الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1678 - مسألة : ومن أعتق عبدا وله مال فماله له إلا أن ينتزعه السيد قبل عتقه إياه ، فيكون حينئذ للسيد . كما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا غندر عن هشام الدستوائي عن أبي الزبير عن عبد الله بن أبي مليكة : أن عائشة أم المؤمنين قالت لامرأة سألتها وقد أعتقت عبدها : إذا أعتقتيه ولم تشترطي ماله فماله له . ومثله : عن ابن عمر ، وصح عن الحسن ، وعطاء : في عبد كاتبه مولاه وله مال وولد من سرية له ، أن ماله وسريته له ، وولده أحرار ، والعبد إذا أعتق كذلك . روينا من طريق الحجاج بن المنهال عن زياد الأعلم ، وقيس بن سعد ، قال زياد : عن الحسن ، وقال قيس : عن عطاء . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري إذا أعتق العبد فماله له .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مالك عن الزهري مضت السنة إذا أعتق العبد يتبعه ماله . [ ص: 207 ] وروي أيضا : عن القاسم ، وسالم ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وربيعة ، وأبي الزناد ، ومحمد بن عبد القاري ومكحول مثل قول الزهري ، قال يحيى : على هذا أدركت الناس ، وقال ربيعة ، وأبو الزناد ، سواء علم سيده ماله أو جهله - وهو قول أبي سليمان . وقال مالك : مال العبد المعتق له ، وأما أولاده فلسيده ، وكذلك حمل أم ولده - ولو أنه بعد عتقه أراد عتق أم ولده لم يقدر لأن حملها رقيق . وقال : هي السنة التي لا اختلاف فيها ، أن العبد إذا أعتق يتبعه ماله ولم يتبعه ولده ، واحتج بأن العبد والمكاتب إذا فلسا أو جرحا أخذ مالهما وأمهات أولادهما ، ولم يؤخذ أولادهما ، وأن العبد إذا بيع واشترط المبتاع ماله كان له ، ولم يدخل ولده في الشرط .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ما رأينا حجة أفقر إلى حجة من هذه ، وإن العجب من هذه السنة التي لا يعرف لها راو من الناس ، لا من طريق صحيحة ولا سقيمة . والخلاف فيها أشهر من ذلك . كما ذكرنا عن عطاء ، والحسن ، بل إنما روي مثل قول مالك عن سليمان بن موسى ، وعمرو بن دينار ، والنخعي . وقد أجمعت الأمة ، ومالك معهم في جملتهم ، وهؤلاء : على أن ولد الأمة مملوك لسيد أمه إلا أن يكون ولد الرجل من أمته الصحيحة الملك ، فإنه حر ، والفاسدة الملك ، فإنه عند بعضهم حر ، وعلى أبيه قيمته أو فداؤه . ولا تخلو أم ولد العبد من أن تكون له ، فولدها له إما حر ، وإما مملوك فتعتق عليه بالملك ، أو لا تعتق ، وإما أن تكون لسيده فلا يحل لأحد وطء أمة غيره إلا بالزواج ، وإلا فهو زنا ، والولد غير لاحق إذا علم أنها أمة غيره ، ولا سبيل إلى ثالث ، وليس في الباطل ، والكلام المتناقض الذي يفسد بعضه بعضا أكثر من أن تكون أمة للعبد لا يحل للسيد وطؤها إلا أن ينتزعها ، ويكون ولدها لسيد أبيه مملوكا ، هذا عجب لا نظير له - ولا أصل له . فبطل هذا القول لظهور فساده . وأعجب منه منعه عتق أم ولده وهو حر وهي أمته من أجل جنينها ، وهم يجيزون عتق الجنين دون أمه وهما لواحد ، فما المانع من عتق أمه دونه وهما لاثنين . [ ص: 208 ] وقال الأوزاعي : كل ما أعطى المرء أم ولده في حياته فهو لها إذا مات لا يعد من الثلث ، ومن أعتق عبده وله مال فما كان بيد العبد مما اطلع عليه سيده فهو للعبد ، وما كان بيد العبد ولم يطلع عليه السيد فهو للسيد - وهذا تقسيم لا برهان على صحته فهو باطل .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : مال المعتق لسيده - وهو قول أبي حنيفة - وسفيان ، والشافعي ، قالوا كلهم : المكاتب ، والموصى بعتقه ، والمعتق ، والموهوب ، والمتصدق به ، وأم الولد يموت سيدها : فمالهم كلهم للمعتق ، أو لورثته . وقال الحسن بن حي : مال المعتق والمكاتب لسيدهما . وقال ابن شبرمة : مال المعتق - وأم الولد : للسيد ولورثته .

                                                                                                                                                                                          وقال أحمد ، وإسحاق : مال المعتق لسيده - وروي هذا القول عن الحكم بن عتيبة ، وصح عن قتادة . وروينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي خالد الأحمر عن عمران بن عمير عن أبيه : أنه كان عبدا لابن مسعود فأعتقه ، وقال : أما إن مالك لي ، ثم قال : هو لك . وصح نحوه عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك . فنظرنا فيما احتج به من قال : مال المعتق لسيده ، فوجدناهم يذكرون ما روينا من طريق قاسم بن أصبغ نا جعفر بن محمد نا محمد بن سابق نا سفيان الثوري عن عبد الأعلى بن أبي المساور حدثني { عمران بن عمير عن أبيه قال لي ابن مسعود : أريد أن أعتقك وأدع مالك فأخبرني بمالك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أعتق عبدا فماله للذي أعتقه } . ومن طريق العقيلي نا عبد الرحمن بن الفضل نا محمد بن إسماعيل نا إسحاق بن إبراهيم بن عمران المسعودي مولاهم سمع عمه يونس بن عمران عن القاسم بن عبد الرحمن قال : قال ابن مسعود " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { من أعتق مملوكا فليس للمملوك من ماله شيء } . [ ص: 209 ] هذان لا شيء ; لأن عبد الأعلى بن أبي المساور ضعيف جدا - والآخر منقطع ; لأن القاسم لا يحفظ أبوه عن ابن مسعود شيئا فكيف هو . وقالوا : قد صح أن العبد إذا بيع فماله للسيد ، إلا أن يشترطه المبتاع فعتقه كذلك ، وهذا قياس ، والقياس كله باطل . ثم لو صح القياس لكان هذا منه باطلا ، لأن البيع نقل ملك فلا يشبه العتق الذي هو إسقاط الملك جملة ، والقياس عند من قال به إنما هو على ما يشبهه لا على ما لا يشبهه . وقالوا : مال العبد للسيد قبل العتق فكذلك بعد العتق . فقلنا : هذا باطل ما هو له قبل العتق ، إلا أن ينتزعه ، وقد أوضحنا الحجة في أن العبد يملك ويكفي من ذلك قوله تعالى : في الإماء { فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن } فدخل في هذا الخطاب : الحر ، والعبد . وقوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } . فصح أن صداق الأمة لها بأمر الله تعالى يدفعه إليها . وصح أن العبد مأمور بإيتاء الصداق ، فلولا أنه يملك ما كلف ذلك ، ولا نكاح إلا بصداق ، إن لم يذكر في العقد فبعد العقد ، ووعدهم الله بالغنى فهم كسائر الناس - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          فإذ ماله له فهو بعد العتق كما كان قبل العتق . ثم وجدنا ما روينا من طريق أبي داود نا أحمد بن صالح نا ابن وهب نا الليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر عن بكير بن الأشج عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من أعتق عبدا وله مال فمال العبد له إلا أن يشترطه السيد } . فهذا إسناد في غاية الصحة لا يجوز الخروج عنه . فإن قيل : قد قيل : إن عبيد الله أخطأ فيه ؟ قلنا : إنما أخطأ من ادعى الخطأ على عبيد الله بلا برهان ولا دليل .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 210 ] والعجب من الحنفيين الذين لم يروا قول أصحاب الحديث " أخطأ ضمرة في حديثه عن سفيان : من ملك ذا رحم محرمة فهو حر " . وقالوا : لا يجوز أن يدعي الخطأ على الثقة بلا برهان ثم تعلقوا بقول أولئك أنفسهم هاهنا أخطأ عبيد الله ، وتعلق المالكيون بقولهم : أخطأ ضمرة ، ولم يلتفتوا إلى قولهم : أخطأ عبيد الله ، فهل في التلاعب بالدين أكثر من هذا العمل ؟ ونسأل الله العافية .

                                                                                                                                                                                          وأما الشافعيون : فردوا الخبرين معا ، وأخذوا في عدة مواضع بالخطأ الذي لا شك فيه - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية