الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 8 ] فصل

في أن نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - معجزتها القرآن

الذي يوجب الاهتمام التام بمعرفة إعجاز القرآن ، أن نبوة نبينا - عليه السلام - بنيت على هذه المعجزة ، وإن كان قد أيد بعد ذلك بمعجزات كثيرة . إلا أن تلك المعجزات قامت في أوقات خاصة ، وأحوال خاصة ، وعلى أشخاص خاصة . ونقل بعضها نقلا متواترا يقع به العلم وجودا . وبعضها مما نقل نقلا خاصا ، إلا أنه حكي بمشهد من الجمع العظيم وأنهم شاهدوه ، فلو كان الأمر على خلاف ما حكي لأنكروه ، أو لأنكره بعضهم ، فحل محل المعنى الأول ، وإن لم يتواتر أصل النقل فيه . وبعضها مما نقل من جهة الآحاد ، وكان وقوعه بين يدي الآحاد .

فأما دلالة القرآن فهي عن معجزة عامة ، عمت الثقلين ، وبقيت بقاء العصرين . ولزوم الحجة بها في أول وقت ورودها إلى يوم القيامة على حد واحد ، وإن كان قد يعلم بعجز أهل العصر الأول عن الإتيان بمثله - وجه دلالته ، فيغني ذلك عن نظر مجدد في عجز أهل هذا العصر عن الإتيان بمثله . وكذلك قد يغني عجز أهل هذا العصر عن الإتيان بمثله ، عن النظر في حال أهل العصر الأول .

وإنما ذكرنا هذا الفصل ، لما حكي عن " بعضهم " أنه زعم أنه وإن كان قد عجز عنه أهل العصر الأول فليس أهل هذا العصر بعاجزين عنه ، ويكفي عجز أهل العصر الأول في الدلالة ، لأنهم خصوا بالتحدي دون غيرهم .

[ ص: 9 ] ونحن نبين خطأ هذا القول في موضعه ، إن شاء الله .

فأما الذي يبين ما ذكرناه من أن الله تعالى حين ابتعثه جعل معجزته القرآن ، وبنى أمر نبوته عليه - فسور كثيرة وآيات نذكر بعضها ، وننبه بالمذكور على غيره ، فليس يخفى بعد التنبيه على طريقه .

فمن ذلك قوله تعالى : الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد فأخبر أنه أنزله ليقع الاهتداء به ، ولا يكون كذلك إلا وهو حجة ، ولا يكون حجة إن لم يكن معجزة .

وقال - عز وجل - : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله فلولا أن سماعه إياه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه . ولا يكون حجة إلا وهو معجزة .

وقال - عز وجل - : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين . وهذا بين جدا فيما قلناه ، من أنه جعله سببا لكونه منذرا . ثم أوضح ذلك بأن قال : بلسان عربي مبين . فلولا أن كونه بهذا اللسان حجة ، لم يعقب كلامه الأول به .

وما من سورة افتتحت بذكر الحروف المقطعة إلا وقد أشبع فيها بيان ما قلناه . ونحن نذكر بعضها لتستدل بذلك على ما بعده .

وكثير من هذه السور إذا تأملته فهو من أوله إلى آخره مبني على لزوم حجة القرآن ، والتنبيه على وجه معجزته .

فمن ذلك سورة المؤمن . قوله - عز وجل - : حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم . ثم وصف نفسه بما هو أهله من قوله تعالى : غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في [ ص: 10 ] البلاد فدل على أن الجدال في تنزيله كفر وإلحاد .

ثم أخبر بما وقع من تكذيب الأمم برسلهم ، بقوله - عز وجل - : كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فتوعدهم بأنه آخذهم في الدنيا بذنبهم في تكذيب الأنبياء .

ورد براهينهم فقال تعالى : فأخذتهم فكيف كان عقاب .

ثم توعدهم بالنار ، فقال تعالى : وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار .

ثم عظم شأن المؤمنين بهذه الحجة ، بما أخبر من استغفار الملائكة لهم ، وما وعدهم عليه من المغفرة ، فقال تعالى : الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم . فلولا أنه برهان قاهر لم يذم الكفار على العدول عنه ، ولم يحمد المؤمنين على المصير إليه .

ثم ذكر تمام الآيات في دعاء الملائكة للمؤمنين ، ثم عطف على وعيد الكافرين ، فذكر آيات ، ثم قال : هو الذي يريكم آياته . فأمر بالنظر في آياته وبراهينه ، إلى أن قال : رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق فجعل القرآن والوحي به كالروح ؛ لأنه يؤدي إلى حياة الأبد ، ولأنه لا فائدة للجسد من دون الروح . فجعل هذا الروح سببا للإنذار ، وعلما عليه ، وطريقا إليه . ولولا أن ذلك برهان بنفسه لم يصح أن يقع به الإنذار والإخبار عما يقع عند مخالفته ، ولم يكن الخبر عن الواقع في الآخرة عند ردهم دلالته من الوعيد - حجة ولا معلوما صدقه ، فكان لا يلزمهم قبوله .

فلما خلص من الآيات في ذكر الوعيد على ترك القبول ، ضرب لهم [ ص: 11 ] المثل بمن خالف الآيات ، وجحد الدلالات والمعجزات ، فقال : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق .

ثم بين أن عاقبتهم صارت إلى السوأى ، بأن رسلهم كانت تأتيهم بالبينات ، وكانوا لا يقبلونها منهم . فعلم أن ما قدم ذكره في السورة بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

ثم ذكر قصة موسى ويوسف - عليهما السلام - ، ومجيئهما بالبينات ، ومخالفتهم حكمها ، إلى أن قال تعالى : الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار . فأخبر أن جدالهم في هذه الآيات لا يقع بحجة ، وإنما يقع عن جهل ، وأن الله يطبع على قلوبهم ، ويصرفهم عن تفهم وجه البرهان . لجحودهم وعنادهم واستكبارهم .

ثم ذكر كثيرا من الاحتجاج على التوحيد ، ثم قال تعالى : ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون .

ثم بين هذه الجملة ، وإن من آياته الكتاب ، فقال : الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون . إلى أن قال : وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله .

فدل على أن الآيات على ضربين : أحدهما كالمعجزات التي هي أدلة في دار التكليف ، والثاني الآيات التي ينقطع عندها العذر ، ويقع عندها العلم الضروري ، وأنها إذا جاءت ارتفع التكليف ، ووجب الإهلاك . إلى أن قال تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا . فأعلمنا أنه قادر على هذه الآيات ، ولكنه إذا أقامها زال التكليف ، وحقت العقوبة على الجاحدين .

[ ص: 12 ] وكذلك ذكر في " حم " السجدة على هذا المنهاج الذي شرحنا ، فقال - عز وجل - : حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فلولا أنه جعله برهانا لم يكن بشيرا ولا نذيرا ، ولم يختلف بأن يكون عربيا مفصلا أو بخلاف ذلك .

ثم أخبر عن جحودهم وقلة قبولهم ، بقوله تعالى : فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . ولولا أنه حجة لم يضرهم الإعراض عنه .

وليس لقائل أن يقول : قد يكون حجة ولكن يحتاج في كونه حجة إلى دلالة أخرى ، كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حجة ، ولكنه يحتاج إلى دلالة على صدقه ، وصحة نبوته .

وذلك : أنه إنما احتج عليهم بنفس هذا التنزيل ، ولم يذكر حجة غيره .

ويبين ذلك : أنه قال عقيب هذا : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي . فأخبر أنه مثلهم لولا الوحي .

ثم عطف عليه بحمد المؤمنين به المصدقين له ، فقال : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون . ومعناه : الذين آمنوا بهذا الوحي والتنزيل ، وعرفوا هذه الحجة .

ثم تصرف في الاحتجاج على الوحدانية والقدرة ، إلى أن قال : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود . فتوعدهم بما أصاب من قبلهم من المكذبين بآيات الله من قوم عاد وثمود في الدنيا . ثم توعدهم بأمر الآخرة ، فقال : ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون ، إلى انتهاء ما ذكره فيه .

ثم رجع إلى ذكر القرآن ، فقال : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون .

[ ص: 13 ] ثم أثنى بعد ذلك على من تلقاه بالقبول ، فقال : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا . ثم قال : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم .

وهذا ينبه على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرف إعجاز القرآن ، وأنه دلالة له على جهة الاستدلال ، لأن الضروريات لا يقع فيها نزغ الشيطان . ونحن نبين ما يتعلق بهذا الفصل في موضعه .

ثم قال : إن الذين يلحدون في آياتنا ، إلى أن قال : إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وهذا وإن كان متأولا على أنه لا يوجد فيه غير الحق مما يتضمنه من أقاصيص الأولين وأخبار المرسلين ، وكذلك لا يوجد خلف فيما يتضمنه من الأخبار عن الغيوب وعن الحوادث التي أنبأ أنها تقع في الآتي - فلا يخرج عن أن يكون متأولا على ما يقتضيه نظام الخطاب ، من أنه لا يأتيه ما يبطله من شبهة سابقة تقدح في معجزته أو تعارضه في طريقه . وكذلك لا يأتيه من بعده قط أمر يشكك في وجه دلالته وإعجازه . وهذا أشبه بسياق الكلام ونظامه .

ثم قال : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي فأخبر أنه لو كان أعجميا لكانوا يحتجون في رده : إما بأن ذلك خارج عن عرف خطابهم ، أو كانوا يعتذرون بذهابهم عن معرفة معناه ، وبأنهم لا يبين لهم وجه الإعجاز فيه . لأنه ليس من شأنهم ولا من لسانهم ، أو بغير ذلك من الأمور ، وأنه إذا تحداهم إلى ما هو من لسانهم وشأنهم فعجزوا عنه - وجبت الحجة عليهم به ، على ما نبينه في وجه هذا الفصل . إلى أن قال : قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد .

[ ص: 14 ] والذي ذكرناه من نظم هاتين السورتين ينبه على غيرهما من السور ، فكرهنا سرد القول فيها . فليتأمل المتأمل ما دللناه عليه يجده كذلك .

ثم مما يدل على هذا قوله - عز وجل - : وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم فأخبر أن الكتاب آية من آياته ، وعلم من أعلامه ، وأن ذلك يكفي في الدلالة ، ويقوم مقام معجزات غيره وآيات سواه من الأنبياء ، صلوات الله عليهم .

ويدل عليه قوله - عز وجل - : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض .

ويدل عليه قوله : أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته .

فدل على أنه جعل قلبه مستودعا لوحيه ، ومستنزلا لكتابه ، وأنه لو شاء صرف ذلك عنه إلى غيره . وكان له حكم دلالته على تحقيق الحق ، وإبطال الباطل مع صرفه عنه . ولذلك أشباه كثيرة تدل على نحو الدلالة التي وصفناها .

فبان بهذا وبنظائره ما قلناه ، من أن بناء نبوته - صلى الله عليه وسلم - على دلالة القرآن ومعجزته ، وصار له من الحكم في دلالته على نفسه وصدقه أنه يمكن أن يعلم أنه كلام الله تعالى ، وفارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء ؛ لأنها لا تدل على أنفسها إلا بأمر زائد عليها ، ووصف منضاف إليها ؛ لأن نظمها ليس معجزا ، وإن كان ما تتضمنه من الإخبار عن الغيوب معجزا .

وليس كذلك القرآن ؛ لأنه يشاركها في هذه الدلالة ، ويزيد عليها [ ص: 15 ] في أن نظمه معجز ، فيمكن أن يستدل به عليه ، وحل في هذا من وجه محل سماع الكلام من القديم - سبحانه وتعالى - ؛ لأن موسى - عليه السلام - لما سمع كلامه علم أنه في الحقيقة كلامه .

وكذلك من يسمع القرآن يعلم أنه كلام الله ، وإن اختلف الحال في ذلك من بعض الوجوه ؛ لأن موسى - عليه السلام - سمعه من الله - عز وجل - ، وأسمعه نفسه متكلما ، وليس كذلك الواحد منا . وكذلك قد يختلفان في غير هذا الوجه ، وليس ذلك قصدنا بالكلام في هذا الفصل .

والذي نرومه الآن ما بيناه من اتفاقهما في المعنى الذي وصفناه ، وهو : أنه - عليه السلام - يعلم أن ما يسمعه كلام الله من جهة الاستدلال ، وكذلك نحن نعلم ما نقرؤه من هذا على جهة الاستدلال .

التالي السابق


الخدمات العلمية