الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 2 ] كتاب أسرار الزكاة [ ص: 2 ]

التالي السابق


[ ص: 2 ] بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما، الحمد لله الذي أنزل على عبده كتابا مفصلا للأحكام، مبينا لإجمالها الذي يقع فيه الإيهام، آمرا فيه بإقامة الصلاة، مردفا لها بإيتاء الزكاة تكميلا لشعائر الإسلام، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على هذا النبي الكريم الذي اصطفاه من بين الأنام، وأيده بالمعجزات الباهرة الأعلام، وزكاه وطهره وقدسه وجعله لبنة التمام، ووصف دينه بالكمال ونعمته عليه بالتمام، فهو السيد المرتضى المجتبى، الإمام السند المنتقى، قائد الغر المحجلين في يوم الزحام، صلى الله عليه وعلى آله، الطاهر بن المطهرين الأعلام، وأصحابه الزاكين المزكين الكرام، وتابعيهم بإحسان إلى يوم القيام، ما دارت الليالي بالأيام، وسلم تسليما كثيرا كثيرا، (وبعد) .

فهذا شرح (كتاب أسرار الزكاة) ، وهو الخامس من الربع الأول من كتاب "الإحياء" لحجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي، قدس الله روحه وأوصل إلينا بره وفتوحه، يوضح مشكل ألفاظه ومعانيه، ويحرر مباني مسائله لمعانيه، توضيحا يكشف اللبس عن مخدرات الأسرار، وتحريرا يجلي الخفاء عن وجوه موارد الاعتبار، حتى يقرب ما بعد منه للأفهام، ويتضح سبيله للراغبين فيه بالاهتمام، مستمدا من فيض الفياض بما أفاض، مستجيرا بحول الله وقوته في تزكية النفوس من العلل والأغراض، إنه ولي كل أمداد، والملهم لما يرشد إلى السداد، وهو حسبي وعليه الاعتماد، وإليه الاستناد .

ولنقدم قبل الخوض مقدمة لطيفة تشتمل على فوائد الكتاب قبل الدخول من الباب، الأولى الزكاة، إما من الزكاء بالمد بمعنى النماء والزيادة، يقال: كالزرع يزكو زكاء وزكوا كقعود، أي: نما وزاد، وكذلك زكت الأرض، وأزكى الله المال وزكاه تزكية: أنماه وزاده، أو من معنى الطهارة كما في قوله تعالى: قد أفلح من زكاها أي: طهرها من المعاصي والشرك، وكذا قوله تعالى: قد أفلح من تزكى أي: تطهر، وزكى الرجل ماله تزكية، والزكاة اسم [ ص: 3 ] منه سمي القدر المخرج من المال زكاة على المعنى الأول; لأن المال يزيد بها ويكثر لأنها شكر المال; إذ شكر كل شيء بحسبه، وقد قال تعالى: لئن شكرتم لأزيدنكم وعلى المعنى الثاني; لأن الزكاة مطهرة، قال الله تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وقال الزمخشري في قوله تعالى: قد أفلح من زكاها التزكية الإنماء والإعلاء بالتقوى، وتبعه المولى أبو السعود، ولفظ البيضاوي: زكاها: أنماها بالعلم والعمل .

وقال ابن الهمام: في الاستشهاد بهذه الآية نظر; إذ المصدر فيه جاء على زكاء بالمد; فيجوز كون الفعل المذكور منه لا من الزكاة قبل كونه منها يتوقف على ثبوت عين لفظ الزكاة في معنى النماءة .

وقد بحث بعض أصحابنا المتأخرين في هذا النظر، وقال: قد نص صاحب ضياء الحلوم على ورود عين لفظ الزكاة في معنى النماء، فجاز كون الفعل المذكور مأخوذا من الزكاة كما جاز كونه مأخوذا من الزكاء .



الثانية: العبادات أنواع ثلاثة: بدني محض كالصلاة والصوم، ومالي محض كالزكاة، ومركب منهما كالحج. فمن راعى هذا ذكر الصوم عقب الصلاة بهذه المناسبة، ومن راعى سياق الكتاب العزيز في اقترانها بالصلاة في نحو اثنين وثمانين موضعا منه ذكر الزكاة عقب الصلاة وترك القياس واختار المصنف ذلك .

وقد تقدم شيء من ذلك في خطبة كتاب العلم، وكانت فرضية الزكاة في السنة التي فرض فيها الصوم، وهي الثانية من الهجرة، وقيل: قبلها. وفي المحيط قال أبو الحسن الكرخي أنها على الفور، وفي المنتقى: إذا ترك حتى حال عليه حول فقد أساء وأثم، وعن محمد: إذا لم يؤد الزكاة لا تقبل شهادته، وذكر ابن شجاع عن أصحابنا أنها على التراخي، وهكذا ذكر أبو بكر الجصاص، وفي التحقيق أن الأمر المطلق عن الوقت، وهو الأمر الذي لم يتعلق أداء المأمور به فيه بوقت محدود على وجه يفوت الأداء بفوته؛ كالأمر بالزكاة وصدقة الفطر والعشر والكفارات وقضاء رمضان والنذور المطلقة، ذهب أكثر أصحابنا والشافعي وعامة المتكلمين إلى أنه التراخي، وذهب بعض أصحابنا ومنهم أبو الحسن الكرخي وبعض أصحاب الشافعي -منهم أبو بكر الصيرفي وأبو حامد الغزالي- إلى أنه على الفور، وكذا كل من قال بالتكرار يلزمه الفور. معنى يجب على الفور أنه يجب تعجيل الفعل في أول أوقات الإمكان، ومعنى يجب على التراخي أنه يجوز تأخيره عن أول أوقات الإمكان; لأنه يجب تأخيره بحيث لو أتى به فيه لا يعتد به; لأنه ليس مذهبا لأحد، كذا في شرح النقاية للتقي الشمني.



الثالثة: لما كان موجب الزكاة وجود المال تعين معرفة الوجوه التي منها يحصل. اعلم أن المال من الخيرات المتوسطة; لأنه كما يكون سببا للخير يكون سببا للشر، والناس خاص وعام; فالخاص يفضلك بما يحسن والعام بما يملك، واكتسابه من الوجه الذي ينبغي صعب، وتفريقه سهل، ومن رام اكتسابه من وجهه صعب عليه; فالمكاسب الجميلة قليلة عند الحر العادل، ومن رضي بكسبه من حيث اتفق قد يسهل عليه، والفاضل ينقبض عن اقتناء المال، ويسترسل في إنفاقه، ولا يريده لذاته بل لاكتساب المحمدة، وغير الفاضل يسترسل في اقتنائه وينقبض عن إنفاقه ويطلبه لذاته لا لادخار الفضيلة به .

والمال يحصل من وجهين; أحدهما: منسوب إلى الجد المحض، والبخت الصرف، من غير اكتساب من صاحبه؛ كمن ورث مالا، أو وجد كنزا، أو قيض له من أولاه شيئا، والثاني: أن يكتسب الإنسان كمن يشتغل بتجارة أو صناعة فيدخر منها مالا، وهذا الضرب أيضا لا يستغنى فيه عن الجد; فحظ الجد في المال أكثر من حظ الكد، بخلاف الأخلاق والأعمال الأخروية التي حظ الكد فيها أكثر .

وقد نبه الله سبحانه على ذلك بقوله: من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد الآية، إلى قوله: مشكورا ; فاشترط في العاجلة مشيئته للمعطي وإرادته للمعطى له، ولم يشترط السعي، واشترط في الآخرة السعي لها مع الإيمان، ولم يشترط إرادته تعالى ومشيئته، ولو كان ذلك لا يعرى منهما; فحق العاقل أن يعنى بما إذا طلبه ناله، وإذا ناله لم يخف زواله، ويقلل المبالاة بما إذا قدر له أتاه، طلبه أو لم يطلبه .



الرابعة: في سبب إخفاق العاقل وإنجاح الجاهل، اعلم أن الحكمة تقتضي أن يكون العاقل الحكيم في أكثر الأحوال مقللا; وذلك لأنه يأخذ كما يحب من الوجه الذي يحب [ ص: 4 ] ثم إذا ناله لم يدخره عن مكرمة تعن له، والجاهل يسهل عليه الجمع من حيث لا يبالي فيما يتناوله بارتكاب محظور واستباحة محجور، واستنزال الناس عنها بالمكر، ومساعدتهم على ارتكاب الشر؛ طمعا في نفعهم، وكثيرا ما نرى ما هو من جملة الموصوفين بقوله تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق شاكين لخبثهم; فبعض يغضب على الفلك، وبعض يغضب على القدر، وبعض يتجاوز الأسباب فيعاتب الله; وذلك لحرصهم على ارتكاب المقابح، وجهلهم بما يفيض الله لعباده من المصالح .



الخامسة: اعلم أن الله تعالى أوجد أعراض الدنيا بلغة، فاتخذها الناس عقدة، وصير الدنيا مرتحلا وممرا فصيروها موطنا ومقرا، ومن وجه منحة منحت للإنسان لينتفع بها مدة ويذرها لينتفع بها غيره من بعده، ومن وجه وديعة في يده رخص له استعمالها والانتفاع بها بعد أن لا يسرف فيها، لكن الإنسان لجهله ونسيانه لما عهد إليه اغتر بها وظن أن جعلت له هبة مؤبدة، فركن إليها واعتمد عليها، ولم يؤد أمانة الله فيها لما طولب بردها تضرر منه وضجر، فلم ينزع عنها إلا بنزع روحه أو كسر يده، وبعضهم -وهم الأقلون- حفظوا ما عهد إليهم؛ فتناولوها تناول العارية والمنحة والوديعة، فأدوا فيها الأمانة وعلموا أنها مسترجعة، فلما استردت منهم لم يغضبوا ولم يجزعوا، وردوها شاكرين لما نالوه، ومشكورين لأداء الأمانة فيها، وقد ذكر بعض الحكماء مثلا، فقال: إن مثل الدنيا فيما أعطوه من أعراض الدنيا مثل رجل دعا قومه إلى داره، فأخذ طبق ذهب عليه بخور ورياحين، وكان إذا دخل أحدهم تلقاه به ورفعه إليه لا ليتملكه بل ليشمه ويدفعه إلى من يجيء بعده، فمن كان جاهلا برسومه ظن أنه قد وهب له فيضجر إذا استرجع منه، ومن كان عارفا برسومه أخذه بشكر ورده بانشراح صدر .



السادسة: في عقوبة مانع الزكاة: اعلم أن لله عز وجل عقوبتين في معاقبة من تناول مالا لا يجوز له تناوله من الدنيا أو يتناوله من الوجه الذي يجوز لكنه لم يوف حقه، إحداهما ظاهرة وذلك عقوبة من منع حق الله من الزكاة أو غصب مالا مجاهرة أو سرقه خفية; فإن عقوبات ذلك ظاهرة أمر السلطان بإقامتها، والثانية خفية عن البصر مدركة ببصائر أولي الألباب; كعقوبة من تناول مالا من حيث لا يجوز تناوله أو منعه من حيث لا يجوز منعه لا على وجه فيه حد أمر السلطان بإقامته، فهذا عقوبته ما روي: أي امرئ سكن قلبه حب الدنيا بلي بثلاث: شغل لا يبلغ مداه، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لا يدرك منتهاه. وما روي: من كانت الدنيا أكبر همه شتت الله أمره وجعل فقره بين عينيه، ولم يبال الله بأي واد من الدنيا هلك. وعلى ذلك قوله تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ، وليس يعني قلة المعيشة، وإنما يعني ما يقاسي فيها من الغموم والهموم التي تكدر العيش عليه .



السابعة: قول المصنف: كتاب أسرار الزكاة مشعر بربط الحكم المشروع بالاعتبار الباطني لكمال الثناء، وكذا الحال فيما سبق آنفا؛ كتاب أسرار الطهارة، كتاب أسرار الصلاة، وفيما يجيء بعد كتاب أسرار الصيام كتاب أسرار الحج; فإنه ما يظهر في العالم صورة من أحد من خلق الله بأي سبب ظهرت من أشكال وغيرها إلا ولتلك العين الحادثة في الحس روح يصحب تلك الصورة والشكل الذي ظهر; فإن الله هو الموجد على الحقيقة لتلك الصورة بنيابة كون من أكوانه؛ من ملك أو جن أو إنس أو حيوان أو نبات أو جماد، وهذه هي الأسباب كلها لوجود تلك الصورة في الحس، فلما علمنا أن الله قد ربط بكل صورة حسية روحا معنويا بتوجه إلهي عن حكم اسم رباني; لهذا اعتبرنا خطاب الشارع في الباطن على حكم ما هو في الظاهر قدما بقدم; لأن الظاهر منه صورته الحسية، والروح الإلهي المعنوي في تلك الصورة هو الذي نسميه الاعتبار في الباطن، من عبرت الوادي إذا جزته، وهو قوله تعالى: إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار وقال تعالى: فاعتبروا يا أولي الأبصار أي: جوزوا مما رأيتموه من الصور بأبصاركم إلى ما تعطيه تلك الصور من المعاني والأرواح في بواطنكم فتدركونها ببصائركم، فأمر وحث على الاعتبار.

قال الشيخ الأكبر قدس سره: هذا باب أغفله العلماء ولا سيما أهل الجمود على الظاهر، فليس عندهم من [ ص: 5 ] الاعتبار إلا التعجب، فلا فرق بين عقولهم وعقول الصبيان الصغار، فهؤلاء ما عبروا قط من تلك الصورة الظاهرة كما أمرهم الله، والله يرزقنا الإصابة في النطق والإخبار عما استهديناه وعلمناه من الحق علم كشف وشهود وذوق; فإن العبارة عن ذلك فتح من الله لتأتي بحكم المطابقة، وكم من شخص لا يقدر أن يعبر عما في نفسه، وكم من شخص تفسد عبارته صحة ما في نفسه، والله الموفق لا رب غيره .




الخدمات العلمية