ابن بلبل
الوزير الكبير ، الأوحد ، الأديب أبو الصقر ، إسماعيل بن بلبل الشيباني .
[ ص: 200 ]
أحد الشعراء والبلغاء والأجواد الممدحين .
وزر
للمعتمد في سنة خمس وستين ومائتين ، بعد
الحسن بن مخلد ثم عزل ، ثم وزر ، ثم عزل ، ثم وزر ثالثا عند القبض على
صاعد الوزير ، سنة اثنتين وسبعين .
وكان في رتبة كبار الملوك ، له راتب عظيم ، في اليوم مائة شاة ، وسبعون جديا ، وقنطار حلواء ، ولما ولي العهد
المعتضد ، قبض عليه وعذبه ، حتى هلك في سنة ثمان وسبعين ومائتين .
قال
عبيد الله بن أبي طاهر : وقع اختيار
الموفق لوزارته على
أبي الصقر ، فاستوزر رجلا قلما رئي مثله ، كفاية للمهم ، واستقلالا بالأمور ، وأمضى للتدبير في أصح سبله وأعودها بالنفع ، وأحوطها لأعمال السلطان ، مع رفع قدره للأدب وأهله ، وبذله لهم الكرائم ، مع الشجاعة وعلو الهمة ، وصغر الدنيا عنده ، إلا ما قدمه لمعاده ، مع سعة حلمه وكظمه ، وإفضاله على من أراد تلف نفسه .
قال
أبو علي التنوخي : حدثنا
أبو الحسين عبد الله بن أحمد ، حدثنا
سليمان بن الحسن قال : قال
أبو العباس بن الفرات : حضرت مجلس
ابن بلبل ، وقد جلس جلوسا عاما ، فدخل إليه المتظلمون ، فنظر في أمورهم ، فما انصرف أحد إلا بصلة ، أو ولاية ، أو قضاء حاجة ، أو إنصاف ، وبقي رجل في آخر المجلس يسأله تسييب إجارة قريته ، فقال : إن
الموفق أمر أن لا أسيب شيئا إلا عن أمره ، فسأخبره . قال : فراجعنا الرجل ، وقال : متى أخرني الوزير فسد حالي . فقال لكاتبه : اكتب حاجته في التذكرة . فولى الرجل غير
[ ص: 201 ] بعيد ، ثم رجع ، واستأذن ، ثم قال :
ليس في كل دولة وأوان تتهيا صنائع الإحسان فإذا أمكنتك يوما من الدهر
فبادر بها صروف الزمان
فقال لي : يا
أبا العباس : اكتب له بتسييب إجارة ضيعته الساعة . وأمر
الصيرفي أن يدفع إليه خمسمائة دينار .
ويقال : إن فتاه ناوله مدة بالقلم ، فنقطت علي دراعة مثمنة ، فجزع ، فقال : لا تجزع ، ثم أنشد :
إذا ما المسك طيب ريح قوم كفاني ذاك رائحة المداد
فما شيء بأحسن من ثياب على حافاتها حمم السواد
قلت : صدق ، وهي خال في ملبوس الوزراء .
قال
جحظة قلت :
بأبي الصقر علينا نعم الله جليله
ملك في عينه الدن يا لراجيه قليله
فأمر لي بمائتي دينار .
قال
الصولي : ولد
ابن بلبل سنة ثلاثين ومائتين ورأيته مرات ، فكان في نهاية الجمال ، وتمام القد والجسم ، فقبض عليه في صفر ، سنة ثمان وسبعين ، وقيد ، وألبس عباءة غمست في دبس ومرقة كوارع ، وأجلس في
[ ص: 202 ] مكان حار ، وعذب بأنواع العذاب ، فمات في جمادى الأولى . وقيل : رئي في النوم فقيل : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي بما لقيت ، لم يكن ليجمع علي عذاب الدنيا والآخرة .
وروى
أبو علي التنوخي ، عن أبيه ، عن جماعة من أهل الحضرة أخبروه : أن
المعتضد أمر
بابن بلبل ، فاتخذ له تغارا كبيرا ، وملئ اسفيذاجا وبله ، ثم جعل رأسه فيه إلى عنقه ، ومسك عليه حتى خمد ، فلم يزل روحه يخرج بالضراط من أسفله حتى مات .
ابْنُ بُلْبُلٍ
الْوَزِيرُ الْكَبِيرُ ، الْأَوْحَدُ ، الْأَدِيبُ أَبُو الصَّقْرِ ، إِسْمَاعِيلُ بْنُ بُلْبُلٍ الشَّيْبَانِيُّ .
[ ص: 200 ]
أَحَدُ الشُّعَرَاءِ وَالْبُلَغَاءِ وَالْأَجْوَادِ الْمُمَدَّحِينَ .
وَزَرَ
لِلْمُعْتَمِدِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ، بَعْدَ
الْحَسَنِ بْنِ مَخْلَدٍ ثُمَّ عُزِلَ ، ثُمَّ وَزَرَ ، ثُمَّ عُزِلَ ، ثُمَّ وَزَرَ ثَالِثًا عِنْدَ الْقَبْضِ عَلَى
صَاعِدٍ الْوَزِيرِ ، سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ .
وَكَانَ فِي رُتْبَةِ كِبَارِ الْمُلُوكِ ، لَهُ رَاتِبٌ عَظِيمٌ ، فِي الْيَوْمِ مِائَةُ شَاةٍ ، وَسَبْعُونَ جَدْيًا ، وَقِنْطَارُ حَلْوَاءَ ، وَلَمَّا وَلِيَ الْعَهْدَ
الْمُعْتَضِدُ ، قَبَضَ عَلَيْهِ وَعَذَّبَهُ ، حَتَّى هَلَكَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ .
قَالَ
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ : وَقَعَ اخْتِيَارُ
الْمُوَفَّقِ لِوَزَارَتِهِ عَلَى
أَبِي الصَّقْرِ ، فَاسْتَوْزَرَ رَجُلًا قَلَّمَا رُئِيَ مِثْلُهُ ، كِفَايَةً لِلْمُهِمِّ ، وَاسْتِقْلَالًا بِالْأُمُورِ ، وَأَمْضَى لِلتَّدْبِيرِ فِي أَصَحِّ سُبُلِهِ وَأَعْوَدِهَا بِالنَّفْعِ ، وَأَحْوَطِهَا لِأَعْمَالِ السُّلْطَانِ ، مَعَ رَفْعِ قَدْرِهِ لِلْأَدَبِ وَأَهْلِهِ ، وَبَذْلِهِ لَهُمُ الْكَرَائِمَ ، مَعَ الشَّجَاعَةِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ ، وَصِغَرِ الدُّنْيَا عِنْدَهُ ، إِلَّا مَا قَدَّمَهُ لِمَعَادِهِ ، مَعَ سَعَةِ حِلْمِهِ وَكَظْمِهِ ، وَإِفْضَالِهِ عَلَى مَنْ أَرَادَ تَلَفَ نَفْسِهِ .
قَالَ
أَبُو عَلِيٍّ التَّنُوخِيُّ : حَدَّثَنَا
أَبُو الْحُسَيْنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ ، حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ : قَالَ
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْفُرَاتِ : حَضَرْتُ مَجْلِسَ
ابْنِ بُلْبُلٍ ، وَقَدْ جَلَسَ جُلُوسًا عَامًّا ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ الْمُتَظَلِّمُونَ ، فَنَظَرَ فِي أُمُورِهِمْ ، فَمَا انْصَرَفَ أَحَدٌ إِلَّا بِصِلَةٍ ، أَوْ وِلَايَةٍ ، أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ ، أَوْ إِنْصَافٍ ، وَبَقِيَ رَجُلٌ فِي آخِرِ الْمَجْلِسِ يَسْأَلُهُ تَسْيِيبَ إِجَارَةِ قَرْيَتِهِ ، فَقَالَ : إِنَّ
الْمُوَفَّقَ أَمَرَ أَنْ لَا أَسُيِّبَ شَيْئًا إِلَّا عَنْ أَمْرِهِ ، فَسَأُخْبِرُهُ . قَالَ : فَرَاجَعَنَا الرَّجُلُ ، وَقَالَ : مَتَى أَخَّرَنِي الْوَزِيرُ فَسَدَ حَالِي . فَقَالَ لِكَاتِبِهِ : اكْتُبْ حَاجَتَهُ فِي التَّذْكِرَةِ . فَوَلَّى الرَّجُلَ غَيْرَ
[ ص: 201 ] بَعِيدٍ ، ثُمَّ رَجَعَ ، وَاسْتَأْذَنَ ، ثُمَّ قَالَ :
لَيْسَ فِي كُلِّ دَوْلَةٍ وَأَوَانِ تَتَهَيَّا صَنَائِعُ الْإِحْسَانِ فَإِذَا أَمْكَنَتْكَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ
فَبَادِرْ بِهَا صُرُوفَ الزَّمَانِ
فَقَالَ لِي : يَا
أَبَا الْعَبَّاسِ : اكْتُبْ لَهُ بِتَسْيِيبِ إِجَارَةِ ضَيْعَتِهِ السَّاعَةَ . وَأَمَرَ
الصَّيْرَفِيَّ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ .
وَيُقَالُ : إِنَّ فَتَاهُ نَاوَلَهُ مُدَّةً بِالْقَلَمِ ، فَنَقَطَتْ عَلَي دُرَّاعَةٍ مُثَمَّنَةٍ ، فَجَزِعَ ، فَقَالَ : لَا تَجْزَعْ ، ثُمَّ أَنْشَدَ :
إِذَا مَا الْمِسْكُ طَيِّبَ رِيحَ قَوْمٍ كَفَانِي ذَاكَ رَائِحَةُ الْمِدَادِ
فَمَا شَيْءٌ بِأَحْسَنَ مِنْ ثِيَابٍ عَلَى حَافَّاتِهَا حُمَمُ السَّوَادِ
قَلْتُ : صَدَقَ ، وَهِيَ خَالٌ فِي مَلْبُوسِ الْوُزَرَاءِ .
قَالَ
جَحْظَةُ قُلْتُ :
بِأَبِي الصَّقْرِ عَلَيْنَا نِعَمُ اللَّهِ جَلِيْلَهْ
مَلِكٌ فِي عَيْنِهِ الدُّنْ يَا لِرَاجِيهِ قَلِيلَهْ
فَأَمَرَ لِي بِمِائَتَيْ دِينَارٍ .
قَالَ
الصُّولِيُّ : وُلِدَ
ابْنُ بُلْبُلٍ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَرَأَيْتُهُ مَرَّاتٍ ، فَكَانَ فِي نِهَايَةِ الْجَمَالِ ، وَتَمَامِ الْقَدِّ وَالْجِسْمِ ، فَقُبِضَ عَلَيْهِ فِي صَفَرٍ ، سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعَيْنِ ، وَقُيِّدَ ، وَأُلْبِسَ عَبَاءَةً غُمِسَتْ فِي دِبْسٍ وَمَرَقَةِ كَوَارِعَ ، وَأُجْلِسَ فِي
[ ص: 202 ] مَكَانٍ حَارٍّ ، وَعُذِّبَ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ ، فَمَاتَ فِي جُمَادَى الْأُولَى . وَقِيلَ : رُئِيَ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ : مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ قَالَ : غَفَرَ لِي بِمَا لَقِيْتُ ، لَمْ يَكُنْ لِيَجْمَعَ عَلَيَّ عَذَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَرَوَى
أَبُو عَلِيٍّ التَّنُوخِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَضْرَةِ أَخْبَرُوهُ : أَنَّ
الْمُعْتَضِدَ أَمَرَ
بِابْنِ بُلْبُلٍ ، فَاتَّخَذَ لَهُ تَغَارًا كَبِيرًا ، وَمُلِئَ اسْفِيذَاجًا وَبَلَّهُ ، ثُمَّ جَعَلَ رَأْسَهُ فِيهِ إِلَى عُنُقِهِ ، وَمَسَكَ عَلَيْهِ حَتَّى خَمَدَ ، فَلَمْ يَزَلْ رُوحُهُ يَخْرُجُ بِالضُّرَاطِ مِنْ أَسْفَلِهِ حَتَّى مَاتَ .