الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( المسألة الرابعة ) قال مالك : إذا أعتق أحد عبيده له أن يختار واحدا منهم فيعينه للعتق بخلاف ما تقدم في الطلاق مع أنه في الصورتين أضاف الحكم للمشترك بين الأفراد وكما أن الطلاق محرم للوطء فالعتق أيضا محرم للوطء وأخذ المنافع بطريق القهر والاستيلاء والفرق حينئذ عسير والجواب أن الطلاق تحريم كما تقدم وأما العتق فهو قربة في جميع الأعصار والأمم .

[ ص: 159 ] فلو قال : لله علي عتق رقبة فقد أثبت التقرب بالعتق في القدر المشترك بين جميع الرقاب ويخرج عن العهدة بعتق رقبة واحدة إجماعا ولما أوجب الله تعالى رقبة في الكفارة كفت رقبة واحدة وإذا كان من باب التقرب فهو من باب الأمر وللثبوت في المشترك الذي يكفي فيه فرد بخلاف الطلاق فإنه تحريم كما تقدم ولقوله عليه السلام { أبغض الحلال إلى الله الطلاق } والبغضة إنما تصدق مع النهي دون الأمر فلذلك لم يعم في العتق وعم في الطلاق بناء على القواعد المذكورة والمسائل المفروضة وأما تحريم الوطء فهو تابع للعتق وأصله التقرب والأحكام إنما تثبت للألفاظ بناء على ما تقتضيه مطابقة دون ما تقتضيه التزاما فما من أمر إلا ويلزم النهي عن تركه والخبر عن العقاب فيه على تقدير الترك ومع ذلك فلا يقال فيه هو [ ص: 160 ] للتكرار بناء على النهي ولا يدخله التصديق والتكذيب بناء على الخبر اللازم بل إنما يعتبر ما يدل اللفظ عليه مطابقة فقط وكذلك النهي يلزمه الأمر بتركه والإخبار عن العقاب على تقدير الفعل ولا يقال هو للوجوب والمرة الواحدة بناء على الأمر ولا يدخله التصديق والتكذيب بناء على الخبر فكذلك الطلاق والعتق الطلاق تحريم ويلزمه وجوب الترك والعتق قربة ويلزمه التحريم فلا تعتبر اللوازم وإنما تعتبر الحقائق من حيث هي فتأمل الفرق وبهذه المسائل والمباحث يتجه الفرق بين ثبوت الحكم في المشترك وبين النهي عن المشترك وعليه مسائل كثيرة في أصول الفقه فتأمله في مواطنه ولا أطول بذكرها بل يكفي ما تقدم ذكره .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال : ( شهاب الدين المسألة الرابعة قال : مالك رحمه الله تعالى : إذا أعتق أحد عبيده له أن يختار واحدا منهم فيعينه للعتق بخلاف ما تقدم في الطلاق مع أنه في الصورتين أضاف الحكم للمشترك بين الأفراد ) قلت قد تبين أنه ما أضاف الحكم للمشترك بل أضافه لفرد غير معين .

قال : ( وكما أن الطلاق محرم للوطء فالعتق أيضا محرم للوطء وأخذ المنافع بطريق القهر والاستيلاء والفرق حينئذ عسير ) قلت : ما قاله في ذلك صحيح .

قال : ( والجواب أن الطلاق تحريم ما تقدم وأما العتق فهو قربة ) قلت : على تسليم أن الطلاق تحريم والعتق قربة فكون العتق قربة [ ص: 159 ] لا يمنعه أن يكون تحريما بل هو تحريم للتصرف في المملوك فلا فرق .

قال : ( فلو قال : لله علي عتق رقبة فقد أثبت التقرب بالعتق في القدر المشترك بين جميع الرقاب ) قلت : لم يثبت التقرب في القدر المشترك بالعتق بل أثبته في فرد مما فيه المعنى المشترك فإن أراد بالقدر المشترك واحدا مما فيه الحقيقة فمراده صحيح وإلا فلا .

قال : ( ويخرج عن العهدة برقبة واحدة إجماعا ولما أوجب الله تعالى رقبة في الكفارة كفت رقبة واحدة ) قلت : يحق أن يخرج عن العهدة برقبة واحدة لأنه ما أوجب إلا واحدة ولو علق الوجوب بالمعنى المشترك لما ساغ الخروج عن العهدة إلا بجميع ما فيه ذلك المعنى من الأفراد .

قال : ( وإذا كان من باب التقرب فهو من باب الأمر والثبوت في المشترك الذي يكفي فيه فرد ) قلت : لم يكف فيه فرد لأنه من باب الأمر لكن كفى فيه لأنه من باب الأمر المعلق بمطلق وهو الفرد غير المعين .

قال : ( بخلاف الطلاق فإنه تحريم كما تقدم ولقوله عليه السلام { أبغض المباح إلى الله الطلاق } والبغضة إنما تصدق مع النهي دون الأمر فلذلك لم يعم في العتق وعم في الطلاق بناء على القواعد المذكورة والمسائل المفروضة ) قلت : قد تقدم أن العتق أيضا تحريم وما استدل به من قوله عليه السلام { أبغض المباح إلى الله الطلاق } ليس فيه دليل لأنه قد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة الطلاق فكيف يكون محرما أو مكروها وقوله إن البغضة إنما تصدق مع النهي دون الأمر غير مسلم بل تصدق مع الأمر وتحمل في حق الله تعالى على مرجوحية الأمر الذي علق به البغضة وما أشار إليه من القواعد قد تبين إبطال بعضها فلا يصح ما بنى عليها .

قال : ( وأما تحريم الوطء فهو تابع للعتق وأصله التقرب ) قلت : وكذلك تحريم الوطء في الزوجة تابع للطلاق الذي أصله الإباحة بنص الشارع قال : ( والأحكام إنما تثبت للألفاظ بناء على ما تقتضيه مطابقة دون ما تقتضيه التزاما ) قلت : ذلك مسلم ومشترك الإلزام .

قال : ( فما من أمر إلا ويلزمه النهي عن تركه والخبر عن العقاب فيه على تقدير الترك ومع ذلك فلا يقال فيه هو . [ ص: 160 ] للتكرار بناء على النهي ولا يدخله التصديق والتكذيب بناء على الخبر اللازم بل إنما يعتبر ما يدل اللفظ عليه مطابقة فقط وكذلك النهي يلزمه الأمر بتركه والإخبار عن العقاب على تقدير الفعل ولا يقال هو للوجوب والمرة الواحدة بناء على الأمر ولا يدخله التصديق والتكذيب بناء على الخبر فكذلك الطلاق والعتق الطلاق تحريم ويلزمه وجوب الترك والعتق قربة ويلزمه التحريم فلا تعتبر اللوازم وإنما تعتبر الحقائق من حيث هي فتأمل الفرق وبهذه المسائل والمباحث يتجه الفرق بين ثبوت الحكم في المشترك وبين النهي عن المشترك وعليه مسائل كثيرة في أصول الفقه فتأمله في مواطنه ولا أطول بذكرها بل يكفي ما تقدم ذكره ) قلت : أما قوله ما من أمر إلا ويلزمه النهي عن تركه فمسلم وأما قوله والخبر عن العقاب فيه على تقدير الترك فغير مسلم فإنه لا يخلو أن يريد بالتقدير ما يرجع إلى الباري تعالى أو ما يرجع إلينا فإن أراد الأول فهو محال على الله تعالى فإنه لا يقوم بذاته تقدير أمر من الأمور بالمعنى الذي يقال ذلك في حقنا بل لا يقوم بذاته إلا العلم بوجود ذلك الأمر أو بعدمه وإن أراد الثاني فهو محال أيضا لأنه إذا كان سبب قيام ذلك الخبر بذاته تعالى تقديرنا نحن ذلك الأمر وتقديرنا حادث فيلزم حدوث ذلك الخبر لضرورة سبق السبب للمسبب أو معيته .

وأما قوله فكذلك الطلاق والعتق الطلاق تحريم ويلزمه وجوب الترك والعتق قربة ويلزمه التحريم فلا تعتبر اللوازم وإنما تعتبر الحقائق من حيث هي قلت : لقائل أن يقول : ليس الطلاق تحريما أما طلاق السنة فليس تحريما وكذلك غيره لأن التحريم إنما هو المؤبد أما غير المؤبد فلا ونقول : ليس الطلاق بنفسه تحريما ولكن الطلاق حل لعقد النكاح وحل عقد النكاح يستلزم صيرورة الزوجة أجنبية وصيرورتها أجنبية يستلزم تحريمها كما أن العتق رفع الملك عن المملوكة ورفع الملك يصيرها أجنبية مالكة لنفسها ويستلزم ذلك تحريمها فلا فرق وبالجملة فكلامه في هذا الفرق ليس بالقوي ولا الواضح والله أعلم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة الرابعة ) قال مالك إذا أعتق أحد عبيده له أن يختار واحدا منهم فيعينه للعتق نظرا لكون أحد الأمور عبارة عن واحد غير معين منها فلا يقتضي العموم كما تقدم والإجماع على أن حكم العموم لا يثبت إلا بثبوت مقتضيه ولم ينظر هنا للاحتياط للفروج مع أن الحق أنه لا فرق بين العتق والطلاق لأنا وإن سلمنا أن الطلاق تحريم للوطء وقد ثبت له البغضة التي لا تصدق إلا مع النهي دون الأمر بقوله عليه الصلاة والسلام { أبغض الحلال إلى الله الطلاق } وأن العتق قربة في جميع الإعصار والأمم إلا أن كون العتق قربة لا يمنعه أن يكون تحريما للوطء وأخذ المنافع بطريق القهر والاستيلاء على أنا لا نسلم أن البغضة في الحديث لا تصدق إلا مع النهي حتى يتم الاستدلال بالحديث على أن الطلاق منهي عنه لا مأمور به بخلاف العتق لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد صرح بإباحة الطلاق فكيف يكون محرما أو مكروها وحينئذ فتصدق البغضة مع الأمر وتحمل في حق الله تعالى على مرجوحية الأمر الذي علق به البغضة وأما دعوى أن الطلاق تحريم ويلزمه وجوب الترك والعتق قربة ويلزمه التحريم والأحكام إنما تثبت للألفاظ بناء على ما تقتضيه مطابقة دون ما تقتضيه التزاما ألا ترى أن كل أمر يلزمه النهي عن تركه ومع ذلك لا يقال فيه هو للتحريم بناء على النهي وأن كل نهي يلزمه الأمر بتركه ومع ذلك لا يقال فيه هو للوجوب بناء على الأمر فلا تعتبر اللوازم وإنما تعتبر الحقائق من حيث هي فمدفوعة بأن الطلاق بنفسه ليس بتحريم لأن التحريم إنما هو المؤبد أما غير المؤبد فلا .

وإنما هو حل لعقد النكاح وحل عقد النكاح يستلزم صيرورة الزوجة أجنبية وصيرورتها أجنبية يستلزم تحريمها كما أن العتق رفع للملك عن المملوكة ورفع الملك يصيرها أجنبية مالكة لنفسها ويستلزم ذلك تحريمهما فلا فرق قلت : نعم قد يقال : الوجه في نظر مالك في الطلاق للاحتياط للفروج وإن لزمه مخالفة الإجماع وفي العتق لما اقتضاه الإجماع وإن لزمه مخالفة الاحتياط للفروج هو أن استلزام الطلاق للتحريم لخصوص الوطء مطرد إذ لا يكون غير مستلزم له بخلاف العتق فافهم والله أعلم




الخدمات العلمية