الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون

                                                                                                                                                                                                                                        (275) لما ذكر الله حالة المنفقين وما لهم من الله من الخيرات، وما يكفر عنهم من الذنوب والخطيئات، ذكر الظالمين أهل الربا والمعاملات الخبيثة، وأخبر أنهم يجازون بحسب أعمالهم، فكما كانوا في الدنيا في طلب المكاسب الخبيثة كالمجانين، عوقبوا في البرزخ والقيامة، أنهم لا يقومون من قبورهم إلى يوم بعثهم ونشورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس أي: من الجنون والصرع، وذلك عقوبة وخزي وفضيحة لهم، وجزاء لهم على مراباتهم ومجاهرتهم بقولهم: إنما البيع مثل الربا فجمعوا – بجراءتهم - بين ما أحل الله، وبين ما حرم الله، واستباحوا بذلك الربا.

                                                                                                                                                                                                                                        ثم عرض تعالى العقوبة على المرابين وغيرهم، فقال: فمن جاءه موعظة من ربه بيان مقرون به الوعد والوعيد، فانتهى عما كان يتعاطاه من الربا فله ما سلف مما تجرأ عليه وتاب منه، وأمره إلى الله فيما [ ص: 199 ] يستقبل من زمانه، فإن استمر على توبته، فالله لا يضيع أجر المحسنين.

                                                                                                                                                                                                                                        ومن عاد بعد بيان الله وتذكيره وتوعده لآكل الربا فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون في هذا أن الربا موجب لدخول النار والخلود فيها، وذلك لشناعته، ما لم يمنع من الخلود مانع الإيمان ، وهذا من جملة الأحكام التي تتوقف على وجود شروطها، وانتفاء موانعها، وليس فيها حجة للخوارج، كغيرها من آيات الوعيد ، فالواجب أن تصدق جميع نصوص الكتاب والسنة، فيؤمن العبد بما تواترت به النصوص من خروج من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من الإيمان من النار ، ومن استحقاق هذه الموبقات لدخول النار، إن لم يتب منها.

                                                                                                                                                                                                                                        (276) ثم أخبر تعالى أنه يمحق مكاسب المرابين، ويربي صدقات المنفقين، عكس ما يتبادر لأذهان كثير من الخلق، أن الإنفاق ينقص المال وأن الربا يزيده، فإن مادة الرزق وحصول ثمراته من الله تعالى، وما عند الله لا ينال إلا بطاعته وامتثال أمره، فالمتجرئ على الربا يعاقبه بنقيض مقصوده، وهذا مشاهد بالتجربة ،ومن أصدق من الله قيلا ، والله لا يحب كل كفار أثيم وهو الذي كفر نعمة الله، وجحد منة ربه، وأثم بإصراره على معاصيه، ومفهوم الآية، أن الله يحب من كان شكورا على النعماء، تائبا من المآثم والذنوب، ثم أدخل هذه الآية بين آيات الربا، وهي قوله:

                                                                                                                                                                                                                                        (277 - 279 إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة الآية، لبيان أن أكبر الأسباب لاجتناب ما حرم الله من المكاسب الربوية تكميل الإيمان وحقوقه، خصوصا إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وإن الزكاة إحسان إلى الخلق، ينافي تعاطي الربا، الذي هو ظلم لهم، وإساءة عليهم.

                                                                                                                                                                                                                                        ثم وجه الخطاب للمؤمنين، وأمرهم أن يتقوه، ويذروا ما بقي من معاملات الربا التي كانوا يتعاطونها قبل ذلك، وأنهم إن لم يفعلوا ذلك، فإنهم محاربون لله ورسوله، وهذا من أعظم ما يدل على شناعة الربا، حيث جعل المصر عليه محاربا لله ورسوله.

                                                                                                                                                                                                                                        ثم قال: وإن تبتم يعني من المعاملات الربوية، فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون الناس بأخذ الربا ولا تظلمون ببخسكم رؤوس أموالكم ، فكل من تاب من الربا، فإن كانت معاملات سالفة، فله ما سلف، وأمره منظور فيه، وإن كانت معاملات موجودة، وجب عليه أن يقتصر على رأس ماله، فإن أخذ زيادة، فقد تجرأ على الربا.

                                                                                                                                                                                                                                        وفي هذه الآية بيان لحكمة الربا، وأنه [ ص: 200 ] يتضمن الظلم للمحتاجين بأخذ الزيادة، وتضاعف الربا عليهم، وهو واجب إنظارهم، ولهذا قال:

                                                                                                                                                                                                                                        (280 - 281 وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة أي: وإن كان الذي عليه الدين معسرا، لا يقدر على الوفاء، وجب على غريمه أن ينظره إلى ميسرة، وهو يجب عليه إذا حصل له وفاء بأي طريق مباح، أن يوفي ما عليه، وإن تصدق عليه غريمه - بإسقاط الدين كله أو بعضه- فهو خير له، ويهون على العبد التزام الأمور الشرعية واجتناب المعاملات الربوية والإحسان إلى المعسرين، علمه بأن له يوما يرجع فيه إلى الله، ويوفيه عمله، ولا يظلمه مثقال ذرة، كما ختم هذه الآية بقوله: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون

                                                                                                                                                                                                                                        ثم قال تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية