الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الرابع: المحمود؛ وقد سبق اشتراط كونه فاعلا مختارا؛ أو في حكمه؛ ثم إن المحققين التفتازاني؛ والجرجاني؛ والمفسرين الأفضلين؛ الزمخشري؛ والقاضي؛ صرحوا في عدة مواضع بأن الحد مختص به (تعالى)؛ منحصر فيه؛ وعليه إشكال قضوا له بالصعوبة؛ لأن أفعال العباد كما ترجع إلى الله من [ ص: 8 ] جهة الخلق والاقتدار؛ وتهيئة الأسباب والتوفيق؛ ترجع إلى العبد من جهة المباشرة؛ بعد الإرادة؛ وهذه الجهة وإن رجعت إلى الله؛ لأنه المحصل للأسباب؛ الدافع للمواقع؛ ترجع للعبد قطعا؛ لخلق الجميل فيه؛ وتمكنه من مباشرته؛ فيحمد باعتبارها؛ فرجوعه إلى الله لا يقتضي الحصر؛ والناس فيه فريقان؛ فريق تجرؤوا على أولئك المحققين؛ وحكموا على كلامهم بالتوهين؛ ومنهم المولى ابن الكمال؛ فرماهم بالوهم في هذا المجال؛ حيث قال: لا اختصاص بالحمد بالله؛ كما يفصح عنه قول عائشة - رضي الله (تعالى) عنها -: " نحمد الله؛ لا نحمدك" ؛ وقول علي - رضي الله (تعالى) عنه -:


لا تحمدن امرأ حتى تجربه ... .................



بل اختصاصه بذي علم؛ وشعور؛ كما يرشد إليه قولهم في المثل السائر: " عند الصباح يحمد القوم السرى" ؛ قال: ومن هنا تبين أن المحمود عليه لا يلزم كونه فعلا لمن حمد به؛ فضلا عن كونه مختارا فيه؛ كما توهم؛ وأن من وهم قيام الفرق بين الحمد؛ والمدح؛ لصحة تعلق الثاني بالجماد دون الأول؛ فقد وهم؛ واتضح به أنه لا مدخل لمسألة خلق العباد لأفعالهم هنا؛ لأن الكلام في الحمد اللغوي؛ ومرجعه إلى من وثق بعربيتهم بالنقل الصحيح؛ والاستعمال الصريح؛ وقد صح عنهم عدم الاختصاص؛ وأما حمل التعريف على الجنس دون الاستغراق؛ فمنشؤه أمر وراء ذلك؛ وهو أن مقتضى مقام الخطاب تخصيص حقيقة الحمد به (تعالى)؛ تنزيلا لأفراد الحمد الثابتة لغيره منزلة العدم؛ والقصد إلى هذا المعنى ظاهر عند كون التعريف للجنس؛ لا للاستغراق؛ إذ قد يكون جزئيا؛ كـ " جمع الأمير الصاغة" ؛ فلا يوجب استيعاب جميع الأفراد؛ إلى هنا كلامه؛ وفريق سلكوا سبيل الأدب مع أولئك العظماء؛ وسيد هذا الفريق سيد المحققين الدواني؛ فنزل الحصر على الحقيقة؛ لأن الحمد يختص بالفعل الاختياري؛ ولا اختيار لغيره - تقدس - على قاعدة أهل الحق؛ والعبد مضطر في صورة مختار؛ انتهى.

والحاصل أنهم نزلوا حمد غير الله منزلة العدم؛ أو منزلة حمده الله (تعالى)؛ لأنه مبدأ كل جميل؛ فحمد غيره كالعارية؛ لأن الكل منه؛ وإليه؛ خلقا؛ وتمكينا؛ وتيسيرا؛ وليس لغيره غير مجرد مظهرية لما بين يديه؛ وكل جمال وكمال مضمحل في جماله وكماله؛ وراجع إليه؛ وكل اختيار لغيره يعود إلى اضطرار.

الخامس؛ وهو ذكر ما يدل على اتصاف المحمود بالمحمودية؛ وقد اشتهر تقييده باللسان؛ والمراد منه أن يكون بجارحة النطق؛ فلما كان الواقع كون آلة التكلم هي تلك الجارحة؛ خص بها؛ فلو فقد لسان إنسان فأثنى بحروفه الشفوية على جميل؛ أو خلق النطق في بعض جوارحه؛ كما ذكر بعض الثقات أنه شاهده؛ فأثنى به؛ فهو حمد؛ وقضية التقييد به أيضا ألا يكون الصادر عن المنزه عن الجارحة حمدا؛ وقد قال (تعالى): وإن من شيء إلا يسبح بحمده ؛ فذهب الأكثر إلى أنه إخبار باستحقاق الحمد؛ أو أمر بالحمد؛ أو منقول على ألسنة العباد؛ أو مجاز عن إظهار الصفات الكمالية؛ الذي هو الغاية المطلوبة من الحمد؛ وميل السيد إلى الأخير؛ لكن النحرير الدواني قال: كون الحمد في حقه - سبحانه - مجازا؛ بعيد عن قاعدة أهل الحق من إثبات الكلام له حقيقة؛ والقول مساوق للكلام؛ قال: فالأظهر أن الحصر في اللسان إضافي في مقابلة الجنان والأركان؛ والمراد الفعل الذي مصدره اللسان غالبا؛ أو هو قيد أغلبي؛ يسوغ الاستعمال فيه؛ وتوضيحه أن اللفظ قد يكون موضوعا في أصل اللغة لأمر عام؛ اشتهر في بعض أفراده بخصوصه؛ بحيث يصير حقيقة عرفية في ذلك الفرد؛ وسبب الاشتهار إما كثرة تداول ذلك اللفظ؛ كما في لفظ " الدابة" ؛ فإنه موضوع في الأصل لما يدب على الأرض؛ ثم اشتهر به في العرف العام في بعض أفراده؛ حتى صار حقيقة عرفية فيه؛ وإما عدم الاطلاع على فرد آخر؛ فيستعمله أهل اللسان في ذلك الفرد؛ حتى إذا استمر ذلك؛ ولم يطلعوا على إطلاقه على فرد آخر؛ ظنوا أنه موضوع لخصوصه؛ كما في الميزان؛ فإنه في الأصل موضوع لآلة الوزن؛ ثم من لم يطلع على تلك الآلة إلا على ما له لسان وعمود؛ ربما يجزم بأنه موضوع لهذا؛ حتى أن من لم ير موازين المياه وغيرها من موازين الحكمة؛ ربما يظن أنها ليست ميزانا؛ وكما أن من لم يشاهد من الخبز إلا ما هو من الحنطة؛ لا ينساق ذهنه عند سماع لفظ الخبز إلا إليه؛ وربما لم يصدق بأن غيره من أفراد الخبز حقيقة؛ ومثل ذلك يجري في كثير من الألفاظ؛ ثم الأمر في المشتقات لا يكاد يخفى على من له أدنى فطنة؛ لظهوره بالرجوع إلى قاعدة الاشتقاق؛ أما في غيره فربما يشتبه على الجماهير؛ وبذلك يفوت كثير من حقائق الكتاب والسنة؛ فإن أكثرهما وارد على أصل اللغة؛ إذا تمهد ذلك؛ فقس عليه " الحمد" ؛ فإن حقيقته عندهم إظهار صفات الكمال؛ ولما كان الإظهار القولي أظهر أفرادا؛ وأشهرها عند العامة؛ شاع استعمال لفظ " الحمد" ؛ فيه؛ حتى صار كأنه حقيقة فيه؛ مجاز في غيره؛ مع أنه بحسب [ ص: 9 ] أصل الواقع أعم؛ بل الإظهار الفعلي أقوى؛ وأتم؛ فهو بهذا الاسم أليق وأولى؛ كما هو شأن القول بالتشكيك؛ انتهى.

وشمل التعريف حمد الملائكة لنطق النصوص؛ بنطقهم باللسان؛ وتشكلهم كالإنسان؛ وأخرج حمد الطير والبهيمة والنائم؛ لفقد القصد المعتبر؛ ثم إنه قد عرف بما قد سلف أن " الحمد لله" ؛ و" أحمد الله" ؛ حمد؛ لدلالته على الاتصاف بالكمال؛ وبه جزم الشريف؛ وأورد الدواني: إنا لا نسلم دلالة " نصفك" ؛ على الإنصاف؛ لصدقه مع كذب الاتصاف؛ فلا يكون وصفا بالجميل؛ بخلاف " أنت متصف" ؛ ثم أجاب بأن التعظيم الباطني المشترك يدل على اعتقاد كمال ما بدأ به؛ وهو يدل عرفا على معنى " أنت متصف" ؛ إذ الإنسان لا يكذب نفسه؛ وبأن العبارة تطلق عرفا بمعنى: " أنت متصف" ؛ وبأن " نحمد" ؛ دال على صدور القول؛ والقول دال على الاتصاف؛ فهو دال على الإنصاف؛ انتهى.

قال الصفوي: وما ذكره من أن الشخص لا يكذب نفسه إنما يجيء في نحو " حمدت" ؛ و" أحمد" ؛ لا " أنت محمود" ؛ أو " لك الحمد" ؛ ونحوه؛ مما لم يتضمن دعوى اعتقاد المتكلم.

ثم إن الإشكال من أصله إنما يتجه إذا لم يلاحظ معنى اللامين؛ فإن لوحظ اختصاص الجنس؛ أو الأفراد؛ أو الفرد الكامل؛ أو الأكمل؛ فدلالته على الكمال التام في كمال التمام؛ وقد أتينا على بيان أركان الحمد الخمسة على جهة الاقتصار؛ والاختصار؛ ولم يبق إلا التتميم بإيراد ما اشتهر من أن الجملة خبرية؛ أو إنشائية؛ وجوزهما الشريف؛ فقال: إخبار؛ كما هو أصله؛ أو إنشاء؛ وذلك لأن الخبر بثبوت الحمد يستلزم الوصف بالجميل؛ فإذا تحقق باقي الأركان فهو حمد؛ وكلامه مشير إلى ترجيح مطلق الخبرية بالأصالة؛ وجرى عليه جمع؛ منهم المولى حسن الرومي ؛ حيث قال - ما محصوله -: وإنما ترجح الإخبار بالأصالة؛ مع أن قصد القائل إحداث الحمد؛ لأن الإخبار بثبوت جميع المحامد لله هو عين الحمد؛ كما أن قولك: " الله واحد" ؛ عين التوحيد؛ انتهى.

وقد ألف العلامة البخاري في الانتصار لكونها خبرية مطلقا مؤلفا حافلا؛ ووهم من زعم أنها إنشائية؛ فقال: الحق الذي لا محيد عنه أنها خبرية مطلقا؛ وما يسبق إلى بعض الأوهام من أنها إنشائية فعلى نقيض ما تقتضيه صناعة العربية؛ وخلاف ما عليه أساطين الفنون الأدبية؛ واستظهر على ذلك بأمور يطول ذكرها؛ ورده الكمال بن الهمام؛ فقال: بالغ بعضهم في إنكار كون الحمد لله إنشاء؛ لما يلزم عليه من انتفاء الاتصاف بالجميل؛ قبل حمد الحامد؛ ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود؛ قال: ويبطل من قضيتين؛ إحداهما أن الحمد ثابت قطعا قبل الحامد؛ والأخرى أنه لا يصاغ لغة للمخبر عن غيره من متعلق إخباره اسم قطعا؛ فلا يقال لقائل: " زيد له القيام" : قائم؛ فلو كان الحمد إخبارا محضا؛ لم يكن القائل: " الحمد لله" ؛ حامدا؛ فهما باطلان؛ فبطل ملزومهما؛ واللازم من المقارنة - أي: مقارنة معنى الإنشاء للفظه - انتفاء وصف الواصف المعين؛ لا الاتصاف؛ وهذا لأن الحمد إظهار الصفات؛ لا ثبوتها؛ نعم؛ يتراءى لزوم كون كل مخبر منشئا؛ حيث كان واصفا للواقع؛ ومظهرا له؛ وهو توهم؛ فإن الحامد مأخوذ فيه مع ذكر الواقع كونه على وجه ابتداء التعظيم؛ وهذا ليس جزء ماهية الخبر؛ فاختلفت الحقيقتان؛ إلى هنا كلامه؛ والقول بأن جملة الحمد من صيغ الإنشاء شرعا؛ أو مشتركة بين الإخبار والإنشاء؛ كصيغ العقود؛ زيفه المولى حسن؛ بأن تلك إخبارات لغوية؛ نقلها الشرع إلى الإنشاء؛ لمصلحة الأحكام؛ وإثبات النقل في مثل ما نحن فيه بلا ضرورة ممنوع؛ فقول البعض: هو غير بعيد؛ ناشئ عن عدم الاهتمام بتحرير المقام؛ وبذلك نجز الكلام على الحمد.

وكأني بك تقول: قد أبهمت في مقام التعيين؛ وأجملت في محل التبيين؛ حيث عرفت الحمد بأنه النعت بالجميل؛ إلى آخره؛ ولم تبين أن ذلك هو تعريفه اللغوي؛ ولم تتعرض لما تطابقوا عليه من تعريفه عرفا بأنه فعل ينبئ عن تعظيم المنعم؛ فأقول: لم أغفله من ذهول؛ بل لأن جعلهم ذلك لغويا؛ وذا عرفيا؛ قد تعقبه العلامة البخاري بالرد؛ وأطنب بما منه أن هذا إنما هو اصطلاح لبعض المتكلمين؛ وأن أهل اللغة والشرع قد تطابقوا على أن حقيقة الحمد الوصف بالجميل؛ قال: فليس الحمد لغة أعم منه شرعا؛ على أن إطباق المفسرين على تفسير الحمد الواقع في القرآن بما فسره به أئمة اللغة دليل على تطابق الشرع واللغة؛ وإلا لما صح تفسير الحمد الواقع في كلام الشارع به؛ لما أن الألفاظ الواقعة في كلامه إذا كان لها معنى شرعي مغاير للمعنى اللغوي يجب حملها على المعنى الشرعي؛ ولا يجوز حملها على المعنى اللغوي؛ انتهى.

ثم لما كان الحمد من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة؛ والأحداث المتعلقة بالمحل؛ المقتضية لانتسابها إليه - والفعل أصل في بيان النسب - كان حقه أن يلاحظ معه الفعل؛ لكنه عدل إلى اختيار الاسمية؛ إفادة [ ص: 10 ] للدوام والثبوت؛ إجابة لمناسبة المقام؛ كذا قرره التفتازاني؛ قيل: وهو على حسنه لا يخلو من كدر؛ بالنسبة لخصوص المقام؛ إذ لا تخفى حسن المناسبة بين القول المتجدد؛ والحادث؛ والفعل الدال على التجدد والحدوث؛ فالتعبير بالفعلية أنسب؛ وآثر المصنف الحمد على الشكر - تحسينا للبيان ببديع الاقتباس؛ ولكونه أشبع للنعمة وأدل على مكانها؛ لخفاء الاعتقاد؛ وما في أعمال الجوارح من الاحتمال؛ ومن ثم كان رأس الشكر - ولفظ الجلالة على سائر الأسماء؛ لتكون المحامد كلها مقرونة بمعانيها المستدعية لها؛ فإنه اسم ينبئ عن جميع صفات الكمال؛ لما أخبر بأنه (تعالى) حقيق بالحمد اعتبار ذاته المستجمع لجميع صفات الكمال؛ وعامة نعوت الجلال؛ حمد أم لم يحمد؛ ونبه على استحقاقه له باعتبار أفعاله العظام؛ وآثاره الجسام؛ من ربوبيته للكل؛ وشمول رحمته الظاهرة للجميع؛ وخصوص رحمته الباطنة للمؤمنين؛ وذلك لأن ترتب الحكم على الوصف؛ كما يشعر بالعلية؛ فكذا يشعر بها تعقيب الحكم بالوصف؛ فكأنه قال: حقيقة الحمد مخصوصة بذاته الواجبة الكاملة الشاملة.

وقدم الحمد لاقتضاء المقام مزيد اهتمام به؛ وإن كان ذكر الله أهم؛ ذكره التفتازاني؛ واعترض؛ ورد؛ وإنما قدم " فلله الحمد" ؛ " له الحمد" ؛ لأنه ليس المقام مقام حمد.

ولما كان صدور هذا الجامع البديع الوضع؛ المتكاثر الجمع؛ الغريب الترتيب؛ العجيب التبويب؛ لا يحصله إلا من ارتقى إلى منازل الشرف؛ وحل من طبقات الاجتهاد بأعلى الغرف؛ افتتح غرة ذلك الكتاب الشريف؛ وأومأ في طرة مطلعه المنيف؛ إلى أنه هو ذاك القرم المبعوث على رأس القرن؛ فقال (الذي) ؛ لكثرة جوده على هذه الأمة؛ وإغزار إفضاله عليهم؛ (بعث) ؛ أي: أرسل؛ يقال: " بعثت رسولا" ؛ أي: أرسلته؛ و" بعثت العسكر" ؛ وجهتهم للقتال؛ قال الراغب : أصل " البعث" : إثارة الشيء؛ وتوجيهه؛ يقال: " بعثته؛ فانبعث" ؛ ويختلف البعث بحسب اختلاف ما علق به؛ فإن قلت: كان الأولى أن يقول: " الباعث" ؛ ليكون آتيا بلفظ اسم من الأسماء الحسنى صريحا؛ وما صح وصفه (تعالى) به لا يحتاج معه إلى الإتيان بـ " الذي" ؛ وإنما يتوصل به إلى إجراء وصف لم يرد به توقيف؛ قلت: اعتذر البعض عن نحوه بأن ذكر الموصول أدخل في التعظيم؛ وأبلغ في الثناء على الله؛ لدلالة جملة الصلة على الاستقرار في النفوس؛ وإذعانها له؛ (على رأس) ؛ أي: " أول" ؛ ورأس الشيء: أعلاه؛ ورأس الشهر: أوله؛ قال في المصباح: وهو مهموز في أكثر لغاتهم؛ إلا بني تميم؛ (كل مائة سنة) ؛ يحتمل من المولد النبوي؛ أو البعثة؛ أو الهجرة؛ أو الوفاة؛ ولو قيل بأقربية الثاني لم يبعد؛ لكن صنيع السبكي وغيره مصرح بأن المراد الثالث؛ وأصل " سنة" : " سنو" ؛ لقولهم: " سنوات" ؛ وقيل: " سنهة" ؛ كـ " جبهة" ؛ لقولهم: " سانهته" ؛ وفرق بعضهم بين " السنة" ؛ و" العام" ؛ بأن " العام" ؛ من أول المحرم؛ إلى آخر ذي الحجة؛ و" السنة" ؛ من كل يوم؛ إلى مثله من القابلة؛ ذكره ابن الخباز في شرح اللمع.

قال الراغب : و" المائة" ؛ هي المرتبة الثالثة من أصول الأعداد؛ لأن أصولها أربعة؛ آحاد؛ وعشرات؛ ومئات؛ وألوف؛ (من) ؛ أي: مجتهدا؛ واحدا؛ أو متعددا؛ قائما بالحجة؛ ناصرا للسنة؛ له ملكة رد المتشابهات إلى المحكمات؛ وقوة استنباط الحقائق والدقائق النظريات؛ من نصوص الفرقان؛ وإشاراته؛ ودلالاته؛ واقتضاءاته؛ من قلب حاضر؛ وفؤاد يقظان.

قال الحراني : و" من" ؛ اسم مبهم؛ يشمل الذوات العاقلة؛ آحادا؛ وجموعا؛ واستغراقا؛ (يجدد لهذه الأمة) ؛ أي: الجماعة المحمدية؛ وأصل " الأمة" : الجماعة؛ مفرد لفظا؛ جمع معنى؛ وقد يختص بالجماعة الذين بعث فيهم نبي؛ وهم باعتبار البعثة فيهم؛ ودعائهم إلى الله؛ يسمون " أمة الدعوة" ؛ فإن آمنوا؛ كلا أو بعضا؛ سمي المؤمنون " أمة إجابة" ؛ وهم المراد هنا؛ بدليل إضافة الدين إليهم في قوله: (أمر دينها) ؛ أي: ما اندرس من أحكام الشريعة؛ وما ذهب من معالم السنن؛ وخفي من العلوم الدينية الظاهرة والباطنة؛ حسبما نطق به الخبر الآتي؛ وهو: " إن الله يبعث..." ؛ إلى آخره؛ وذلك لأنه سبحانه لما جعل المصطفى خاتمة الأنبياء والرسل؛ وكانت حوادث الأيام خارجة عن التعداد؛ ومعرفة أحكام الدين لازمة إلى يوم التنادي؛ ولم تف ظواهر النصوص ببيانها؛ بل لا بد من طريق واف بشأنها؛ اقتضت حكمة الملك العلام ظهور قرم من الأعلام في غرة كل قرن؛ ليقوم بأعباء الحوادث؛ إجراء لهذه الأمة مع علمائهم مجرى بني إسرائيل مع أنبيائهم؛ فكان في المائة الأولى عمر بن عبد العزيز؛ والثانية الشافعي؛ والثالثة الأشعري؛ أو ابن شريح؛ والرابعة الإسفراييني؛ أو الصعلوكي؛ أو الباقلاني؛ والخامسة حجة الإسلام الغزالي؛ والسادسة الإمام الرازي؛ أو الرافعي؛ والسابعة ابن دقيق العيد؛ ذكره السبكي؛ وجعل الزين العراقي في الثامنة الإسنوي؛ بعد نقله عن بعضهم أنه [ ص: 11 ] جعل في الرابعة أبا إسحاق الشيرازي؛ والخامسة السلفي؛ والسادسة النووي؛ انتهى.

وجعل غيره في الثامنة البلقيني؛ ولا مانع من الجمع؛ فقد يكون المجدد أكثر من واحد؛ قال الذهبي: " من" ؛ هنا؛ للجمع؛ لا للمفرد؛ فنقول - مثلا -: على رأس الثلاثمائة ابن شريح؛ في الفقه؛ والأشعري؛ في الأصول؛ والنسائي؛ في الحديث؛ وعلى الستمائة - مثلا - الفخر الرازي؛ في الكلام؛ والحافظ عبد الغني؛ في الحديث؛ وهكذا؛ وقال في جامع الأصول: قد تكلموا في تأويل هذا الحديث؛ وكل أشار إلى القائم الذي هو من مذهبه؛ وحملوا الحديث عليه؛ والأولى العموم؛ فإن " من" ؛ تقع على الواحد؛ والجمع؛ ولا يختص أيضا بالفقهاء؛ فإن انتفاع الأمة يكون أيضا بأولي الأمر؛ وأصحاب الحديث؛ والقراء؛ والوعاظ؛ لكن المبعوث ينبغي كونه مشارا إليه في كل هذه الفنون؛ ففي رأس الأولى من أولي الأمر عمر بن عبد العزيز؛ ومن الفقهاء محمد الباقر؛ والقاسم بن محمد؛ وسالم بن عبد الله؛ والحسن؛ وابن سيرين؛ وغيرهم؛ من طبقتهم؛ ومن القراء ابن كثير؛ ومن المحدثين الزهري؛ وفي رأس الثانية من أولي الأمر المأمون؛ ومن الفقهاء الشافعي؛ واللؤلؤي من أصحاب أبي حنيفة؛ وأشهب؛ من أصحاب مالك؛ ومن الإمامية علي بن موسى الرضي؛ ومن القراء الحضرمي؛ ومن المحدثين ابن معين؛ ومن الزهاد الكرخي؛ وفي الثالثة من أولي الأمر المقتدر؛ ومن المحدثين النسائي؛ وفي الرابعة من أولي الأمر القادر؛ ومن الفقهاء الإسفراييني الشافعي؛ والخوارزمي الحنفي؛ وعبد الوهاب المالكي؛ والحسين الحنبلي؛ ومن المتكلمين الباقلاني؛ وابن فورك؛ ومن المحدثين الحاكم؛ ومن الزهاد الثوري؛ وهكذا يقال في بقية القرون.

وقال في الفتح: نبه بعض الأئمة على أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل قرن واحد فقط؛ بل الأمر فيه كما ذكره النووي في حديث: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق..." ؛ من أنه يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين؛ ما بين شجاع؛ وبصير بالحرب؛ وفقيه؛ ومحدث؛ ومفسر؛ وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وزاهد؛ وعابد؛ ولا يلزم اجتماعهم ببلد واحد؛ بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد؛ وتفرقهم في الأقطار؛ ويجوز تفرقهم في بلد؛ وأن يكونوا في بعض؛ دون بعض؛ ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولا فأولا؛ إلى ألا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد؛ فإذا انقرضوا أتى أمر الله؛ قال الحافظ ابن حجر: وهذا متجه؛ فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها؛ لا تنحصر في نوع من الخير؛ ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد؛ إلا أن يدعى ذلك في ابن عبد العزيز؛ فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى؛ باتصافه بجميع صفات الخير؛ وتقدمه فيها؛ ومن ثم ذكر أحمد أنهم كانوا يحملون عنه الحديث؛ وأما من بعده فالشافعي؛ وإن اتصف بالصفات الجميلة؛ والفضائل الجمة؛ لكنه لم يكن القائم بشأن الجهاد والحكم بالعدل؛ فعلى هذا كل من اتصف بشيء من ذلك عند رأس المائة؛ هو المراد؛ تعدد أم لا؛ انتهى.

وأومأ المصنف هنا؛ وصرح في عدة تآليفه بأنه المجدد على رأس المائة التاسعة؛ قال في بعضها: " قد أقامنا الله في منصب الاجتهاد لنبين للناس ما أدى إليه اجتهادنا؛ تجديدا للدين" ؛ هذه عبارة؛ وقال في موضع آخر: " ما جاء بعد السبكي مثلي" ؛ وفي آخر: " الناس يدعون اجتهادا واحدا؛ وأنا أدعي ثلاثا" ؛ إلى غير ذلك؛ وقد قامت عليه في زمنه بذلك القيامة؛ ولم تسلم له في عصره هامة؛ وطلبوا أن يناظروه فامتنع؛ وقال: " لا أناظر إلا من هو مجتهد مثلي؛ وليس في العصر مجتهد إلا أنا" ؛ كما حكاه هو عن نفسه؛ وكتبوا له حيث تدعي الاجتهاد فعليك الإثبات؛ ليكون الجواب على قدر الدعوى؛ فتكون صاحب مذهب خامس؛ فلم يجبهم.

قال العلامة الشهاب بن حجر الهيتمي: لما ادعى الجلال ذلك قام عليه معاصروه؛ ورموه عن قوس واحد؛ وكتبوا له سؤالا فيه مسائل؛ أطلق الأصحاب فيها وجهين؛ وطلبوا منه إن كان عنده أدنى مراتب الاجتهاد؛ وهو اجتهاد الفتوى؛ فليتكلم على الراجح من تلك الأوجه بدليل على قواعد المجتهدين؛ فرد السؤال من غير كتابة عليه؛ واعتذر بأن له اشتغالا يمنعه في النظر في ذلك؛ قال الشهاب الرملي: فتأمل صعوبة هذه المرتبة؛ أعني اجتهاد الفتوى؛ الذي هو أدنى مراتب الاجتهاد؛ يظهر لك أن مدعيها؛ فضلا عن مدعي الاجتهاد المطلق؛ في حيرة من أمره؛ فساد في فكره؛ وأنه ممن ركب متن عمياء؛ وخبط خبط عشواء؛ قال: من تصور مرتبة الاجتهاد المطلق استحيا من الله (تعالى) أن ينسبها لأحد من أهل هذه الأزمنة؛ بل قال ابن الصلاح ومن تبعه: إنها انقطعت من نحو ثلاثمائة [ ص: 12 ] سنة؛ ولابن الصلاح نحو ثلاثمائة سنة؛ فتكون قد انقطعت من نحو ستمائة سنة؛ بل نقل ابن الصلاح عن بعض الأصوليين أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد مستقل؛ إلى هنا كلام الشهاب.

ثم قال: وإذا كان بين الأئمة نزاع طويل في أن إمام الحرمين وحجة الإسلام الغزالي؛ وناهيك بهما؛ هل هما من أصحاب الوجوه أم لا؛ كما هو الأصح عند جماعة؛ فما ظنك بغيرهما؟! بل قال الأئمة - في الروياني؛ صاحب البحر -: إنه لم يكن من أصحاب الوجوه؛ هذا مع قوله: " لو ضاعت نصوص الشافعي لأمليتها من صدري" ؛ فإذا لم يتأهل هؤلاء الأكابر لمرتبة الاجتهاد المذهبي؛ فكيف يسوغ لمن لم يفهم أكثر عباراتهم على وجهها أن يدعي ما هو أعلى من ذلك؛ وهو الاجتهاد المطلق؟ سبحانك هذا بهتان عظيم؛ انتهى إلى هنا كلام الشهاب.

وفي الأنوار؛ عن الإمام الرافعي: " الناس اليوم كالمجمعين على أنه لا مجتهد اليوم" ؛ وقال عالم الأقطار الشامية ابن أبي الدم؛ بعد سرده شروط الاجتهاد المطلق : " هذه الشرائط يعز وجودها في زماننا في شخص من العلماء؛ بل لا يوجد في البسيطة اليوم مجتهد مطلق" ؛ هذا مع تدوين العلماء كتب التفسير والسنن والأصول والفروع؛ حتى ملؤوا الأرض من المؤلفات؛ صنفوها؛ ومع هذا فلا يوجد في صقع من الأصقاع مجتهد مطلق؛ بل ولا مجتهد في مذهب إمام تعتبر أقواله وجوها مخرجة على مذهب إمامه؛ ما ذاك إلا أن الله (تعالى) أعجز الخلائق عن هذا؛ إعلاما لعباده بتصرم الزمان؛ وقرب الساعة؛ وأن ذلك من أشراطها؛ وقد قال شيخ الأصحاب القفال: مجتهد الفتوى قسمان؛ أحدهما من جمع شرائط الاجتهاد؛ وهذا لا يوجد؛ والثاني من ينتحل مذهبا واحدا من الأئمة؛ كالشافعي؛ وعرف مذهبه؛ وصار حاذقا فيه؛ بحيث لا يشذ عنه شيء من أصوله؛ فإذا سئل في حادثة فإن عرف لصاحبه نصا أجاب عليه؛ وإلا يجتهد فيها على مذهبه؛ ويخرجها على أصوله؛ وهذا أعز من الكبريت الأحمر؛ فإذا كان هذا قول القفال - مع جلالة قدره؛ وكون تلامذته وغلمانه أصحاب وجوه كل مذهب - فكيف بعلماء عصرنا؟! ومن جملة غلمانه القاضي حسين؛ والفوراني؛ والد إمام الحرمين؛ والصيدلاني؛ والسنجي؛ وغيرهم؛ وبموتهم وموت أصحاب أبي حامد انقطع الاجتهاد؛ وتخريج الوجوه من مذهب الشافعي؛ وإنما هم نقلة وحفظة؛ فأما في هذا الزمان فقد خلت الدنيا منهم؛ وشغر الزمان عنهم؛ إلى هنا كلام ابن أبي الدم.

وقال فقيه العصر شيخ الإفتاء والتدريس في القرن العاشر شيخنا الشمس الرملي؛ عن والده شيخ الإسلام أبي العباس الرملي: إنه وقف على ثمانية عشر سؤالا فقهية؛ سأل عنها الجلال؛ من مسائل الخلاف المنقولة؛ فأجاب عن نحو شطرها؛ من كلام قوم من المتأخرين كالزركشي؛ واعتذر عن الباقي بأن الترجيح لا يقدم عليه إلا جاهل؛ أو فاسق؛ قال الشمس: فتأملت فإذا أكثرها من المنقول المفروغ منه؛ فقلت: سبحان الله؛ رجل ادعى الاجتهاد؛ وخفي عليه ذلك؟! فأجبت عن ثلاثة عشر منها في مجلس واحد بكلام متين من كلام المتقدمين؛ وبت على عزم إكمالها؛ فضعفت تلك الليلة؛ فعددت ذلك كرامة للمؤلف؛ وليس حكايتي لذلك من قبيل الغض منه؛ ولا الطعن عليه؛ بل حذرا أن يقلده بعض الأغبياء فيما اختاره؛ وجعله مذهبه؛ سيما ما خالف فيه الأئمة الأربعة؛ اغترارا بدعواه؛ هذا مع اعتقادي مزيد جلالته؛ وفرض سعة إطلاعه ورسوخ قدمه؛ وتمكنه من العلوم الشرعية؛ وآلاتها؛ وأما الاجتهاد فدونه خرط القتاد؛ وقد صرح حجة الإسلام بخلو عصره عن مجتهد؛ حيث قال في الإحياء؛ في تقسيمه للمناظرات؛ ما نصه: أما من ليس له رتبة الاجتهاد؛ وهو حكم كل العصر؛ فإنما يفتي فيه ناقلا عن مذهب صاحبه؛ فلو ظهر له ضعف مذهبه؛ لم يتركه؛ انتهى.

وقال في الوسيط: هذه الشروط - يعني شروط الاجتهاد المعتبرة في القاضي - قد تعذرت في عصرنا؛ وهنا تنبيه ينبغي التفطن له؛ وهو أن كل من تكلم على حديث: " إن الله يبعث..." ؛ إلخ؛ إنما يقرره بناء على أن المبعوث على رأس القرن يكون موته على رأسه؛ وأنت خبير بأن المتبادر من الحديث إنما هو أن البعث - وهو الإرسال - يكون على رأس القرن؛ أي: أوله؛ ومعنى إرسال العالم: تأهله للتصدي لنفع الأنام؛ وانتصابه لنشر الأحكام؛ وموته على رأس القرن أخذ؛ لا بعث؛ فتدبر بإنصاف.

ثم رأيت الطيبي قال: المراد بالبعث من انقضت المائة وهو حي عالم مشهور؛ مشار إليه.

والكرماني قال: قد كان قبيل كل مائة أيضا من يصحح؛ ويقوم بأمر الدين؛ وإنما المراد من انقضت المائة وهو حي عالم مشار إليه.

ولما كان ربما يتوهم من تخصيص البعث برأس القرن أن القائم بالحجة لا يوجد إلا عنده؛ أردف ذلك بما يبين أنه قد يكون في أثناء المائة من هو كذلك؛ بل قد يكون أفضل من المبعوث على الرأس؛ وأن تخصيص الرأس إنما هو لكونه مظنة انخرام علمائه غالبا؛ وظهور البدع ونجوم [ ص: 13 ] الدجالين؛ فقال: (وأقام) ؛ أي: نصب وسخر؛ قال الراغب : القيام على أضرب: قيام بالشخص؛ إما بتسخير؛ أو باختيار؛ وقيام هو المراعاة للدين والحفظ له؛ وقيام هو العزم على الشيء؛ ومنه: كونوا قوامين لله ؛ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ؛ أي: حافظ؛ وقوله: إلا ما دمت عليه قائما ؛ أي: على طلبه؛ (في كل عصر) ؛ بفتح؛ أو ضم؛ فسكون؛ وبضمتين؛ أي: زمن؛ و" العصر" : الدهر؛ كما في الصحاح؛ والوقت كما في الأساس؛ يقال: " ما فعلته عصرا" ؛ أو " بعصر" ؛ أي في وقت؛ (من يحوط) ؛ بضم الحاء: الحيطة؛ وهو المراعاة؛ والصيانة؛ والحفظ؛ (هذه الملة) ؛ أي: يصون ويحفظ هذه الطريقة المحمدية؛ والسنن الإسلامية؛ ويهتم بالذب عنها؛ ويبالغ في الاحتياط؛ غير مقصر؛ ولا متوان؛ ففي الصحاح: " حاطه" : كلأه؛ ورعاه؛ وفي الأساس: تعاهد واهتم بأمره؛ ومن المجاز " أحاط به علما" ؛ أتى على أقصى معرفته؛ كقولك: " علمه علم إحاطة" ؛ إذا علمه من جميع وجوهه؛ ولم يفته شيء منه؛ ومنه: " فلان يحوط بيضة الإسلام؛ وبيضة قومه" ؛ وفي المفردات: " الإحاطة" ؛ تستعمل في الأجسام؛ نحو: " أحطت بمكان كذا" ؛ وفي الحفظ؛ نحو: ألا إنه بكل شيء محيط ؛ أي: حافظ لجميع جهاته.

و" الملة" ؛ قال الزمخشري: الطريقة المسلوكة؛ ومنه: " ملة إبراهيم خير الملل " ؛ و" امتل فلان ملة الإسلام" .

وقال القاضي: هي ما شرع الله لعباده على لسان أنبيائه؛ من " أمللت الكتاب" ؛ إذا مليته؛ وقال الحراني : ما يدعو إليه العقل؛ المبلغ عن الله توحيده؛ من ذوات الحنفيين؛ و" الدين" : الإسلام؛ و" الإسلام" : إلقاء ما باليد ظاهرا وباطنا؛ وذلك إنما يكون عن بادئ عين التوحيد؛ أهـ.

وقال الراغب : " الدين" ؛ و" الملة" ؛ اسمان بمعنى؛ يتفقان من وجه؛ ويختلفان من وجه؛ فاتفاقهما أنهما اسم لاعتقادات وأقوال وأفعال تأثرها أمم من الأمم عن نبيهم؛ يرفعها إلى الله؛ واختلافهما من وجهين؛ أحدهما أن الدين إذا اعتبر بمبدئه فهو الطاعة والانقياد؛ نحو: في دين الملك ؛ وإذا اعتبر بمغزاه ومنتهاه؛ فهو الجزاء؛ كخبر: " ...كما تدين تدان" ؛ والدين تارة يضاف إلى الله (تعالى)؛ وأخرى إلى العبد؛ و" الملة" ؛ من " أمللت الكتاب" ؛ أي: أمليته؛ وتضاف إلى الإمام الذي تسند إليه؛ نحو: ملة إبراهيم ؛ ولا تكاد توجد مضافة إلى الله؛ ولا إلى آحاد أمة النبي؛ لا يقال: " ملة الله" ؛ ولا " ملتي" ؛ ولا " ملة زيد" ؛ كما يقال: " دين الله" ؛ و" ديني" ؛ و" دين زيد" ؛ الثاني: أن الدين يقال لكل من الاعتقاد؛ والقول؛ والفعل: " إنه دين الله" ؛ ولا يقال: " ملة" ؛ إلا باجتماع ذلك كله؛ وأما " الشريعة" ؛ فالطريقة المتوصل بها إلى صلاح الدارين؛ تشبيها بشريعة المار بالطريق الشارع؛ انتهى.

وبه يعلم أن من فسر " الملة" ؛ هنا؛ بـ " الدين" ؛ أو " الشريعة" ؛ لم يصب؛ (بتشييد أركانها) ؛ أي: بإعلاء أعلامها؛ ورفع منارها؛ وإحكام أحكامها؛ و" التشييد" : الرفع والتأييد؛ أو الإحكام والإتقان؛ قال الزمخشري: " شاد القصر" ؛ و" أشاده" : شيده؛ ورفعه؛ و" قصر مشيد" ؛ وقيل: " مشيد" : المعمول بالشيد؛ وهو الجص؛ بكسر الجيم؛ ومن المجاز: " أشاد بذكره" ؛ رفعه بالثناء عليه؛ و" أشاد عليه" : أثنى عليه مكروها؛ وأركان الشيء: جوانبه التي عليها مبناه؛ وبتركها بطلانه؛ ذكره الراغب .

التالي السابق


الخدمات العلمية