الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الجملة الثانية

[ في معرفة ما تجب فيه من الأموال ]

وأما ما تجب فيه الزكاة من الأموال : فإنهم اتفقوا منها على أشياء واختلفوا في أشياء .

وأما ما اتفقوا عليه فصنفان من المعدن : الذهب والفضة اللتين ليستا بحلي ، وثلاثة أصناف من الحيوان : الإبل والبقر والغنم ، وصنفان من الحبوب : الحنطة والشعير ، وصنفان من الثمر : التمر والزبيب ، وفي الزيت خلاف شاذ .

واختلفوا ؛ أما من الذهب ففي الحلي فقط ، وذلك أنه ذهب فقهاء الحجاز مالك والليث والشافعي إلى أنه لا زكاة فيه إذا أريد للزينة واللباس وقال أبو حنيفة وأصحابه : فيه الزكاة .

والسبب في اختلافهم : تردد شبهه بين العروض وبين التبر والفضة اللتين المقصود منهما المعاملة في جميع الأشياء ، فمن شبهه بالعروض التي المقصود منها المنافع أولا قال : ليس فيه زكاة ، ومن شبهه بالتبر والفضة التي المقصود منها المعاملة بها أولا قال : فيه الزكاة .

ولاختلافهم أيضا سبب آخر وهو اختلاف الآثار في ذلك ، وذلك أنه روى جابر عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " ليس في الحلي زكاة " . وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : " أن امرأة أتت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنة لها ، وفي يد ابنتها مسك من ذهب ، فقال لها : أتؤدين زكاة هذا ؟ قالت : لا ، قال : أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار ؟ فخلعتهما وألقتهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت : هما لله ورسوله " . والأثران ضعيفان ، وبخاصة حديث جابر .

ولكون السبب الأملك لاختلافهم تردد الحلي المتخذ للباس بين التبر والفضة اللذين المقصود منهما أولا المعاملة لا الانتفاع ، وبين العروض المقصود منها التي بالوضع الأول خلاف المقصود من التبر والفضة - أعني : الانتفاع بها لا المعاملة ، وأعني بالمعاملة : كونها ثمنا .

واختلف قول مالك في الحلي المتخذ للكراء : فمرة شبهه بالحلي المتخذ من اللباس ، ومرة شبهه بالتبر المتخذ للمعاملة .

وأما ما اختلفوا فيه من الحيوان : فمنه ما اختلفوا في نوعه ، ومنه ما اختلفوا في صنفه .

وأما ما اختلفوا في نوعه : فالخيل ، وذلك أن الجمهور على أن لا زكاة في الخيل ، فذهب أبو حنيفة إلى أنها إذا كانت سائمة، وقصد بها النسل، أن فيها الزكاة - أعني : إذا كانت ذكرانا وإناثا - .

[ ص: 211 ] والسبب في اختلافهم : معارضة القياس للفظ ، وما يظن من معارضة اللفظ للفظ فيها .

أما اللفظ الذي يقتضي أن لا زكاة فيها فقوله - عليه الصلاة والسلام - : " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة " .

وأما القياس الذي عارض هذا العموم : فهو أن الخيل السائمة حيوان مقصود به النماء والنسل ، فأشبه الإبل والبقر .

وأما اللفظ الذي يظن أنه معارض لذلك العموم فهو قوله - عليه الصلاة والسلام - وقد ذكر الخيل : " ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها " .

فذهب أبو حنيفة إلى أن حق الله هو الزكاة ، وذلك السائمة منها . قال القاضي : وأن يكون هذا اللفظ مجملا أحرى منه أن يكون عاما ، فيحتج به في الزكاة . وخالف أبا حنيفة في هذه المسألة صاحباه أبو يوسف ومحمد ، وصح عن عمر - رضي الله - عنه أنه كان يأخذ منها الصدقة ، فقيل إنه كان باختيار منهم .

وأما ما اختلفوا في صنفه : فهي السائمة من الإبل والبقر والغنم من غير السائمة منها ، فإن قوما أوجبوا الزكاة في هذه الأصناف سائمة كانت أو غير سائمة ، وبه قال الليث ومالك . وقال سائر فقهاء الأمصار : لا زكاة في غير السائمة من هذه الثلاثة أنواع .

وسبب اختلافهم : معارضة المطلق للمقيد ، ومعارضة القياس لعموم اللفظ .

أما المطلق : فقوله - عليه الصلاة والسلام - : " في أربعين شاة شاة " .

أما المقيد : فقوله - عليه الصلاة والسلام - : " في سائمة الغنم الزكاة " .

فمن غلب المطلق على المقيد قال : الزكاة في السائمة وغير السائمة ; ومن غلب المقيد قال : الزكاة في السائمة منها فقط .

ويشبه أن يقال : إن من سبب الخلاف في ذلك أيضا معارضة دليل الخطاب للعموم ، وذلك أن دليل الخطاب في قوله - عليه الصلاة والسلام - : " في سائمة الغنم الزكاة " يقتضي أن لا زكاة في غير السائمة ، وعموم قوله - عليه الصلاة والسلام - : " في أربعين شاة شاة " يقتضي أن السائمة في هذا بمنزلة غير السائمة ، لكن العموم أقوى من دليل الخطاب ، كما أن تغليب المقيد على المطلق أشهر من تغليب المطلق على المقيد . وذهب أبو محمد بن حزم إلى أن المطلق يقضي على المقيد ، وأن في الغنم سائمة وغير سائمة الزكاة ، وكذلك في الإبل لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة " . وأن البقر لما لم يثبت فيها أثر وجب أن يتمسك فيها بالإجماع ، وهو أن الزكاة في السائمة منها فقط ، فتكون التفرقة بين البقر وغيرها قولا ثالثا .

وأما القياس المعارض لعموم قوله - عليه الصلاة والسلام - فيها : " في أربعين شاة شاة " فهو أن السائمة هي التي المقصود منها النماء والربح ، وهو الموجود فيها أكثر ذلك ، والزكاة إنما هي فضلات الأموال ، والفضلات إنما توجد أكثر ذلك في الأموال السائمة ، ولذلك اشترط فيها الحول ، فمن خصص بهذا القياس ذلك العموم لم يوجب الزكاة في غير السائمة ، ومن لم يخصص ذلك ورأى أن العموم أقوى أوجب ذلك في الصنفين جميعا . فهذا هو ما اختلفوا فيه من الحيوان التي تجب فيه الزكاة .

[ ص: 212 ] وأجمعوا على أنه ليس فيما يخرج من الحيوان زكاة إلا العسل ، فإنهم اختلفوا فيه ، فالجمهور على أنه لا زكاة فيه ، وقال قوم : فيه الزكاة .

وسبب اختلافهم : اختلافهم في تصحيح الأثر الوارد في ذلك ، وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : " في كل عشرة أزق زق " خرجه الترمذي وغيره .

وأما ما اختلفوا فيه من النبات بعد اتفاقهم على الأصناف الأربعة التي ذكرناها : فهو جنس النبات الذي تجب فيه الزكاة ، فمنهم من لم ير الزكاة إلا في تلك الأربع فقط ، وبه قال ابن أبي ليلى وسفيان الثوري وابن المبارك . ومنهم من قال : الزكاة في جميع المدخر المقتات من النبات ، وهو قول مالك والشافعي . ومنهم من قال : الزكاة في كل ما تخرجه الأرض ما عدا الحشيش والحطب والقصب ، وهو أبو حنيفة .

وسبب الخلاف : إما بين من قصر الزكاة على الأصناف المجمع عليها ، وبين من عداها إلى المدخر المقتات ، فهو اختلافهم في تعلق الزكاة بهذه الأصناف الأربعة هل هو لعينها أو لعلة فيها - وهي الاقتيات - : فمن قال لعينها قصر الوجوب عليها ، ومن قال لعلة الاقتيات عدى الوجوب لجميع المقتات .

وسبب الخلاف بين من قصر الوجوب على المقتات وبين من عداه إلى جميع ما تخرجه الأرض إلا ما وقع عليه الإجماع من الحشيش والحطب والقصب هو معارضة القياس لعموم اللفظ :

أما اللفظ الذي يقتضي العموم فهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : " فيما سقت السماء العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر " . و ( ما ) بمعنى الذي ، و ( الذي ) من ألفاظ العموم ، وقوله تعالى : ( وهو الذي أنشأ جنات معروشات ) الآية . إلى قوله : ( وآتوا حقه يوم حصاده ) .

وأما القياس : فهو أن الزكاة إنما المقصود منها سد الخلة ، وذلك لا يكون غالبا إلا فيما هو قوت ، فمن خصص العموم بهذا القياس أسقط الزكاة مما عدا المقتات ، ومن غلب العموم أوجبها فيما عدا ذلك ، إلا ما أخرجه الإجماع .

والذين اتفقوا على المقتات اختلفوا في أشياء من قبل اختلافهم فيها ، هل هي مقتاتة أم ليست بمقتاتة ؟ وهل يقاس على ما اتفق عليه أو ليس يقاس ؟ مثل اختلاف مالك والشافعي في الزيتون ، فإن مالكا ذهب إلى وجوب الزكاة فيه ، ومنع ذلك الشافعي في قوله الأخير بمصر .

وسبب اختلافهم : هل هو قوت أم ليس بقوت ؟

ومن هذا الباب اختلاف أصحاب مالك في إيجاب الزكاة في التين أو لا إيجابها . وذهب بعضهم إلى أن الزكاة تجب في الثمار دون الخضر ، وهو قول ابن حبيب لقوله - سبحانه وتعالى - : ( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ) الآية ، ومن فرق في الآية بين الثمار والزيتون فلا وجه لقوله إلا وجه ضعيف .

واتفقوا على أن لا زكاة في العروض التي لم يقصد بها التجارة ، واختلفوا في : أتجب الزكاة فيما اتخذ منها للتجارة ؟ فذهب فقهاء الأمصار إلى وجوب ذلك ، ومنع ذلك أهل الظاهر .

والسبب في اختلافهم : اختلافهم في وجوب الزكاة بالقياس ، واختلافهم في تصحيح حديث سمرة بن جندب أنه قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع " . وفيما روي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " أد زكاة البر " .

[ ص: 213 ] وأما القياس الذي اعتمده الجمهور : فهو أن العروض المتخذة للتجارة مال مقصود به التنمية ، فأشبه الأجناس التي فيها الزكاة باتفاق - أعني : الحرث والماشية والذهب والفضة - . وزعم الطحاوي أن زكاة العروض ثابتة عن عمر وابن عمر ولا مخالف لهما من الصحابة ، وبعضهم يرى أن مثل هذا هو إجماع من الصحابة - أعني : إذا نقل عن واحد منهم قول ولم ينقل عن غيره خلافه - ، وفيه ضعف .

التالي السابق


الخدمات العلمية