الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
84 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت : دعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل السوء ، ولم يدركه . فقال : ( أو غير ذلك يا عائشة ) إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها ، وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلا ، خلقهم لها ، وهم في أصلاب آبائهم ) رواه مسلم .

التالي السابق


84 - ( وعن عائشة رضي الله عنها ) : هي أم المؤمنين بنت أبي بكر الصديق ، وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر ، خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتزوجها بمكة في شهر شوال سنة عشر من النبوة ، وقبل الهجرة بثلاث سنين ، وقيل غير ذلك ، وأعرس بها بالمدينة في شوال سنة اثنتين من الهجرة على رأس ثمانية عشر شهرا ، ولها تسع سنين ، وبقيت معه تسع سنين ، ومات عنها ولها ثماني عشرة سنة ، ولم يتزوج بكرا غيرها ، كانت فقيهة عالمة فصيحة فاضلة ، كثيرة الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، عارفة بأيام العرب ، وأشعارها ، روى عنها جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ، وماتت بالمدينة سنة سبع وخمسين ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان ، وأمرت أن تدفن ليلا فدفنت بالبقيع ، وصلى عليها أبو هريرة ، وكان يومئذ خليفة مروان على المدينة في أيام معاوية ، مروياتها ألف ومائتا حديث ، وعشرة أحاديث . ( قالت : دعي ) : مجهول ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : للصلاة ( إلى جنازة صبي ) : بفتح الجيم ، وتكسر ( من الأنصار فقلت : يا رسول الله طوبى لهذا ) : طوبى فعلى من طاب يطيب قلبت الياء واوا ، وكسرت الباء في بيض جمع أبيض إبقاء للأصل ، واختلفوا في معناه فقال ابن عباس في قوله تعالى : ( طوبى لهم ) معناه فرح ، وقرة عين لهم ، وقيل الحسن ، وقيل خير وكرامة لهم ، وقيل اسم الجنة بالحبشية ، وقيل اسمها بالهندية ، وقيل اسم شجر في الجنة ، وقيل معناه أصيب خيرا على الكناية ؛ لأن إصابة الخير مستلزمة لطيب العيش ؛ ولأنه يقال في حق المصيب طوبى لك فأطلق اللازم على الملزوم ، وقيل طوبى تأنيث أطيب أي : الراحة ، وطيب العيش حاصل لهذا الصبي ( هو عصفور ) أي : طير صغير ( من عصافير الجنة ) أي : هو مثلها من حيث إنه لا ذنب عليه ، وينزل في الجنة حيث يشاء . قال ابن الملك : شبهته بالعصفور كما هو صغير أما بالنسبة إلى ما هو أكبر منه من الطيور ، وأما لكونه - خاليا من الذنوب من عدم كونه مكلفا اهـ . والأظهر الثاني ، فهو تشبيه بليغ ، وما قيل من أن هذا ليس من باب التشبيه ؛ لأنه لا عصفور في الجنة ، فممنوع لما ورد في الحديث : ( إن في الجنة طيرا كأمثال البخت تأتي الرجل فيصيب منها ، ثم تذهب كأن لم ينقص منها شيء ) . وقد قال تعالى : ( ولحم طير مما يشتهون ) وأما ما ذكر ابن حجر من حديث : " إن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر " ، وخبر : نسمة المؤمن أي : روحه طائر تعلق في شجر الجنة فليس يصلح سندا للمنع كما لا يخفى . ( لم يعمل السوء ) : بضم السين ، ويجوز فتحه أي : الذنب . قال المظهر أي : لم يعمل ذنبا يتعلق بحقوق الله ، وأما حقوق العباد كإتلاف مال مسلم وقتل نفس فيؤخذ منه الغرم ، والدية ، وإذا سرق يؤخذ منه المال ، ولا تقطع يده ؛ لأنه من حقوق الله . قلت : لا تسمى هذه الأفعال منه ذنوبا فتأمل . ( ولم يدرك ) أي : ولم يلحقه السوء فيكون تأكيدا ، أو لم يدرك هو السوء أي : وقته لموته . قيل : التكليف فضلا عن عمله ، والتأسيس أولى [ ص: 156 ] ومع إفادة المبالغة أحرى ( فقال : أو غير ذلك ) : بفتح الواو ، وضم الراء ، وكسر الكاف هو الصحيح المشهور من الروايات ، والتقدير : أتعتقدين ما قلت ، والحق غير ذلك ، وهو عدم الجزم بكونه من أهل الجنة ، فالواو للحال . وفي الفائق : الهمزة للاستفهام أي : الإنكاري ، والواو عاطفة على محذوف ، وغير مرفوع بضمير تقديره ، أو وقع هذا ، ويحتمل غير ذلك . قيل : وروي أو بسكون الواو التي لأحد الأمرين أي : الواقع هذا ، أو غير ذلك . وقيل التقدير ، أو هو غير ذلك . وروي بنصب ( غير ) أي : أو يكون غير ذلك ، أو التقدير ، أو غير ما قلت . وقيل : يجوز أن يكون ( أو ) . بمعنى ( بل ، كقوله تعالى : ( مائة ألف أو يزيدون ) أي : بل غير ذلك محتمل ، أو يحتمل غير ذلك ، وكأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يرتض قولها لما فيه من الحكم بالجزم بتعيين إيمان أبوي الصبي ، أو أحدهما إذ هو تبع لهما ، ومرجع معنى الاستفهام إلى هذا ؛ لأنه للإنكار للجزم ، وتقرير لعدم التعيين . قلت : وفيه دلالة على أن أولاد الكفار ليسوا من أهل الجنة ، بل إنهم من أهل النار كما يدل عليه قوله : ( يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا ) : يدخلونها ، ويتنعمون بها ( خلقهم ) : كرره لإناطة أمر زائد به ، وهو قوله ( وهم في أصلاب آبائهم ) : والجملة حال اهتماما ، قيل : ويحتمل أن يراد به خلق الذر في ظهر آدم ، واستخرجها ذرية من صلب كل واحد إلى انقراض العالم ، وقيل : عين في الأزل من سيكون من أهل الجنة ، ومن سيكون من أهل النار ، فعبر عن الأزل بأصلاب الآباء تقريبا لأفهام العامة ( وخلق للنار أهلا ) : فيه إيماء إلى أنه لا اعتراض فإنهم أهل لها أهلية لا يعلمها إلا خالقها ( خلقهم لها ، وهم في أصلاب آبائهم ) : وإنما يظهر منهم من الأعمال ما قدر في الأزل . قال القاضي : في حديث عائشة رضي الله عنها إشارة إلى أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال ، وإلا لكان ذراري المسلمين ، والكافرين لا من أهل الجنة ، ولا من أهل النار ، بل الموجب هو اللطف الرباني ، والخذلان الإلهي المقدر لهم ، وهم في الأصلاب ، فالواجب التوقف ، وعدم الجزم . وقال النووي : أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين ، فهو من أهل الجنة ، وتوقف في ذلك بعض لهذا الحديث ، وأجابوا عنه بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع ، ويحتمل أنه - عليه الصلاة والسلام - قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة . اهـ .

والأصح ما تقدم من أنه لم يرتض هذا القول منها لما فيه من الحكم بالغيب ، والجزم بإيمان أصل الولد ؛ لأنها أشارت إلى طفل معين ، فالحكم على شخص معين بأنه من أهل الجنة لا يجوز من غير ورود النص ؛ لأنه من علم الغيب ، وقد يقال التبعية في الدنيا من الإيمان والكفر ، وحكمها من أمور الآخرة ففيه إرشاد للأمة إلى التوقف في الأمور المبهمة ، والسكوت عما لا علم لهم به ، وحسن الأدب بين يدي علام الغيوب . قال ابن حجر : ولعل هذا كان قبل ما نزل عليه في ولدان المؤمنين والكفار إذ هم في الجنة إجماعا في الأول ، وعلى الأصح في الثاني . ( رواه مسلم ) .




الخدمات العلمية