الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 379 ] حلف لا يرجع الدار ثم رجع لشيء نسيه لا يحنث .

حلف ليخرجن ساكن داره اليوم والساكن ظالم فإن لم يمكنه إخراجه فاليمين على التلفظ باللسان [ ص: 380 ] إن لم تجيئي بفلان أو إن لم تردي ثوبي الساعة فأنت طالق فجاء فلان من جانب آخر بنفسه وأخذ الثوب قبل دفعها لا يحنث ، كذا إن لم أدفع إليك الدينار الذي علي إلى رأس الشهر فكذا فأبرأته قبل رأس الشهر بطل اليمين .

بقي ما يكتب في التعاليق متى نقلها أو تزوج عليها وأبرأته من كذا أو من باقي صداقها ، فلو دفع لها الكل هل تبطل ؟ الظاهر لا لتصريحهم بصحة براءة الإسقاط والرجوع بما دفعه

التالي السابق


( قوله حلف لا يرجع إلخ ) في الخانية رجل خرج مع الولي فحلف أن لا يرجع إلا بإذن الوالي فسقط من الحالف شيء فرجع لأجله لا يحنث لأن هذا الرجوع مستثنى من اليمين عادة ا هـ أي لأن المحلوف عليه هو الرجوع بمعنى ترك الذهاب معه ، فإذا رجع لحاجة على نية العود لم يتحقق المحلوف عليه .

مطلب اليمين تتخصص بدلالة العادة والعرف

والحاصل أن هذه المسألة والتي قبلها تخصصت اليمين فيهما بدلالة العادة والعادة مخصصة كما تقرر في كتب الأصول . ونظير ذلك ما في الخانية أيضا : رجل حلف رجلا أن يطيعه في كل ما يأمره وينهاه عنه ثم نهاه عن جماع امرأته لا يحنث إن لم يكن هناك سبب يدل عليه لأن الناس لا يريدون بهذا النهي عن جماع امرأته عادة ، كما لا يراد به النهي عن الأكل والشرب . وفيها أيضا : اتهمته امرأته بجارية فحلف لا يمسها انصرف إلى المس الذي تكره المرأة وكذا لو قال إن وضعت يدي على جاريتي فهي حرة فضربها ووضع يده عليها لا يحنث إن كان يمينه لأجل المرأة ولأمر يدل على أنه يريد الوضع لغير الضرب . ا هـ .

قلت : ومثله فيما يظهر ما ذكره بعض محققي الحنابلة فيمن قال لزوجته إن قلت لي كلاما ولم أقل لك مثله فأنت طالق ، فقالت له أنت طالق ولم يقل لها مثله من أنها لا تطلق لأن كلام الزوج مخصص بما كان سبا أو دعاء أو نحوه إذ ليس مراده أنها لو قالت اشتر لي ثوبا أن يقول لها مثله بل أراد الكلام الذي كان سبب حلفه . ا هـ . ( قوله فاليمين على التلفظ باللسان ) كذا في القنية والحاوي للزاهدي معزيا للوبري ، ولعله محمول على ما إذا كان الحالف عالما وقت الحلف بأنه لا يمكنه إخراجه بالفعل ، فينصرف إلى التلفظ بقوله اخرج من داري ، ولو حمل على اليمين المؤقتة كما في لأشربن ماء هذا الكوز اليوم ولا ماء فيه لكان ينبغي عدم الحنث بمضي اليوم وإن لم يقل له اخرج ولعله لم يحمل عليها لإمكان صرف اليمين إلى التلفظ المذكور بقرينة العجز عن الحقيقة .

مطلب لا يدع فلانا يسكن في هذه الدار

كما لو حلف لا يدع فلانا يسكن في هذه الدار ، فقد قالوا : إن كانت الدار ملكا للحالف فالمنع بالقول والفعل وإلا فبالقول أي لأنه لا يملك منعه بالفعل ; ومثله ما لو كان آجره الدار ، فقد صرحوا بأنه يبر بقوله اخرج من داري . ووجهه أن المستأجر ملك المنافع فصار الحالف كالأجنبي الذي لا ملك له في الدار . وأما ما سيذكره الشارح آخر كتاب الأيمان حيث قال لا يدخل فلان داره فيمينه على النهي إن لم يملك منعه وإلا فعلى النهي والمنع جميعا ، فهو مخالف لما رأيته في كثير من الكتب من ذكر هذا التفصيل في حلفه لا يدعه أو لا يتركه .

ففي الولوالجية قال ; إن أدخلت فلانا بيتي أو قال إن دخل فلان بيتي أو قال إن تركت فلانا يدخل بيتي فامرأته طالق ، فاليمين في الأول على أن يدخل بأمره لأنه متى دخل بأمره فقد أدخله ، وفي الثاني على الدخول [ ص: 380 ] أمر الحالف أو لم يأمر علم أو لم يعلم لأنه وجد الدخول ، وفي الثالث على الدخول بعلم الحالف لأن شرط الحنث الترك للدخول ، فمتى علم ولم يمنع فقد ترك ا هـ ومثله في أيمان البحر عن المحيط وغيره ، فتعليله للثاني بأنه وجد الدخول صريح في انعقاد اليمين على نفس فعل الغير ، ولذا قال الشارح هناك قال لغيره : والله لتفعلن كذا فهو حالف ، فإذا لم يفعله المخاطب حنث إلخ فعلم أنه في حلفه لا يدخل فلان داره يحنث بدخوله وإن نهاه الحالف لأنه وجد شرط الحنث بخلاف لا يتركه يدخل فإن فيه التفصيل المار ; ولو جرى هذا التفصيل في الحلف على فعل الغير لزم أنه لو قال إن دخل فلان داري فأنت طالق أنه لو نهاه عن الدخول ثم دخل لا يقع الطلاق ، وأنه لو قال والله لتفعلن كذا وأمره بالفعل فلم يفعل لا يحنث . وقد يجاب بحمل قول الشاعر في الأيمان فيمينه على النهي إن لم يملك منعه على ما ذكره هنا من كون المحلوف عليه ظالما بقرينة أن فرض المسألة في الحلف على دار الحالف فلا يمكن حمله على التفصيل المذكور فيما إذا كانت الدار ملك الحالف أو ملك غيره وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة تحرير لهذا المحل في الأيمان ، وإنما تعرضنا لذكر ذلك هنا لأن بعض محشي الأشباه اغتر بعبارة الشارح المذكورة في الأيمان فأفتى بعدم الحنث بعدم الدخول في قوله لا يدخل فلان داري ، وهو ما اشتهر على ألسنة العوام من أنه لا يحنث في الحلف على ما لا يملكه وليس على إطلاقه فتنبه لذلك ( قوله إن لم تجيئي ) بفعل المؤنثة المخاطبة ليناسب قوله فأنت طالق ح ( قوله الساعة ) راجع إليهما ، وقيد بها لأن المطلقة لا يحنث فيها إلا باليأس بنحو موت الحالف أو ضياع الثوب ط ( قوله لا يحنث ) لعدم إمكان البر ، وقيل يحنث فيهما ط عن البحر .

قلت : وفي الخانية قال لامرأته : إن لم تجيئي بمتاع كذا غدا فأنت طالق فبعثت المرأة به على يد إنسان فإن كان نوى وصول المتاع إليه غدا لا يحنث لأنه نوى محتمل لفظه ، وإن لم ينو شيئا أو نوى حملها بنفسها حنث ولا يكون اليمين على الوصول إلا بالنية ا هـ ( قوله بطل اليمين ) لأنه بعد إبرائها منه لم يبق لها عليه فلا يمكن دفعه ( قوله ما يكتب في التعليق ) أي ما يكتبه الزوج على نفسه عند خوف المرأة من نقلها أو تزوجه عليها ( قوله متى نقلها إلخ ) جواب متى محذوف أي فهي طالق ، وقوله وأبرأته بالواو العاطفة على قوله نقلها أو تزوج عليها ( قوله فلو دفع لها الكل ) أي كل الدين المعبر عنه بقوله من كذا أو كل باقي الصداق ( قوله هل تبطل ) أي اليمين المذكور ، ووجه التوقف أن الطلاق معلق على شرطين وهما النقل والإبراء أو التزوج والإبراء فإذا وجد أحدهما فلا بد من وجود الآخر وهو الإبراء مع أن المبرأ عنه قد دفعه لها ( قوله لتصريحهم إلخ ) قال في الأشباه : الإبراء بعد قضاء الدين صحيح لأن الساقط بالقضاء المطالبة لا أصل الدين فيرجع المديون بما أداه إذا أبرأه براءة إسقاط وإذا أبرأه براءة استيفاء فلا رجوع .

واختلفوا فيما إذا أطلقها . وعلى هذا لو علق طلاقها بإبرائها عن المهر ثم دفعه لها لا يبطل التعليق ، فإذا أبرأته براءة إسقاط وقع ورجع عليها . ا هـ .

والحاصل أن الدين وصف في ذمة المديون والدين يقضي بمثله أي إذا أوفى ما عليه لغريمه ثبت له على غريمه مثل ما لغريمه عليه فتسقط المطالبة ، فإذا أبرأه غريمه براءة إسقاط سقط ما بذمته لغريمه فتثبت له مطالبة غريمه [ ص: 381 ] بما أوفاه ، فقد صحت البراءة بعد الدفع ، فلا تبطل اليمين بل يتوقف الوقوع على البراءة ، بخلاف ما إذا أبرأه براءة استيفاء لأنها بمعنى إقراره باستيفاء دينه وبأنه لا مطالبة له عليه فلا يرجع عليه المديون لعدم سقوط ما بذمته بذلك . وأما لو أطلق فينبغي في زماننا حملها على الاستيفاء لعدم فهمهم غيرها




الخدمات العلمية