي وهو شاذ ضعيف ، ويبطله عموم الحديث . وإن كان لها زوج أو سيد فثلاثة أوجه حكاها الدارمي وآخرون ( أصحها ) عند الخراسانيين ، وبه قطع جماعة منهم ، إن وصلت بإذنه جاز وإلا حرم ( والثاني ) يحرم مطلقا ( والثالث ) لا يحرم ولا يكره مطلقا ، وقطع الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وصاحب الحاوي والمحاملي وجمهور العراقيين بأنه يجوز بإذن الزوج والسيد ، قال صاحب الشامل : قال أصحابنا : إن كان لها زوج أو سيد جاز لها ذلك وإن لم يكن زوج ولا سيد كره . فهذه طريقة العراقيين ، والصحيح ما صححه الخراسانيون ، وقول من قال بالتحريم مطلقا أقوى لظاهر إطلاق الأحاديث [ ص: 148 ] الصحيحة ،



                                      قال صاحب التهذيب : وتحمير الوجه والخضاب بالسواد وتطريف الأصابع حرام بغير إذن الزوج ، وبإذنه وجهان ( أصحهما ) التحريم .

                                      وقال الرافعي تحمير الوجنة إن لم يكن لها زوج ولا سيد أو فعلته بغير إذنه فحرام ، وإن كان بإذنه فجائز على المذهب ، وقيل وجهان كالوصل قال : وأما الخضاب بالسواد وتطريف الأصابع فألحقوه بالتحمير . قال إمام الحرمين : ويقرب منه تجعيد الشعر ، ولا بأس بتصفيف الطرر وتسوية الأصداغ ، وأما الخضاب بالحناء فمستحب للمرأة المزوجة في يديها ورجليها تعميما لا تطريفا ويكره لغيرها ، وقد أطلق البغوي وآخرون استحباب الخضاب للمرأة ومرادهم المزوجة .

                                      وأما الرجل فيحرم عليه الخضاب إلا لحاجة لعموم الأحاديث الصحيحة في نهي الرجال عن التشبه بالنساء ، وقد تقدمت هذه المسألة بأدلتها في آخر باب السواك .



                                      وأما الوشم والوشر وهو تحديد الأسنان محرم على المرأة والرجل ، ويستحب للمزوجة الخلوق ويكره للرجل ، وقد سبق هذا في باب السواك ، ومما جاء من الأحاديث الصحيحة في الوشم والوصل والوشر وغيرها حديث أسماء رضي الله عنها : { أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم قالت : يا رسول الله إن ابنتي أصابتها الحصبة فتمرق شعرها وإني زوجتها أفأصل فيه ؟ فقال : لعن الله الواصلة والموصولة } رواه البخاري ومسلم ، وفي الصحيحين عن عائشة نحوه .

                                      قولها ( تمرق ) هو بالراء المهملة ، يعني انتشر وسقط .

                                      وعن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية على المنبر وتناول قصة من شعر كانت في يد حرسي فقال : { يا أهل المدينة أين علماؤكم ؟ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه ويقول : إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم } رواه البخاري ومسلم . وعن ابن عمر رضي الله عنهما : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة } رواه البخاري ومسلم . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال { لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله ، فقالت له امرأة في ذلك ، فقال : وما لي لا ألعن من لعنه [ ص: 149 ] صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } } رواه البخاري ومسلم : المتفلجة التي ، تبرد من أسنانها ليتباعد بعضها عن بعض وتحسنها وهو الوشر ، والنامصة التي تأخذ من شعر الحاجب وترققه ليصير حسنا ، والمتنمصة التي تأمر من يفعل ذلك بها .

                                      ( فرع ) هذا الذي ذكرناه من تحريم الوصل في الجملة هو مذهبنا ومذهب جماهير العلماء ، وحكى القاضي عياض عن طائفة جوازه ، وهو مروي عن عائشة رضي الله عنها قال : ولا يصح عنها بل الصحيح عنها كقول الجمهور ، قال : والوصل بالصوف والخرق كالوصل بالشعر عند الجمهور ، وجوزه الليث بن سعد بغير الشعر ، والصحيح الأول لحديث جابر رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر أن تصل المرأة برأسها شيئا } رواه مسلم . وهذا عام في كل شيء . فأما ربط الشعر بخيوط الحرير الملونة ونحوها مما لا يشبه الشعر فليس بمنهي عنه . وأشار القاضي إلى نقل الإجماع فيه ; لأنه ليس بوصل ، ولا هو في معنى مقصود الوصل ، وإنما هو للتجمل والتحسين .

                                      ( فرع ) ذكر القاضي عياض أن وصل الشعر من المعاصي الكبائر للعن فاعله .




                                      الخدمات العلمية