الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف أنه بريء من الإسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال وإن كان صادقا فلن يرجع إلى الإسلام سالما رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والحاكم ، وقال صحيح على شرط الشيخين .

                                                            التالي السابق


                                                            الحديث الثامن وعن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف أنه بريء من الإسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال ، وإن كان صادقا فلن يرجع إلى الإسلام سالما رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه والحاكم ، وقال صحيح على شرط الشيخين .

                                                            (فيه) فوائد (الأولى) أخرجه أبو داود في رواية ابن داسة عنه من هذا الوجه عن أحمد بن حنبل عن زيد بن الحباب ، والنسائي ، وابن ماجه من طريق الفضل بن موسى ، والحاكم في مستدركه من طريق علي بن الحسن بن شقيق ثلاثتهم عن الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بلفظ من قال إني بريء من الإسلام ، ولفظ ابن ماجه لم يعد إليه الإسلام سالما ، وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين .

                                                            (الثانية) قوله من حلف أنه بريء من الإسلام أي علق براءته من الإسلام على أمر كأن قال إن فعل يعني نفسه كذا فهو بريء من الإسلام أو يهودي أو نصراني أو كافر ، وقوله في رواية أصحاب السنن من قال إني بريء من الإسلام أي علق على أمر كما دلت عليه رواية المصنف ، وقد دل على هذا تقسيم حاله إلى كاذب وصادق ، ولا يتأتى ذلك إلا مع التعليق ، والعجب أن أبا داود رواه عن [ ص: 167 ] أحمد بغير اللفظ الذي حكيناه من المسند .

                                                            وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمد الحلف بالشيء حقيقة هو القسم به ، وإدخال بعض حروف القسم عليه كقوله : والله ، والرحمن ، وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين كما تقول الفقهاء إذا حلف بالطلاق على كذا ، ومرادهم تعليق الطلاق به ، وهذا مجاز ، وكأن سببه مشابهة هذا التعليق باليمين في اقتضاء الحث أو المنع ثم جوز الوجهين في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ثابت بن الضحاك من حلف بملة غير الإسلام ، وقال إن الثاني أقرب ، وأما لفظ الحديث الذي نحن في شرحه فإنه يتعين فيه الثاني كما قررته ، والله أعلم .

                                                            (الثالثة) قوله فإن كان كاذبا فهو كما قال أي أخبر بأمر ماض ، وعلق براءته من الإسلام على كذبه في ذلك الإخبار ، وكان كاذبا فهو كما قال أي من البراءة من الإسلام ، وهو صريح في أن هذا الكلام كفر ، وهو ظاهر المعنى كما لو علق طلاق زوجته أو عتق عبده على دخول الدار في الماضي وكان قد دخل ، نعم لو بنى إخباره بذلك على ظنه أنه كذلك فينبغي أن لا يكفر لأنه ربط الكفر بأمر يظن أنه غير حاصل فلا خلل في اعتقاده ، ولا في لفظه باعتبار ظنه ، ولم يتناول الحديث هذه الصورة عند من يشترط التعمد في حقيقة الكذب .

                                                            وأما عند من لا يشترطه فهو عام مخصوص ، ويدل لذلك قوله في حديث ثابت بن الضحاك من حلف بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال ، وهو في الصحيحين بهذا اللفظ ، والله أعلم .

                                                            (الرابعة) قوله (وإن كان صادقا فلا يرجع إلى الإسلام سالما) معناه أنه نقص كمال إسلامه بما صدر منه من هذا اللفظ ، وقد تقدم أن لفظ ابن ماجه لم يعد إليه الإسلام سالما ، واللفظان صحيحان فنقص هو يتعاطى هذا اللفظ ، ونقص إسلامه بذلك ، وهذا يدل على تحريم هذا اللفظ ، ولو كان صادقا في كلامه ، وقد استدل به على ذلك الخطابي فقال فيه دليل على أن من حلف بالبراءة من الإسلام فإنه يأثم ، وصرح أيضا بتحريم ذلك ووجوب التوبة منه الماوردي في الحاوي والنووي في الأذكار ، وقال في شرح مسلم فيه بيان غلظ تحريم الحلف بملة سوى الإسلام كقوله هو يهودي أو نصراني إن كان كذا أو واللات والعزى ، وشبه ذلك ثم قال : وقوله كاذبا ليس المراد به التقييد [ ص: 168 ] والاحتراز من الحلف بها صادقا لأنه لا ينفك الحالف بها عن كونه كاذبا ، وذلك لأنه لا بد أن يكون معظما لما حلف به فإن كان معتقدا عظمته بقلبه فهو كاذب في ذلك ، وإن كان غير معتقد ذلك بقلبه فهو كاذب في الصورة لأنه عظمه بالحلف به ، وإذا علم أنه لا ينفك عن كونه كاذبا حمل التقييد بكونه كاذبا على أنه بيان لصورة الحال ، ويكون التقييد خرج على سبب فلا يكون له مفهوم ، ويكون من باب قوله تعالى ويقتلون الأنبياء بغير حق ونظائره فإن كان الحالف معظما لما حلف به كان كافرا ، وإن لم يكن معظما بل كان قلبه مطمئنا بالإيمان فهو كاذب في حلفه بما لا يحلف به ، ومعاملته إياه معاملة ما يحلف به ، ولا يكون كافرا خارجا عن ملة الإسلام ، ويجوز أن يطلق عليه اسم الكفر ، ويراد كفر النعمة انتهى والتقسيم الذي في حديث بريدة يرد عليه ، والظاهر أن كلامه هذا إنما هو مثل قوله واللات والعزى ، وإن كان ذكر في صدر كلامه أيضا قوله هو يهودي إن كان كذا .

                                                            (الخامسة) تقسيمه إلى صادق وكاذب يدل على أن في ذلك الإخبار عن ماض كما تقدم فإن الخبر هو المحتمل للصدق والكذب أما إذا وقع منه مثل هذا التعليق على وقوع أمر في المستقبل فقد يقال يلحق بالماضي ، ويقال إن فعل ذلك المحلوف عليه كفر ، وإلا فلا ، وقد يقال إن لفظ الحديث أولا متناول له إلا أنه لما فصل اقتصر على أحد القسمين ، ويعرف منه حكم القسم الآخر ، وقد يقال إذا كان عن ماض فقد حقق الكفر على نفسه .

                                                            وأما إذا كان على مستقبل فقد يقع ذلك الأمر ، وقد لا يقع ، والغالب من حال الآتي بهذا اللفظ أنه إنما يقصد به إبعاد نفسه عن ذلك الأمر بربطه بأمر لا يقع منه ، وهذا أقرب ، ويوافقه كلام الرافعي حيث قال إن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الإسلام وإبعاد النفس عن التهود ثم قال هذا إذا قصد القائل تبعيد النفس عن ذلك فأما من قال ذلك على قصد الرضى بالتهود ، وما في معناه إذا فعل ذلك الفعل فهو كافر في الحال ، وسكت الرافعي عن حالة الإطلاق ، وهو أن لا يقصد تبعيد النفس عن التهود ولا الرضى به أو لم يعلم قصده بموته سريعا أو تعذر مراجعته ، وقال في ذلك شيخنا الإمام جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي إن [ ص: 169 ] القياس التكفير إذا عري عن القرائن الحاملة على غيره لأن اللفظ بوضعه يقتضيه قال : وكلام النووي في الأذكار يقتضي أنه لا يكفر بذلك ، والقياس خلافه انتهى .

                                                            وما ذكره الرافعي من أن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الإسلام وإبعاد النفس عن التهود يقتضي أنه لا يحرم الإتيان به لكن تقدم عن الخطابي إطلاق الإثم ، ولم يفصل بين الحلف على الماضي والمستقبل ، وصرح بذلك النووي في الأذكار فقال يحرم أن يقول إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو نحو ذلك فإن قاله ، وأراد حقيقة فعله وخروجه عن الإسلام بذلك صار كافرا في الحال ، وجرت عليه أحكام المرتدين ، وإن لم يرد ذلك لم يكفر لكنه ارتكب محرما فيجب عليه التوبة قال ابن الرفعة في المطلب إنه معصية .

                                                            (السادسة) استدل به الخطابي على أنه لا كفارة على قائل هذا اللفظ مطلقا قال لأنه جعل عقوبته في دينه ، ولم يجعل في ماله شيئا ، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو عبيد ، وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أن ذلك يمين تجب فيه الكفارة إذا حنث فيه ، وحكاه الخطابي عن إبراهيم النخعي ، وأصحاب الرأي والأوزاعي وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه ، وحكى الشيخ تقي الدين عن الحنفية أن إيجابهم الكفارة إنما هو إذا تعلق بمستقبل فإن تعلق بماض فاختلفوا فيه .




                                                            الخدمات العلمية