الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإن كلا التنوين عوض عن المضاف إليه كما هو المعروف في تنوين كل عند قوم من النحاة، وقيل: إنه تنوين تمكين لكنه لا يمنع تقدير المضاف إليه أيضا أي وإن كل المختلفين المؤمنين والكافرين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مقاتل: يعني به كفار هذه الأمة لما ليوفينهم ربك أعمالهم أي أجزيه أعمالهم، ولام ليوفينهم واقعة في جواب القسم، أي والله ليوفينهم، و(لما) بالتشديد وهو مع تشديد أن قراءة ابن عامر وحمزة وحفص، وأبي جعفر، وتخريج الآية على هذه القراءة مشكل حتى قال المبرد: إنها لحن وهو من الجسارة بمكان لتواتر القراءة وليته قال كما قال الكسائي: ما أدري ما وجه هذه القراءة، واختلفوا في تخريجها فقال أبو عبيدة: إن أصل (لما) هذه لما منونا، وقد قرئ كذلك ثم بني على فعلى وهو مأخوذ من لممته إذا جمعته، ولا يقال إنها (لما) المنونة وقف عليها بالألف، وأجري الوصل مجرى الموقف لأن ذلك على ما قال أبو حيان: إنما يكون في الشعر واستبعد هذا التخريج بأنه لا يعرف بناء فعلى من لم، وبأنه يلزم لمن أمال فعلى أن يميلها ولم يملها أحد بالإجماع، وبأنه كان القياس أن تكتب بالياء ولم تكتب بها، وسيعلم إعراب الآية على هذا مما سيأتي إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: (لما) المخففة وشددت في الوقف ثم أجري الوصل مجرى الوقف، وحينئذ فالإعراب ما ستعرفه أيضا إن شاء الله تعالى وهو بعيد جدا، وقيل: إنها بمعنى إلا، وإلا تقع زائدة كما في قوله: حلفت يمينا غير ذي مثنوية يمين امرئ إلا بها غير آثم

                                                                                                                                                                                                                                      فلا يبعد أن (لما) التي بمعناها زائدة وهو وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا، وعن المازني أن أن المشددة هنا نافية، و(لما) بمعنى إلا غير زائدة وهو باطل لأنه لم يعهد تثقيل أن النافية، ولنصب -كل- والنافية لا تنصب، وقال الحوفي: (إن) على ظاهرها، و(لما) بمعنى إلا كما في قولك: نشدتك بالله إلا فعلت، وضعفه أبو علي بأن (لما) هذه لا تفارق القسم قبلها وليس كما ذكر فقد تفارق؛ وإنما يضعف ذلك بل يبطله كما قال أبو حيان: إن الموضع ليس موضع دخول إلا ألا ترى أنك لو قلت: إن زيدا إلا ضربت لم يكن تركيبا عربيا، وقيل: إن (لما) هذه أصلها لمن ما فهي مركبة من اللام ومن الموصولة أو الموصوفة وما الزائدة فقلبت النون ميما للإدغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى منها ثم أدغم المثلان، وإلى هذا ذهب المهدوي، وقال الفراء: وتبعه جماعة منهم نصر الشيرازي: إن أصلها لمن ما بمن الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وهي على الاحتمالين واقعة على من يعقل فعمل بذلك نحو ما عمل على الوجه الذي قبله، وقد جاء هذا الأصل في قوله:

                                                                                                                                                                                                                                      وأنا لمن ما تضرب الكبش ضربة على رأسه تلقى اللسان من الفم



                                                                                                                                                                                                                                      واللام على هذين الوجهين قيل: موطئة للقسم، ونقل عن الفارسي -وهو مخالف لما اشتهر عن النحاة- من أن الموطئة هي الداخلة على شرط مقدم على جواب قسم تقدم لفظا أو تقديرا لتؤذن بأن الجواب له نحو: والله لئن أكرمتني لأكرمتك، وليس ما دخلت عليه جواب القسم، بل ما يأتي بعدها، وكان مذهبه كمذهب الأخفش أنه لا يجب دخولها على الشرط، وإنما هي ما دلت على أن ما بعدها صالح لأن يكون جوابا للقسم مطلقا، وقيل: إنها اللام الداخلة في خبر إن، ومن موصولا أو موصوفا على الوجه الأول من الوجهين هو الخبر، والقسم وجوابه صلة أو صفة، والمعنى وإن كلا للذين أو الخلق والله ليوفينهم ربك، ومن ومجرورها على الوجه الثاني [ ص: 150 ] في موضع الخبر لأن، والجملة القسمية وجوابها صلة أو صفة أيضا لكن لما، والمعنى وإن كلا لمن الذين أو لمن خلق والله ليوفينهم ربك، قال في البحر: وهذان الوجهان ضعيفان جدا ولم يعهد حذف نون من وكذا حذف نون من الجارة إلا في الشعر إذا لقيت لام التعريف أو شبهها غير المدغمة نحو قولهم: ملمال يريدون من المال، وفي تفسير القاضي وغيره إن الأصل لمن ما بمن الجارة قلبت النون ميما فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن، وفيه أيضا ما فيه، ففي المغني إن حذف هذه الميم استثقالا لم يثبت انتهى، وقال الدماميني: كيف يستقيم تعليل الحذف بالاستثقال وقد اجتمعت في قوله تعالى: (على أمم ممن معك) ثماني ميمات انتهى، وأنشد الفراء على ما ذهب إليه قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      وإني لما أصدر الأمر وجهه     إذا هو أعيا بالسبيل مصادره

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم بعضهم أن لما بمعنى حين وفي الكلام حذف أي لما عملوا ما عملوا أو نحو ذلك، والحذف في الكلام كثير نحو قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      إذا قلت: سيروا إن ليلى لعلها     جرى دون ليلى مائل القرن أعضب

                                                                                                                                                                                                                                      أراد لعلها تلقاني أو تصلني أو نحو ذلك وهو كما ترى، وقال أبو حيان بعد أن ذكر أن هذه التخريجات مما تنزه ساحة التنزيل عن مثلها: كنت قد ظهر لي وجه جار على قواعد العربية عار من التكلف وهو أن (لما) هذه هي الجازمة حذف فعلها المجزوم لدلالة المعنى عليه كما حذفوه في قولهم: قاربت المدينة ولما يريدون ولما أدخلها، والتقدير هنا وإن كلا لما ينقص من جزاء عمله ويدل عليه ليوفينهم ربك أعمالهم، وكنت أعتقد أني ما سبقت إلى ذلك حتى تحققت أن ابن الحاجب وفق لذلك فرأيت في كتاب التحرير نقلا عنه أنه قال: (لما) هذه هي الجازمة حذف فعلها للدلالة عليه، وقد ثبت الحذف في قولهم: خرجت ولما، وسافرت ولما ونحوه، وهو سائغ فصيح فيكون التقدير لما يتركوا أو لما يهملوا ويدل عليه تفصيل المجموعين ومجازاتهم، ثم قال: وما أعرف وجها أشبه من هذا وإن كانت النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن، انتهى، ولا يخفى عليك أن الأولى أن يقدر لما يوفوا أعمالهم أي إلى الآن لم يوفوها وسيوفونها، وإلى ذلك ذهب ابن هشام لما يلزم على التقديرات السابقة على ما هو المشهور في معنى لما أنهم سينقصون من جزاء أعمالهم وأنهم سيتركون ويهملون، وذلك بمعزل عن أن يراد وهو ظاهر، وهذا وجه النظر الذي عناه ابن هشام في قوله معترضا على ابن الحاجب: وفي هذا التقدير نظر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الجلبي: وجهه أن الدال على المحذوف سابق عليه بكثير مع أن ذلك المحذوف ليس من لفظ هذا الذي قيل: إنه دال عليه وليس بذاك، ثم المرجح عند كثير من المفسرين ما ذهب إليه الفراء، وقرأ نافع وابن كثير أن ولما بالتخفيف وخرجت هذه القراءة على أن أن عاملة وإن خففت اعتبارا للأصل في العمل وهو شبه الفعل، ولا يضر زوال الشبه اللفظي، وإلى ذلك ذهب البصريون، وذكر أبو حيان أن مذهبهم جواز أعمالها إذا خففت لكن على قلة إلا مع المضمر فلا يجوز إلا إن ورد في شعر، ونقل عن سيبويه منهم أنه قال: أخبرني الثقة أنه سمع بعض العرب يقول: إن عمرا لمنطلق.

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم بعض من النحويين أن المكسورة إذا خففت لا تعمل، وتأول الآية بجعل (كلا) منصوبا بفعل مقدر أي إن أرى كلا مثلا وليس بشيء، وجعل هذا في البحر مذهب الكوفيين، وفي الارتشاف إن الكوفيين [ ص: 151 ] لا يجوزون تخفيف المكسورة لا مهملة ولا معملة، وذكر بعضهم مثله وأن ما يعدها البصريون مخففة يعدها الكوفيون نافية، واستثنى منهم الكسائي فإنه وافق البصريين ومذهبهم في ذلك هو الحق، و (كلا) اسمها واللام هي الداخلة على خبر إن وما موصولة خبر إن، والجملة القسمية وجوابها صلة، وإلى هذا ذهب الفراء، واختار الطبري في اللام مذهبه، وفي (ما) كونها نكرة موصوفة، والجملة صفتها أي وإن كلا لخلق أو لفريق موفى عمله، واختار أبو علي في اللام ما اختاراه؛ وجعل الجملة القسمية خبرا وما مزيدة بين اللامين وقد عهدت زيادتها في غير ما موضع، وقرأ أبو بكر عن عاصم بتخفيف إن وتشديد لما، وقرأ الكسائي وأبو عمرو بعكس ذلك وتخريج القراءتين لا يخفى على من أحاط خبرا بما ذكر في تخريج القراءتين قبل، وقرأ أبي، والحسن بخلاف عنه، وأبان بن تغلب، وأن بالتخفيف كل بالرفع لما بالتشديد، وخرجت على أن أن نافية وكل مبتدأ والجملة القسمية وجوابها خبره، و (لما) بمعنى إلا أي ما كل إلا أقسم والله ليوفينهم، وأنكر أبو عبيدة مجيء (لما) بمعنى إلا في كلام العرب، وقال الفراء: إن جعلها هنا بمعنى إلا وجه لا نعرفه، وقد قالت العرب مع اليمين بالله: لما قمت عنا وإلا قمت عنا، وأما في غير ذلك فلم نسمع مجيئها بمعنى إلا لا في نثر ولا في شعر؛ ويلزم القائل أن يجوز قام الناس لما زيدا على معنى إلا زيدا ولا التفات إلا إنكارهما، والقراءة المتواترة في وإن كل لما جميع لدينا محضرون ، و إن كل نفس لما عليها حافظ تثبت ما أنكراه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد نص الخليل وسيبويه والكسائي على مجيء ذلك، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكون العرب خصصت مجيئها كذلك ببعض التراكيب لا يضر شيئا، فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبهه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الزهري، وسليمان بن أرقم (وإن كلا لما) بتشديد الميم والتنوين ولم يتعرضوا في النقل عنهما لتشديد أن ولا لتخفيفها، وهي في هذه القراءة مصدر من قولهم: لممت الشيء إذا جمعته كما مر ونصبها على الحالية من ضمير المفعول في ليوفينهم عند أبي البقاء وضعفه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو علي: إنها صفة لكل ويقدر مضافا إلى نكرة ليصح وصفه بالنكرة، وكان المصدر حينئذ بمعنى اسم المفعول، وذكر الزمخشري في معنى الآية على هذه القراءة أنه وإن كلا ملمومين بمعنى مجموعين كأنه قيل: وإن كلا جميعا كقوله تعالى: فسجد الملائكة كلهم أجمعون وجعل ذلك الطيبي منه ميلا إلى القول بالتأكيد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن جني: إنها منصوبة –بليوفينهم- على حد قولهم: قياما لا أقومن، والتقدير توفية جامعة لأعمالهم ليوفينهم وخبر ( إن في ذلك ) جملة القسم وجوابه، وروى أبو حاتم أن في مصحف أبي وإن من كل إلا ليوفينهم وخرج على أن أن نافية ومن زائدة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأعمش نحو ذلك إلا أنه أسقط من وهو حرف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه والوجه ظاهر، قيل: وقد تضمنت هذه الجملة عدة مؤكدات من أن واللام وما إذا كانت زائدة والقسم ونون التأكيد وذلك للمبالغة في وعد الطائعين ووعيد العاصين إنه بما يعملون خبير أي أنه سبحانه بما يعمله كل فرد من المختلفين من الخير والشر عليم على أتم وجه بحيث لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه، والجملة قيل: توكيد للوعد والوعيد، فإنه سبحانه لما كان عالما بجميع المعلومات كان عالما بمقادير الطاعات والمعاصي وما يقتضيه كل فرد منها من الجزاء بمقتضى الحكمة، وحينئذ تتأتى توفية كل ذي حق حقه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 152 ] وقرأ ابن هرمز (تعملون) على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية