الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  34 2 - (حدثنا قبيصة بن عقبة قال: حدثنا سفيان، عن عبد الله، عن الأعمش بن مرة عن مسروق، عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربع من كن فيه كان منافقا خالصا [ ص: 223 ] ومن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  المناسبة بين الحديثين ظاهرة وكذلك مناسبته للترجمة.

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله) وهم ستة: الأول: قبيصة بفتح القاف وكسر الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الصاد المهملة ابن عقبة بضم العين المهملة وسكون القاف وفتح الباء الموحدة ابن محمد بن سفيان بن عقبة بن ربيعة بن جندب بن بيان بن حبيب أبي سواءة بن عامر بن صعصعة أبو عامر السوائي الكوفي أخو سفيان بن عقبة، روى عن: مسعر والثوري وشعبة وحماد بن سلمة وغيرهم، روى عنه: أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى الذهلي والبخاري، وروى مسلم حديثا واحدا في الجنائز عن ابن أبي شيبة عنه عن الثوري، وروى أبو داود وابن ماجه عن رجل عنه. قلت: هو يحيى بن بشر يروي عن قبيصة، وكذا روى البخاري في الأدب والترمذي والنسائي عن يحيى بن بشر عنه وكان من الصالحين، وهو مختلف في توثيقه وجرحه، واحتجاج البخاري به في غير موضع كاف، وقال يحيى بن معين: ثقة في كل شيء إلا في حديث سفيان الثوري، ليس بذلك القوي، وقال يحيى بن آدم: قبيصة كثير الغلط في سفيان كأنه كان صغيرا لم يضبط، وأما في غير سفيان فهو ثقة رجل صالح، وعن قبيصة أنه قال: جالست الثوري وأنا ابن ست عشرة سنة ثلاث سنين، توفي في المحرم سنة ثلاث عشرة ومائتين، كذا قاله قطب الدين في شرحه، وقال النووي في شرحه سنة خمس عشرة ومائتين وليس لقبيصة بن عقبة عن ابن عيينة شيء.

                                                                                                                                                                                  الثاني: سفيان بتثليث سينه ابن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبة بن أبي عبد الله بن منقذ بن نضر بن الحارث بن ثعلبة بن ملكان بن ثور بن عبد مناة أبو عبد الله الثوري الإمام الكبير أحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة المتفق على جلالة قدره وكثرة علومه وصلابة دينه وتوثقه وأمانته، وهو من تابع التابعين، وقال ابن عاصم: سفيان أمير المؤمنين في الحديث، وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف ومائة وما كتبت عن أفضل من سفيان، ولد سنة سبع وتسعين وتوفي سنة ستين ومائة بالبصرة متواريا من سلطانها ودفن عشاء، وكان يدلس، روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                  الثالث: سليمان الأعمش، وقد مر ذكره.

                                                                                                                                                                                  الرابع: عبد الله بن مرة بضم الميم وتشديد الراء الهمداني بسكون الميم الكوفي التابعي الخارفي بالخاء المعجمة وبالراء والفاء، وخارف هو مالك بن عبد الله بن كثير بن مالك بن جشم بن خيوان بن نوف بن همدان، قال يحيى بن معين وأبو زرعة: ثقة، توفي سنة مائة، وقال ابن سعد: في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                  الخامس: أبو عائشة مسروق بن الأجدع بالجيم وبالمهملتين ابن مالك بن أمية بن عبد الله بن مر بن سليمان بن الحارث بن سعد بن عبد الله بن وداعة بن عمرو بن عامر الهمداني الكوفي، صلى خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وسمع عمر وعبد الله بن مسعود وعائشة وغيرهما، وكان من المخضرمين، اتفق على جلالته وتوثيقه وإمامته وكان أفرس فارس باليمن، وهو ابن أخت معدي كرب، مات سنة ثلاث، وقيل: اثنتين وستين، روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                  السادس: عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد مر ذكره.

                                                                                                                                                                                  (بيان لطائف إسناده) منها أن فيه التحديث والعنعنة، ومنها أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، ومنها أن رواته كلهم كوفيون إلا الصحابي، وقد دخل الكوفة أيضا.

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الجزية عن قتيبة عن جرير عن الأعمش به، وأخرجه مسلم في الإيمان عن أبي بكر عن عبد الله بن نمير، وعن أبي نمير، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، وحدثنا زهير، حدثنا وكيع عن الأعمش. وأخرجه بقية الجماعة.

                                                                                                                                                                                  (بيان اللغات); قوله " خالصا " من خلص الشيء يخلص من باب نصر ينصر، ومصدره خلوصا وخالصة، [ ص: 224 ] والخالص أيضا الأبيض من الألوان، وخلص الشيء إليه خلوصا وصل، وخلص العظم بالكسر يخلص بالفتح خلصا بالتحريك إذا تشظى في اللحم; قوله " خصلة " أي خلة بفتح الخاء فيهما، وكذا وقع في رواية مسلم; قوله " حتى يدعها " أي يتركها، قيل: قد أميت ماضيه، وقد استعمل في قراءة من قرأها: (ما ودعك ربك) بالتخفيف; قوله " عاهد " من المعاهدة وهي المحالفة والمواثقة; قوله " غدر " من الغدر وهو ترك الوفاء. قال الجوهري: غدر به فهو غادر وغدر أيضا، وأكثر ما يستعمل هذا في النداء بالشتم، وفي (المحكم): غدره وغدر به يغدر غدرا، ورجل غادر وغدار وغدور، وكذلك الأنثى بغير هاء وغدر، وقال بعضهم: يقال للرجل: يا غدر ويا مغدر ويا ابن مغدر ومغدر، والأنثى: يا غدار، لا يستعمل إلا في النداء وغدر الرجل غدارا وغدرانا عن اللحياني ولست منه على ثقة، وفي (المجمل): الغدر نقض العهد وتركه، ويقال أصله من الغدير وهو الماء الذي يغادره السيل أي يتركه، يقال: غادرت الشيء إذا تركته فكأنك تركت ما بينك وبينه من العهد، وفي (شرح الفصيح) لابن هشام السبتي والعماني: غدر في الماضي بالكسر، زاد العماني: وغدر بالفتح أفصح، وفي (شرح المطرز) العرب الفصحاء يقولون كما ذره ثعب: غدرت بالفتح، ومنهم من يقول: غدرت بالكسر، وفي (نوادر ابن الأعرابي): غدر الرجل بكسر الدال عن أصحابه إذا تخلف، قال: ويقال: مات إخوته وغدر، وفي (شرح الحضرمي) غدر يغدر ويغدر بالكسر والضم هو في مستقبل غدر بالكسر يغدر بالفتح قياسا، وفي كتاب (صعاليك العرب) للأخفش غادر وغدار مثل شاهد وشهاد; قوله "خاصم" من المخاصمة وهي المجادلة; قوله "فجر" من الفجور وهو الميل عن القصد والشق بمعنى فجر مال عن الحق، وقال الباطل أو شق ستر الديانة.

                                                                                                                                                                                  (بيان الإعراب والمعاني); قوله " أربع" مبتدأ بتقدير أربع خصال أو خصال أربع لأن النكرة الصرفة لا تقع مبتدأ، وخبره قوله " من كن فيه "، فقوله "من" موصولة متضمنة معنى الشرط، وقوله " كن فيه " صلتها وقوله " كان منافقا " خبر للمبتدأ الثاني أعني قوله " من "، والجملة خبر المبتدأ الأول كما ذكرنا، وقال الكرماني: يحتمل أن تكون الشرطية صفة يعني صفة أربع و" إذا اؤتمن خان... " إلخ، خبره بتقدير أربع كذا هي الخيانة عند الائتمان إلى آخره، قلت: هذا وجه بعيد لا يخفى; قوله " منافقا " خبر كان و " خالصا " صفته; قوله "ومن " مبتدأ موصولة، وقوله " كانت فيه خصلة " جملة صلة لها، وقوله: "كانت فيه خصلة" خبر المبتدأ والضمير في " منهن " يرجع إلى الأربع; قوله " حتى " للغاية و " يدعها " منصوب بأن المقدرة أي حتى أن يدعها.

                                                                                                                                                                                  قوله " إذا اؤتمن خان " إذا للظرف فيه معنى الشرط و"خان " جوابه، والباقي كذلك وهو ظاهر قوله " كان منافقا " معناه على ما تقدم من الأوجه المذكورة ووصفه بالخلوص يشد عضد من قال المراد بالنفاق العمل لا الإيمان أو النفاق العرفي لا الشرعي لأن الخلوص بهذين المعنيين لا يستلزم الكفر الملقي في الدرك الأسفل من النار، وأما كونه خالصا فيه فلأن الخصال التي تتم بها المخالفة بين السر والعلن لا يزيد عليه، وقال ابن بطال: خالصا معناه خالصا من هذه الخلال المذكورة في الحديث فقط لا في غيرها، وقال النووي: أي شديد الشبه بالمنافقين بهذه الخصال، وقال أيضا في شرحه للصحيح: حصل من الحديثين أن خصال المنافقين خمسة، وقال في شرح مسلم: " وإذا عاهد غدر" هو داخل في قوله " إذا اؤتمن خان " يعني أربعة، وقال الكرماني: لو اعتبرنا هذا الدخول فالخمس راجعة إلى الثلاث، فتأمل، والحق أنها خمسة متغايرة عرفا وباعتبار تغاير الأوصاف واللوازم أيضا، ووجه الحصر فيها أن الإظهار خلاف الباطن، أما في الماليات وهو إذا اؤتمن، وأما في غيرها فهو إما في حالة الكدورة فهو " إذا خاصم "، وإما في حالة الصفاء فهو إما مؤكدة باليمين فهو " إذا عاهد " أو لا، فهو إما بالنظر إلى المستقبل فهو " إذا وعد "، وإما بالنظر إلى الحال فهو " إذا حدث ". قلت: الحق بالنظر إلى الحقيقة ثلاث وإن كان بحسب الظاهر خمسا; لأن قوله " إذا عاهد غدر " داخل في قوله " إذا اؤتمن خان " وقوله " وإذا خاصم فجر " يندرج في الكذب في الحديث، ووجه الحصر في الثلاث قد ذكرناه.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية