الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 176 ] الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد .

التالي السابق


هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من حديث القاسم بن محمد عن عمته عائشة رضي الله عنها وألفاظه مختلفة ، ومعناها متقارب ، وفي بعض ألفاظه : " من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو رد " . وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام ، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها كما أن حديث : الأعمال بالنيات ميزان للأعمال في باطنها ، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب ، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله ، فهو مردود على عامله ، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله ، فليس من الدين في شيء . وسيأتي حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين [ ص: 177 ] المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة . وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته : " إن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها " وسنؤخر الكلام على المحدثات إلى ذكر حديث العرباض المشار إليه ، ونتكلم هاهنا على الأعمال التي ليس عليها أمر الشارع وردها . فهذا الحديث بمنطوقه يدل على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع ، فهو مردود ، ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره فهو غير مردود ، والمراد بأمره هاهنا : دينه وشرعه ، كالمراد بقوله في الرواية الأخرى : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد . فالمعنى إذا : أن من كان عمله خارجا عن الشرع ليس متقيدا بالشرع ، فهو مردود . وقوله : " ليس عليه أمرنا " إشارة إلى أن أعمال العاملين كلهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة ، وتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها ، فمن كان عمله جاريا تحت أحكام الشرع موافقا لها ، فهو مقبول ، ومن كان خارجا عن ذلك ، فهو مردود .


والأعمال قسمان : عبادات ومعاملات . فأما العبادات ، فما كان منها خارجا عن حكم الله ورسوله بالكلية ، فهو مردود على عامله ، وعامله يدخل تحت قوله : أم لهم شركاء شرعوا لهم من [ ص: 178 ] الدين ما لم يأذن به الله ( الشورى : 21 ) فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله ، فعمله باطل مردود عليه ، وهو شبيه بحال الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية ، وهذا كمن تقرب إلى الله تعالى بسماع الملاهي ، أو بالرقص ، أو بكشف الرأس في غير الإحرام ، وما أشبه ذلك من المحدثات التي لم يشرع الله ورسوله التقرب بها بالكلية . وليس ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقا ، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قائما في الشمس ، فسأل عنه ، فقيل إنه نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل وأن يصوم ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقعد ويستظل ، وأن يتم صومه فلم يجعل قيامه وبروزه في الشمس قربة يوفي بنذرهما وقد روي أن ذلك كان في يوم جمعة عند سماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ، فنذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ما دام النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ؛ إعظاما لسماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قربة توفي بنذره ، مع أن القيام عبادة في مواضع أخر ، كالصلاة والأذان والدعاء بعرفة ، والبروز للشمس قربة للمحرم ، فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن ، وإنما يتبع في ذلك كله ما وردت به الشريعة في مواضعها . وكذلك من تقرب بعبادة نهي عنها بخصوصها ، كمن صام يوم العيد ، أو صلى وقت النهي . وأما من عمل عملا أصله مشروع وقربة ، ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع ، أو أخل فيه بمشروع ، فهذا مخالف أيضا للشريعة بقدر إخلاله بما أخل به ، أو [ ص: 179 ] إدخاله ما أدخل فيه ، وهل يكون عمله من أصله مردودا عليه أم لا ؟ فهذا لا يطلق القول فيه برد ولا قبول ، بل ينظر فيه : فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل أو شروطه موجبا لبطلانه في الشريعة ، كمن أخل بالطهارة للصلاة مع القدرة عليها ، أو كمن أخل بالركوع أو بالسجود أو بالطمأنينة فيهما ، فهذا عمل مردود عليه ، وعليه إعادته إن كان فرضا ، وإن كان ما أخل به لا يوجب بطلان العمل ، كمن أخل بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يوجبها ولا يجعلها شرطا ، فهذا لا يقال : إن عمله مردود من أصله ، بل هو ناقص . وإن كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع ، فزيادته مردودة عليه ، بمعنى أنها لا تكون قربة ولا يثاب عليها ، ولكن تارة يبطل بها العمل من أصله ، فيكون مردودا ، كمن زاد في صلاته ركعة عمدا مثلا ، وتارة لا يبطله ، ولا يرده من أصله ، كمن توضأ أربعا أربعا ، أو صام الليل مع النهار ، وواصل في صيامه ، وقد يبدل ما يؤمر به في العبادة بما هو منهي عنه ، كمن ستر عورته في الصلاة بثوب محرم ، أو توضأ للصلاة بماء مغصوب ، أو صلى في بقعة غصب ، فهذا قد اختلف العلماء فيه : هل عمله مردود من أصله ، أو أنه غير مردود وتبرأ به الذمة من عهدة الواجب ؟ وأكثر الفقهاء على أنه ليس بمردود من أصله ، وقد حكى عبد الرحمن بن مهدي عن قوم من أصحاب الكلام يقال لهم : الشمرية أصحاب أبي شمر أنهم يقولون : إن من صلى في ثوب كان في ثمنه درهم حرام أن عليه إعادة صلاته ، وقال : ما سمعت قولا أخبث من قولهم ، نسأل الله العافية ، وعبد الرحمن بن مهدي من أكابر فقهاء أهل الحديث ، المطلعين على مقالات السلف ، وقد استنكر هذا القول وجعله بدعة ، فدل على أنه لم يعلم عن أحد من السلف القول بإعادة الصلاة في مثل هذا . [ ص: 180 ] ويشبه هذا الحج بمال حرام ، وقد ورد في حديث أنه مردود على صاحبه ، ولكنه حديث لا يثبت ، وقد اختلف العلماء هل يسقط به الفرض أم لا ؟ . وقريب من ذلك الذبح بآلة محرمة ، أو ذبح من لا يجوز له الذبح ، كالسارق ، فأكثر العلماء قالوا : إنه تباح الذبيحة بذلك ، ومنهم من قال : هي محرمة ، وكذا الخلاف في ذبح المحرم الصيد ، لكن القول بالتحريم فيه أشهر وأظهر ، لأنه منهي عنه بعينه . ولهذا فرق من فرق من العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة فيبطلها ، وبين أن لا يكون مختصا بها فلا يبطلها ، فالصلاة بالنجاسة ، أو بغير طهارة ، أو بغير ستارة ، أو إلى غير القبلة يبطلها لاختصاص النهي بالصلاة بخلاف الصلاة في الغصب ، ويشهد لهذا أن الصيام لا يبطله إلا ارتكاب ما نهي عنه فيه بخصوصه ، وهو جنس الأكل والشرب والجماع ، بخلاف ما نهي عنه الصائم ، لا بخصوص الصيام ، كالكذب والغيبة عند الجمهور . وكذلك الحج ما يبطله إلا ما نهي عنه في الإحرام ، وهو الجماع ، ولا يبطله ما لا يختص بالإحرام من المحرمات ، كالقتل والسرقة وشرب الخمر . وكذلك الاعتكاف : إنما يبطل بما نهي عنه فيه بخصوصه ، وهو الجماع ، وإنما يبطل بالسكر عندنا وعند الأكثرين ، لنهي السكران عن قربان المسجد [ ص: 181 ] ودخوله على أحد التأويلين في قوله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ( النساء : 43 ) أن المراد مواضع الصلاة ، فصار كالحائض ، ولا يبطل الاعتكاف بغيره من ارتكابه الكبائر عندنا وعند كثير من العلماء ، وإن خالف في ذلك طائفة من السلف ، منهم عطاء والزهري والثوري ومالك ، وحكي عن غيرهم أيضا . وأما المعاملات كالعقود والفسوخ ونحوهما ، فما كان منها تغيرا للأوضاع الشرعية ، كجعل حد الزنا عقوبة مالية ، وما أشبه ذلك ، فإنه مردود من أصله ، لا ينتقل به الملك ، لأن هذا غير معهود في أحكام الإسلام ، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله : إن ابني كان عسيفا على فلان ، فزنى بامرأته ، فافتديت منه بمائة شاة وخادم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : المائة الشاة والخادم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة ، وتغريب عام .


وما كان منها عقدا منهيا عنه في الشرع ، إما لكون المعقود عليه ليس محلا للعقد ، أو لفوات شرط فيه ، أو لظلم يحصل به للمعقود معه وعليه ، أو لكون العقد يشغل عن ذكر الله الواجب عند تضايق وقته ، أو غير ذلك ، فهذا العقد : هل هو مردود بالكلية ، لا ينتقل به الملك ، أم لا ؟ هذا الموضع قد اضطرب الناس فيه اضطرابا كثيرا ، وذلك أنه ورد في بعض الصور أنه مردود لا يفيد الملك ، وفي بعضها أنه يفيده ، فحصل الاضطراب فيه بسبب ذلك ، والأقرب - إن شاء الله تعالى - أنه إن كان النهي عنه لحق لله عز وجل لا يفيد الملك بالكلية ، ونعنى أنه بكون الحق لله : أنه لا يسقط برضا المتعاقدين عليه ، وإن كان النهي عنه لحق آدمي معين بحيث يسقط برضاه به ، فإنه يقف على رضاه به ، فإن رضي لزم العقد ، واستمر الملك ، وإن لم يرض به ، فله الفسخ ، فإن كان [ ص: 182 ] الذي يلحقه الضرر لا يعتبر رضاه بالكلية ، كالزوجة والعبد في الطلاق والعتاق ، فلا عبرة برضاه ولا بسخطه ، وإن كان النهي رفقا بالمنهي خاصة لما يلحقه من المشقة ، فخالف وارتكب المشقة ، لم يبطل بذلك عمله . فأما الأول فله صور كثيرة : منها نكاح من يحرم نكاحه ، إما لعينه ، كالمحرمات على التأبيد بسبب أو نسب ، أو للجمع أو لفوات شرط لا يسقط بالتراضي بإسقاطه : كنكاح المعتدة والمحرمة ، والنكاح بغير ولي ونحو ذلك ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين رجل وامرأة تزوجها وهي حبلى فرد النكاح لوقوعه في العدة 32 . [ ص: 183 ] ومنها عقود الربا ، فلا تفيد الملك ، ويؤمر بردها ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من باع صاع تمر بصاعين أن يرده . ومنها بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام والكلب ، وسائر ما نهي عن بيعه [ ص: 184 ] مما لا يجوز التراضي ببيعه . وأما الثاني ، فله صور عديدة : منها إنكاح الولي من لا يجوز له إنكاحها إلا بإذنها بغير إذنها ، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم نكاح امرأة ثيب زوجها أبوها وهي كارهة ، وروي عنه أنه خير امرأة زوجت بغير إذنها ، وفي بطلان هذا النكاح ووقوفه على الإجازة روايتان عن أحمد . وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أن من تصرف لغيره في ماله بغير إذنه لم يكن تصرفه باطلا من أصله ، بل يقف على إجازته ، فإن أجازه جاز ، وإن رده بطل ، واستدلوا بحديث عروة بن الجعد في شرائه للنبي صلى الله عليه وسلم شاتين ، وإنما كان أمره بشراء شاة واحدة ، ثم باع إحداهما ، وقبل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم . وخص ذلك الإمام أحمد في المشهور عنه بمن كان يتصرف لغيره في ماله بإذن إذا خالف الإذن . ومنها تصرف المريض في ماله كله : هل يقع باطلا من أصله أم يقف تصرفه في الثلثين على إجازة الورثة ؟ فيه اختلاف مشهور للفقهاء ، والخلاف في [ ص: 185 ] مذهب أحمد وغيره ، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته ، لا مال له غيرهم ، فدعا بهم ، فجزأهم ثلاثة أجزاء ، فأعتق اثنين وأرق أربعة ، وقال له قولا شديدا ، ولعل الورثة لم يجيزوا عتق الجميع والله أعلم . ومنها بيع المدلس ونحوه كالمصراة ، وبيع النجش ، وتلقي الركبان ونحو ذلك ، وفي صحته كله اختلاف مشهور في مذهب الإمام أحمد ، وذهب طائفة من أهل الحديث إلى بطلانه ورده . والصحيح أنه يصح ويقف على إجازة من حصل له ظلم بذلك ، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل مشتري المصراة بالخيار ، وأنه جعل للركبان الخيار إذا [ ص: 186 ] هبطوا السوق ، وهذا كله يدل على أنه غير مردود من أصله ، وقد أورد على بعض من قال بالبطلان حديث المصراة ، فلم يذكر عنه جوابا . وأما بيع الحاضر للبادي ، فمن صححه ، جعله من هذا القبيل ، ومن أبطله جعل الحق فيه لأهل البلد كلهم ، وهم غير منحصرين ، فلا يتصور إسقاط حقوقهم ، فصار كحق الله عز وجل . ومنها : لو باع رقيقا يحرم التفريق بينهم ، وفرق بينهم كالأم وولدها ، فهل يقع باطلا مردودا ، أم يقف على رضاهم بذلك ؟ وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برد هذا البيع . ونص أحمد على أنه لا يجوز التفريق بينهم ، ولو رضوا بذلك ، وذهب طائفة إلى جواز التفريق بينهم برضاهم : منهم النخعي ، وعبيد الله بن الحسن العنبري ، فعلى هذا يتوجه أن يصح ويقف على الرضا . ومنها لو خص بعض أولاده بالعطية دون بعض ، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بشير بن سعد لما خص ولده النعمان بالعطية أن يرده ، ولم يدل ذلك على أنه لم ينتقل الملك بذلك إلى الولد ، فإن هذه العطية تصح وتقع مراعاة ، فإن سوى بين الأولاد في العطية ، أو استرد ما أعطى الولد ، جاز وإن مات ولم يفعل شيئا من ذلك ، فقال مجاهد : هي ميراث وحكي عن أحمد نحوه ، وأن العطية [ ص: 187 ] تبطل ، والجمهور على أنها لا تبطل وهل للورثة الرجوع فيها أم لا ؟ فيه قولان مشهوران هما روايتان عن أحمد . ومنها الطلاق المنهي عنه ، كالطلاق في زمن الحيض ، فإنه قد قيل : إنه قد نهي عنه لحق الزوج ، حيث كان يخشى عليه أن يعقبه فيه الندم ، ومن نهى عن شيء رفقا به ، فلم ينته عنه بل فعله وتجشم مشقته ، فإنه لا يحكم ببطلان ما أتى به ، كمن صام في المرض أو السفر ، أو واصل في الصيام ، أو أخرج ماله وجلس يتكفف الناس ، أو صلى قائما مع تضرره بالقيام للمرض ، أو اغتسل وهو يخشى على نفسه الضرر أو التلف ولم يتيمم ، أو صام الدهر ولم يفطر ، أو قام الليل ولم ينم ، وكذلك إذا جمع الطلاق الثلاث على القول بتحريمه . وقيل : إنما نهي عن طلاق الحائض لحق المرأة لما فيه من الإضرار بها بتطويل العدة ، ولو رضيت بذلك بأن سألته الطلاق بعوض في الحيض ، فهل يزول بذلك تحريمه ؟ فيه قولان مشهوران للعلماء ، والمشهور من مذهبنا ومذهب الشافعي أنه يزول التحريم بذلك ، فإن قيل : إن التحريم فيه لحق الزوج خاصة ، فإذا أقدم عليه فقد أسقط حقه فسقط ، وإن علل بأنه لحق المرأة لم يمنع نفوذه ووقوعه أيضا ، فإن رضا المرأة بالطلاق غير معتبر لوقوعه عند جميع المسلمين ، لم يخالف فيه سوى شرذمة يسيرة من الروافض ونحوهم ، كما أن رضا الرقيق بالعتق غير معتبر ، ولو تضرر به ، ولكن إذا تضررت المرأة بذلك ، وكان قد بقي شيء من طلاقها ، أمر الزوج بارتجاعها ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر بارتجاع زوجته تلافيا منه لضررها ، وتلافيا لما وقع منه من الطلاق المحرم حتى لا تصير بينونتها منه ناشئة عن طلاق محرم ، وليتمكن من طلاقها على وجه مباح ، فتحصل إبانتها على هذا الوجه . وقد روي عن أبي الزبير ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها عليه ولم يرها شيئا ، وهذا مما تفرد به أبو الزبير عن أصحاب [ ص: 188 ] ابن عمر كلهم مثل ابنه سالم ، ومولاه نافع ، وأنس ، وابن سيرين ، وطاوس ، ويونس بن جبير ، وعبد الله بن دينار ، وسعيد بن جبير ، وميمون بن مهران وغيرهم . وقد أنكر أئمة العلماء هذه اللفظة على أبي الزبير من المحدثين والفقهاء ، وقالوا : إنه تفرد بما خالف الثقات ، فلا يقبل تفرده ، فإن في رواية الجماعة عن ابن عمر ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حسب عليه الطلقة من وجوه كثيرة ، وكان ابن عمر يقول لمن سأله عن الطلاق في الحيض : إن كنت طلقت واحدة أو اثنتين ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بذلك : يعني بارتجاع المرأة ، وإن كنت طلقت ثلاثا ، فقد عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك . [ ص: 189 ] وفي رواية أبي الزبير زيادة أخرى لم يتابع عليها وهو قوله : ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة ولم يذكر ذلك أحد من الرواة عن ابن عمر ، وإنما روى عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أنه كان يتلو هذه الآية عند روايته للحديث وهذا هو الصحيح . وقد كان طوائف من الناس يعتقدون أن طلاق ابن عمر كان ثلاثا ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ردها عليه ، لأنه لم يوقع الطلاق في الحيض ، وقد روي ذلك عن أبي الزبير أيضا من رواية معاوية بن عمار الدهني عنه ، فلعل أبا الزبير اعتقد هذا حقا ، فروى تلك اللفظة بالمعنى الذي فهمه ، وروى ابن لهيعة هذا الحديث عن أبي الزبير ، فقال : عن جابر أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليراجعها فإنها امرأته " وأخطأ في ذكر جابر في هذا الإسناد ، وتفرد بقوله : " فإنها امرأته " وهي لا تدل على عدم وقوع الطلاق إلا على تقدير أن يكون ثلاثا ، فقد اختلف في هذا الحديث على أبي الزبير ، وأصحاب ابن عمر الثقات الحفاظ العارفون به الملازمون له لم يختلف عليهم فيه ، وروى أيوب عن ابن سيرين قال : مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثا وهي حائض ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ، فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث حتى لقيت أبا غلاب يونس بن جبير وكان ذا ثبت ، فحدثني أنه سأل ابن عمر فحدثه أنه طلقها واحدة ، خرجه مسلم . وفي رواية : قال ابن سيرين : فجعلت لا أعرف للحديث وجها ولا أفهمه . وهذا يدل على أنه كان قد شاع بين الثقات من غير أهل الفقه والعلم أن طلاق ابن عمر كان ثلاثا ، ولعل أبا الزبير من هذا القبيل ، ولذلك كان نافع يسأل كثيرا عن طلاق ابن عمر ، هل كان ثلاثا أو واحدة ؟ ولما قدم نافع مكة ، أرسلوا [ ص: 190 ] إليه من مجلس عطاء يسألونه عن ذلك لهذه الشبهة ، واستنكار ابن سيرين لرواية الثلاث يدل على أنه لم يعرف قائلا معتبرا يقول : إن الطلاق المحرم غير واقع ، وأن هذا القول لا وجه له . قال الإمام أحمد : في رواية أبي الحارث ، وسئل عمن قال : لا يقع الطلاق المحرم ، لأنه يخالف ما أمر به ، فقال : هذا قول سوء رديء ، ثم ذكر قصة ابن عمر وأنه احتسب بطلاقه في الحيض . وقال أبو عبيد : الوقوع هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار حجازهم وتهامهم ، ويمنهم وشامهم ، وعراقهم ومصرهم ، وحكى ابن المنذر ذلك عن كل من يحفظ قوله من أهل العلم إلا ناسا من أهل البدع لا يعتد بهم . وأما ما حكاه ابن حزم عن ابن عمر أنه لا يقع الطلاق في الحيض مستندا إلى ما رواه من طريق محمد بن عبد السلام الخشني الأندلسي حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر في الرجل يطلق امرأته وهي حائض ، قال : لا يعتد بها ، وبإسناده ، عن خلاس نحوه ، فإن هذا الأثر قد سقطت من آخره لفظة وهي قال : لا يعتد بتلك الحيضة ، كذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة في كتابه عن عبد الوهاب الثقفي ، وكذا رواه يحيى بن معين عن عبد الوهاب أيضا ، وقال : هو غريب لم يحدث به إلا عبد الوهاب ، ومراد ابن عمر أن الحيضة التي طلق فيها لا تعتد بها المرأة قرءا ، وهذا هو مراد خلاس وغيره . وقد روي ذلك أيضا عن جماعة من السلف ، منهم زيد بن ثابت ، [ ص: 191 ] وسعيد بن المسيب ، فوهم جماعة من المفسرين وغيرهم ، كما وهم ابن حزم ، فحكوا عن بعض من سمينا أن الطلاق في الحيض لا يقع ، وهذا سبب وهمهم والله أعلم . وهذا الحديث إنما رواه القاسم بن محمد لما سئل عن رجل له ثلاثة مساكن ، فأوصى بثلث ثلاث مساكن هل تجمع له في مسكن واحد ؟ فقال : تجمع له في مسكن واحد ، حدثتني عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد خرجه مسلم . ومراده أن تغيير وصية الموصي إلى ما هو أحب إلى الله وأنفع جائز ، وقد حكي هذا عن عطاء وابن جريج ، وربما يستدل بعض من ذهب إلى هذا بقوله تعالى : فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه ولعله أخذ هذا من جمع العتق ، فإنه صح " أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته ، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فجزأهم ثلاثة أجزاء ، فأعتق اثنين وأرق أربعة " خرجه مسلم . وذهب فقهاء الحديث إلى هذا الحديث ؛ لأن تكميل عتق العبد مهما أمكن أولى من تشقيصه ، ولهذا شرعت السراية والسعاية إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من عبد . وقال صلى الله عليه وسلم فيمن أعتق بعض عبد له : هو عتيق كله ليس لله شريك . وأكثر العلماء على خلاف قول القاسم هذا ، وأن وصية الموصي لا تجمع ، ويتبع لفظه إلا في العتق خاصة ، لأن المعنى الذي جمع له في العتق غير موجود في بقية الأموال ، فيعمل فيها بمقتضى وصية الموصي . [ ص: 192 ] وذهب طائفة من الفقهاء في العتق إلى أنه يعتق من كل عبد ثلثه ، ويستسعون في الباقي ، واتباع قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق وأولى ، والقاسم نظر إلى أن في مشاركة الموصى له للورثة في المساكن كلها ضررا عليهم ، فيدفع عنهم هذا الضرر بجمع الوصية في مسكن واحد ، فإن الله قد شرط في الوصية عدم المضارة بقوله تعالى : غير مضار وصية من الله ( النساء : 12 ) فمن ضار في وصيته ، كان عمله مردودا عليه لمخالفته ما شرط الله في الوصية . وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى أنه لو وصى له بثلث مساكنه كلها ، ثم تلف ثلثا المساكن ، وبقي منها ثلث أنه يعطى كله للموصى له ، وهذا قول طائفة من أصحاب أبي حنيفة ، وحكي عن أبي يوسف ومحمد ، ووافقهم القاضي أبو يعلى من أصحابنا في خلافه ، وبنوا ذلك على أن المساكن المشتركة تقسم بين المشتركين فيها قسمة إجبار ، كما هو قول مالك ، وظاهر كلام ابن أبي موسى من أصحابنا ، والمشهور عند أصحابنا أن المساكن المتعددة لا تقسم قسمة إجبار وهو قول أبي حنيفة والشافعي ، وقد تأول بعض المالكية فتيا القاسم المذكورة في هذا الحديث على أن أحد الفريقين من الورثة أو الموصى لهم طلب قسمة المساكن فكانت متقاربة بحيث يضم بعضها إلى بعض في القسمة ، فإنه يجاب إلى قسمتها على قولهم ، وهذا التأويل بعيد مخالف للظاهر ، والله أعلم .



الخدمات العلمية